«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

وسط مخاوف من توحّد تيارات متشددة ووصولها إلى عاصمة المحافظة

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
TT

«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل

لم يُنهِ الاتفاق التركي - الروسي في مدينة سوتشي الروسية، الأسبوع الماضي، «الوضع الدقيق» في محافظة إدلب السورية، وذلك بالنظر إلى غياب أي استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع التنظيمات المتطرفة التي شكَّل وجودها في المنطقة عقبة أمام أي حل. وتُعدّ مهمة فصل هذه التنظيمات عن الفصائل المعتدلة معقدة، وكذلك تفكيك «هيئة تحرير الشام» وفصلها عن تنظيم «القاعدة»، في حين يتخوف مراقبون من أن يؤدي الضغط على هذه التنظيمات إلى التفافها مرة أخرى، كما يحذرون من وصول الأطراف الأكثر تشدداً إلى المدن، واتحادها مع الأفراد المتشددين، ما يزيد الأمر تعقيداً.
«اتفاق سوتشي» الأخير بين تركيا وروسيا حول الوضع في سوريا، كان من شقين: أولهما «احتواء» المتشددين، وثانيهما «تحييدهم» عن المدن، ومنع اتصالهم بها. لكن هذه المهمة، في ظل رفض متطرفين للاتفاق، ينذر بمخاطر، أبرزها التقديرات بشنِّ عمليات على القوات التركية في إدلب أو في تركيا نفسها، فضلاً عن تقويض الجهود لتفكيك مسارات المتشددين عن «القاعدة»، وسط معلومات عن وجود مئات المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، الذين لا يبدو أن هناك أي أفق لحل معضلة وجودهم.
وبالفعل، أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن عدة فصائل مسلحة رفضت الاتفاق التركي - الروسي الذي عُقِد عقب اجتماع الرئيسين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في سوتشي يوم الاثنين الماضي. وقال «المرصد» في بيان له إن «كلا من فصائل حراس الدين وأنصار التوحيد وأنصار الدين وأنصار الله وتجمع الفرقان وجند القوقاز برفقة فصائل راديكالية أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات النظام الممتدة من جسر الشغور إلى ريف محافظة إدلب الشرقي مروراً بريف محافظة حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي».
وأضاف أن «هذه الفصائل أبدت استعدادها لمجابهة أي طرف يسعى لسحب سلاحها وإجبارها على الانسحاب من نقاطها الواقعة، بل على النقيض من ذلك، ستبقى على نقاطها لقتال الجيش النصيري والكفار الروس»، وفق تعبيرها. وحسب «المرصد»، لم يُعلَم بعد ما إذا كانت الجبهة الوطنية ستتولى قتال هذه الفصائل، خصوصاً بعد الشحنات الكبيرة التي أدخلت لها من تركيا على مدار ثلاثة أيام متواصلة بدءاً من 10 سبتمبر (أيلول) الماضي.

