جولة في سالزبورغ المتهادية بين الحاضرة الصغيرة والبلدة الكبيرة

من مناجم الملح إلى أحلى قالب شوكولاته

جولة وسط المدينة بعربة تجرها الخيول
جولة وسط المدينة بعربة تجرها الخيول
TT

جولة في سالزبورغ المتهادية بين الحاضرة الصغيرة والبلدة الكبيرة

جولة وسط المدينة بعربة تجرها الخيول
جولة وسط المدينة بعربة تجرها الخيول

إن كنت من بين ملايين المعجبين بالشريط السينمائي الخالد «لحن السعادة» الذي أخرجه الأميركي روبرت وايز، وقامت فيه بدور البطولة جولي اندروز، ونال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، فلديك ما يكفي ويزيد من الدوافع لزيارة المدينة الساحرة التي صُوِّر فيها هذا الفيلم الموسيقي الذي راجت للنمسا من بعده صورة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.
وإذا كنت من عشّاق الموسيقى الكلاسيكية وعمالقتها، فلا بد لك من زيارة إلى مسقط رأس العبقري موزارت ومطارح طفولته الأولى، حيث تفتّقت مواهبه الموسيقية وهو ما زال في الخامسة من عمره قبل أن تستحوذ سيمفونياته على إعجاب الأوساط الارستقراطية والملكية في أوروبا.
لكن يكفي أن تكون من هواة الطبيعة الخلّابة، مكسوّة بالثلج أو متفجّرة بالحياة تحت الشمس... أو من الذين تجذبهم المعالم التاريخية وأناقة المعمار وهناء العيش بعيداً من ضوضاء المدن الكبيرة وصخبها، كي تستدرجك سالزبورغ لزيارة قصيرة، إذا تمكّنت من مقاومة إغراء إطالة الإقامة بين ربوعها.
كيفما تنقّلت يطالعك الجمال والحلاوة في هذه المدينة التي اشتقّت اسمها من الملح (Salz باللغة الألمانية) الذي كانت مناجمه المحيطة بها مصدر ثروتها ونفوذها في أوروبا الوسطى. لكن يُستحسن أن نبدأ زيارتنا على مقربة من محطة القطار في قصر ميرابيل الذي يعود بناؤه إلى مطلع القرن السابع عشر، وتحيط به الحدائق الفسيحة والخلّابة التي كانت مسرحاً لمشاهد كثيرة من فيلم «لحن السعادة». وتضمّ قاعات القصر المفتوحة للسيّاح مجموعات نادرة من التحف الفنية والأثاث الفاخر.
من القصر نعبر إلى ضفة النهر الأخرى، حيث يقيم الجمال بكثافة بين الشوارع القديمة المرصوفة بالحجارة وفي المباني الأنيقة التي تتدلّى زهور المسك من نوافذها الخشبية. كثيرة هي الجسور على النهر، لكن أجملها هو جسر Makarsteg الذي يذكّر بجسر الفنون في باريس أو جسر Milvio في روما، حيث يعلّق العشّاق أقفالهم وعداً بالوفاء والحب مدى العمر.
بالانتقال إلى الضفة الأخرى من النهر، ندخل المدينة القديمة التي يحلو التجوّل سيراً على الأقدام في شوارعها التي تعجّ بالمتاجر الصغيرة والأنيقة... والغالية، مثل شارع Getreide الذي تقوم على جانبيه أجمل مباني سالزبورغ وحوانيتها الحرفية التي تدل عليها العلامات الحديدية الجميلة الشائعة في النمسا. من هناك نتوجّه إلى المنزل الذي شهد فيه النور موزارت وأمضى سنواته الأولى، والذي أصبح اليوم متحفاً يضم مجموعة من رسائله وأوراقه الموسيقية والأدوات الأولى التي كان يعزف عليها.
وعلى مقربة من منزل الموسيقار تقع الكاتدرائية التي تعتبر درّة التراث المعماري في المدينة، وهي على الطراز الباروكي مشهورة بقبّتها المدهشة والأرغن الذي عزف عليه موزارت. ومن الكاتدرائية نتجّه إلى إحدى أشهر الأسواق الشعبية في أوروبا الوسطى، حيث يعرض الحرفيّون المهرة أعمالهم من ألعاب خشبية ومشغولات مطرّزة ومنمنمات خزفية، إلى جانب المأكولات والمنتجات والحلوى التقليدية التي تشتهر بها المدينة. وتتوسّط السوق الفسيحة النافورة الشهيرة التي دارت حولها مشاهد لا تنسى من «لحن السعادة».
نتوجّه بعد ذلك نحو الحصن المهيب الذي يعود للقرن الحادي عشر ولم يتمكّن أحد من إخضاعه منذ ذلك الوقت لمناعة بنائه الذي أمر به الأساقفة الأمراء يومذاك ليكون مخزناً للملح الذي كانوا يسيطرون على مناجمه. ونعرّج في طريق العودة على موقع آخر شهير دارت فيه بعض المشاهد الأخيرة من الفيلم المذكور، وهي المقبرة القديمة التي تبدو أشبه بحديقة غنّاء تكثر فيها أضرحة جميلة من الرخام تزيّنها تماثيل فنّية بديعة. لكن قبل أن ننهي جولتنا في سالزبورغ المتهادية بين الحاضرة الصغيرة والبلدة الكبيرة، ثمّة مكان يختزل وحده سحر هذه المدينة وسرّ جاذبيتها لا بد من التوقف عنده: إنه مخبز Stitfsbackerei الذي تأسس عام 696 ضمن دير القديس بطرس، ثم أضيفت إليه في عام 1160 طاحونة ما زالت تدور على مياه الينابيع التي تصل إليها عبر شبكة طولها 18 كيلومتراً. وما زال المخبز إلى اليوم يقدّم أرغفته الشهيّة مخبوزة على حطب الغابات المترامية حول المدينة.

مطاعم مدرجة على قائمة اليونيسكو

كثيرة هي المطاعم التي تزخر بها سالزبورغ التي أدرجتها «يونيسكو» بـأكملها على قائمة التراث العالمي، لكن سنختار منها اثنين، الأول هو Gasthof Wider Mann الذي يقع في الشارع الذي يحمل الاسم نفسه ويتميّز بأطباقه التقليدية وجوّه الهادئ وأسعاره المعقولة. الآخر هو St. Peter Stiftskeller، الذي يعتبر أقدم المطاعم في أوروبا الوسطى، ويتميّز اليوم بأجوائه الفخمة وأطباقه المبتكرة... وأسعاره الخيالية.
ومن الفنادق نختار إحدى جواهر السياحة النمساوية، فندق Sacher الذي يقوم في أحد أجمل مباني المدينة القديمة، ويستقبل نزلاءه في غرفه الفسيحة والغنيّة بالتحف والأثاث الفاخر... مع قالب حلوى الشوكولاته الشهير الذي يحمل اسمه. وللراغبين في الاسترخاء والسياحة العلاجية، نقترح فندق Schloss الذي يتفرّد بمنشآت وتجهيزات حديثة، وغرفه المفروشة بأسلوب عصري، ومطعمه النمساوي الذي يرتاده كبار المطربين العالميين الذين يشاركون كل سنة في مهرجانات سالزبورغ الموسيقية.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».