«ردكلة» التنظيمات
جدير بالذكر، أن محافظة إدلب غدت الملاذ الوحيد لفصائل المعارضة السورية ورافضي التسوية مع نظام دمشق، والتنظيمات المتشددة، وذلك بعدما استعاد النظام (بدعم روسي) السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد ضمن استراتيجية «المصالحات» القسرية، ومن هنا، كانت التحذيرات من أن تتحول أي معركة إلى كارثة عالمية، في حال فشلت المباحثات الروسية – التركية في تجنُّبها.
الكارثة الناجمة عن الحرب تتخطى الجانب الإنساني المتوقَّع، الذي يتمثل في دفع موجة جديدة من النازحين باتجاه وأوروبا، أو مقتل آلاف المدنيين جراء المعارك في منطقة محصورة ومكتظة يقدر عدد سكانها الآن بنحو 3.5 مليون شخص، إذ إن الانعكاسات المحتملة على العالم أيضاً، تتمثل في «ردكلة» التنظيمات المعتدلة، أو تلك السورية القريبة من تنظيم «القاعدة» وتتشارك معه في آيديولوجية واحدة. ويشرح الدكتور حسن أبو هنية، الباحث في ملفات الجماعات المتشددة، هذا الأمر بالقول: «كان الدخول في معركة يمثل خطراً بالغاً، بالنظر إلى أن انعكاساته بالتأكيد ستكون على الفصائل المتشددة، وكنا سنشهد استقطابات راديكالية، وهي أمور ذهبت أدراج الرياح الآن بفعل الاتفاق».
ويتابع أبو هنية: «بهذا الاتفاق، تم تجنب معركة أكثر تعقيداً؛ فالدم يوحد التنظيمات والأفراد، ويرفع مستوى (الردكلة) في صفوفهم»، لافتاً إلى انه حين تتضاعف المخاطر الوجودية «ستتشدِّد الفصائل، ويتوحَّد الأفراد المتشددون، وهو منطق طبيعي لأنه تنعدم الخيارات»، ثم يشير إلى أن تجربة الآخرين قبل الوصول إلى إدلب، «أثبتت أن الخيارات كانت معدومة، فإما الاعتقال في سجون النظام أو المصالحة معه وقتال زملاء لهم آخرين على الجبهات، أو التشدد، ومن هنا كان لا بد من الطريقة الروسية - التركية».
وتمزج الطريقة الروسية في التعامل مع الملف السوري، بين التسوية والتصعيد العسكري. لكن الجانب الأخير، لم تستطع روسيا تنفيذه في إدلب، كونه يشكل حالة مختلفة. وحسب أبو هنية، فإن «التصعيد في إدلب ينطوي على مخاطر في ظل وجود حركات متشددة، وتحاول تركيا منذ لقاءات (آستانة) و(سوتشي)، أن تفكك هيئة تحرير الشام وتدمجها مع الفصائل في تشكيلات جديدة، لكن تلك السيناريوهات بأكملها لم تنجح، ووضعتها على لائحة الإرهاب»، وذلك بعدما صنَّفتها الولايات المتحدة ضمن الإطار نفسه. ويستطرد الخبير في شؤون الجماعات المتشددة قائلاً إن «عملية تفكيك النصرة لم تنجح، ودخلت تركيا، التي لها نفوذ على بعض أطراف الهيئة، في عملية دينامية لتفكيكها. وشاهدنا تشكيلات وانسحابات، لكن الهيئة أخيراً بقيت مع مجموعة من الحلفاء قائمة».
ومن ناحية ثانية، يرى محللون أن الاتفاق لا يعني تجنيب إدلب الخيار العسكري بالمطلق. وتؤكد الدكتورة لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط في «شاتام هاوس» بالعاصمة اللبنانية بيروت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الاتفاق «لا يضمن أن الهجوم على إدلب لم يعد مطروحاً على الطاولة مستقبلاً». وتضيف: «يجب النظر إلى الاتفاق الدولي على أنه بداية المسار فقط، لكنها ليست النهاية بالنسبة إلى إدلب».

ثلاثة تيارات متشددة
يقسم المتطرفون في شمال سوريا إلى 3 تيارات: أحدها يميل للاتفاق مع تركيا. والثاني أكثر تشدداً ويرفض منطق التسويات. أما الثالث فيتألف من مجموعة المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، وهؤلاء يتخذون من منطقة ريف محافظة اللاذقية الشرقي ملاذاً لهم، ويتألفون من مجموعات مثل «الحزب التركستاني» والمقاتلين الإيغور و«التاجيك» و«حراس الدين»، وهم من المتشددين الأردنيين في سوريا، وبقايا جند الأقصى، ويتميز هؤلاء بالتنافس مع «النصرة».
وتمتد المنطقة التي يُفترض أن تكون منزوعة السلاح، بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً في المحافظة التي تسيطر على الجزء الأكبر منها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى مدعومة من تركيا. ويفرض الاتفاق الروسي التركي الجديد على الفصائل المعارضة إخلاء المنطقة المعنية من السلاح الثقيل، على أن ينسحب منها المقاتلون المتشددون. لكن لا يعرف بعد ما هي الآلية التي ستعتمد لتطبيق هذا الاتفاق.
وبالإضافة إلى كونها آخر معقل للفصائل، شكلت محافظة إدلب على مدى السنوات الماضية ملجأ لعشرات آلاف المقاتلين المعارضين والمدنيين الذين رفضوا اتفاقات تسوية مع النظام وأجبروا على مغادرة مناطقهم والانتقال إليها.
ويبدو الاتفاق تكريساً لمنطق فصل المتشددين، وحرمانهم من ذرائع تجمعهم وتزيدهم تشدداً، بينما يذهب المتشددون الرافضون للتأقلم مع الوضع الجديد، في إطار فردي أكثر. ويؤكد المراقبون والمتابعون أن إدلب هي مركز ثقل الحركات المتطرفة، وتتطلب عملية فصل المجموعات المعتدلة والأقل تشدداً والديناميكية القادرة على التكيف مع الوضع الجديد، عن المتطرفين في عملية تسبق إطلاق عملية سياسية. لكنهم يرون هذا التحول «سيتعرض لصدامات، ونشهد مواجهات في الداخل بين القوى المعتدلة والمتطرفة، وبين تركيا والجماعات الرافضة لتسوية أمورها».
عودة إلى أبو هنية، الذي يقول إن «الصدامات ستقع بالتأكيد، لكنها ستكون محدودة... وسنشهد عمليات عسكرية ضمن تكتيك مكافحة التمرد عبر قوات خاصة، من غير أن نشهد أي عملية عسكرية واسعة النطاق من شأنها أن تعيد ربط الحركات المتشددة مع بعضها». ويشدد على أن عملية فك التنظيمات والمتشددين في إدلب «تحتاج إلى عمل صبور وشاق، كونها مختلفة عما جرى الأمر عليه في الجبهة الجنوبية أو محافظة ريف دمشق أو محافظتي حمص وحلب».
آلية العمل، يراها أبو هنية متشعبة، بينها «عن طريق دينامية المظاهرات ورفض الناس للنصرة، وتكتيكات مركبة، جزء منها عسكري، واستمالة أجزاء من هيئة أحرار الشام بغرض إجراء تفكيك بطيء». وبدأت تركيا تنفيذ الجانب الأخير في صيف عام 2017 إثر اتفاقات «آستانة»، إلا أنها لم تنجح، حتى هذا العام، في تفكيك «هيئة تحرير الشام» بالكامل، رغم أنها دعمت إنشاء «الجبهة الوطنية للتحرير».

عبء على تركيا
ولا تمثل هذه الجماعات، على اختلافها وتنوعها بين مرتبط بـ«القاعدة» أو زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني، حتى الآن عبئاً على تركيا. والسبب أنها تنظر إلى تركيا على أنها مجرد ممر، كما أنه ليس في استراتيجيتها استهداف تركيا، رغم الجدل العالمي الذي تصاعد أخيراً في صفوف بعض التيارات المتشددة، وبينها من هو مرتبط بـ«داعش»، حول تكفير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو حزب «العدالة والتنمية». بيد أن الأمر قد يتحول إلى عبء عليها في حال التضييق على تلك الجماعات، تكراراً لتجربة «داعش»، الذي أطلق هجمات داخل الأراضي التركية عندما بدأت عمليات ضد التنظيم في ريف محافظة حلب الشمالي ضمن عمليات «درع الفرات».
ومن جهته، يشرح الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر أن تطبيق الاتفاق «سيكون حافلاً بالمخاطر وللطرف التركي أكثر من غيره، كونه تحمل مسؤولية التعامل مع هيئة تحرير الشام». ويضيف: «يُتوقع أن تقاوم هيئة تحرير الشام اتفاقاً ينص على حجبها جغرافياً وتفكيك خطوط دفاع المعارضة على خط التماس» مع النظام. ويشكل الاتفاق، وفق هيلر، «اختباراً مفصلياً لتركيا في سوريا». ويعتقد أنه «رغم صعوباته، ليس أمامها (أي تركيا) خيارات أخرى، نظراً للضرر الكبير الذي سيلحق بالمصلحة التركية في حال انهارت هدنة إدلب».
وهنا، لا يستبعد أبو هنية أن تواجه تركيا «هجمات ارتدادية انتقامية» عندما يضيق الخناق على تلك الجماعات داخل سوريا بموجب الاتفاق؛ إذ يلفت إلى أن «المعضلة الآن تتمثل فكيفية التعامل مع هؤلاء». ولذا، يرى أن «إدلب ستشكل عقدة وتحتاج لتعامل مختلف، وهي استراتيجية غير واضحة حتى الآن بسبب عدم وجود طروحات محددة بعد للتعامل مع تلك الجماعات». ويعرب عن تخوفه من «تحالفها في حال ضغطت أكثر»، وهي الجماعات الأكثر شدة في القتال، «ما يحتِّم فصلهم ومنعهم من الدخول إلى المدينة (إدلب) والانحياز للجناح المتشدد من (النصرة)».
بدوره، يقول الباحث نوار أوليفر، من مركز عمران للدراسات، في هذا السياق، إن «الخطر الخارجي على إدلب ليس بقدر قوة الخطر الداخلي»، مؤكداً بدوره أن الأتراك «يواجهون مهمة صعبة جداً وهي كيفية السيطرة على هيئة تحرير الشام ومحاربة حراس الدين».
واقع الأمر أن المعضلة الناتجة عن وجهة هؤلاء الأخيرة، مثَّلَت نقاشاً بدأ منذ اتباع موسكو مسارات التهجير التي باتت دينامية منذ تدخلها في سوريا، وهو نقاش دولي أفضى إلى فشل في إيجاد حل لترحيلهم. ووفق أبو هنية فإن المخارج لنقلهم باتجاه ليبيا أو أفغانستان أو محاولة تركيا دفعهم لقتال حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، كلها باءت بالفشل، ولم يظهر أن هناك رؤيةً واقعيةً للتخلُّص منهم، وهو ما جعل المقاربة العملية تتمثل في تحييدهم وفصلهم عبر دينامية تحتاج إلى بعض الوقت».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.