«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

وسط مخاوف من توحّد تيارات متشددة ووصولها إلى عاصمة المحافظة

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
TT

«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل

لم يُنهِ الاتفاق التركي - الروسي في مدينة سوتشي الروسية، الأسبوع الماضي، «الوضع الدقيق» في محافظة إدلب السورية، وذلك بالنظر إلى غياب أي استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع التنظيمات المتطرفة التي شكَّل وجودها في المنطقة عقبة أمام أي حل. وتُعدّ مهمة فصل هذه التنظيمات عن الفصائل المعتدلة معقدة، وكذلك تفكيك «هيئة تحرير الشام» وفصلها عن تنظيم «القاعدة»، في حين يتخوف مراقبون من أن يؤدي الضغط على هذه التنظيمات إلى التفافها مرة أخرى، كما يحذرون من وصول الأطراف الأكثر تشدداً إلى المدن، واتحادها مع الأفراد المتشددين، ما يزيد الأمر تعقيداً.
«اتفاق سوتشي» الأخير بين تركيا وروسيا حول الوضع في سوريا، كان من شقين: أولهما «احتواء» المتشددين، وثانيهما «تحييدهم» عن المدن، ومنع اتصالهم بها. لكن هذه المهمة، في ظل رفض متطرفين للاتفاق، ينذر بمخاطر، أبرزها التقديرات بشنِّ عمليات على القوات التركية في إدلب أو في تركيا نفسها، فضلاً عن تقويض الجهود لتفكيك مسارات المتشددين عن «القاعدة»، وسط معلومات عن وجود مئات المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، الذين لا يبدو أن هناك أي أفق لحل معضلة وجودهم.
وبالفعل، أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن عدة فصائل مسلحة رفضت الاتفاق التركي - الروسي الذي عُقِد عقب اجتماع الرئيسين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في سوتشي يوم الاثنين الماضي. وقال «المرصد» في بيان له إن «كلا من فصائل حراس الدين وأنصار التوحيد وأنصار الدين وأنصار الله وتجمع الفرقان وجند القوقاز برفقة فصائل راديكالية أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات النظام الممتدة من جسر الشغور إلى ريف محافظة إدلب الشرقي مروراً بريف محافظة حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي».
وأضاف أن «هذه الفصائل أبدت استعدادها لمجابهة أي طرف يسعى لسحب سلاحها وإجبارها على الانسحاب من نقاطها الواقعة، بل على النقيض من ذلك، ستبقى على نقاطها لقتال الجيش النصيري والكفار الروس»، وفق تعبيرها. وحسب «المرصد»، لم يُعلَم بعد ما إذا كانت الجبهة الوطنية ستتولى قتال هذه الفصائل، خصوصاً بعد الشحنات الكبيرة التي أدخلت لها من تركيا على مدار ثلاثة أيام متواصلة بدءاً من 10 سبتمبر (أيلول) الماضي.

«ردكلة» التنظيمات
جدير بالذكر، أن محافظة إدلب غدت الملاذ الوحيد لفصائل المعارضة السورية ورافضي التسوية مع نظام دمشق، والتنظيمات المتشددة، وذلك بعدما استعاد النظام (بدعم روسي) السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد ضمن استراتيجية «المصالحات» القسرية، ومن هنا، كانت التحذيرات من أن تتحول أي معركة إلى كارثة عالمية، في حال فشلت المباحثات الروسية – التركية في تجنُّبها.
الكارثة الناجمة عن الحرب تتخطى الجانب الإنساني المتوقَّع، الذي يتمثل في دفع موجة جديدة من النازحين باتجاه وأوروبا، أو مقتل آلاف المدنيين جراء المعارك في منطقة محصورة ومكتظة يقدر عدد سكانها الآن بنحو 3.5 مليون شخص، إذ إن الانعكاسات المحتملة على العالم أيضاً، تتمثل في «ردكلة» التنظيمات المعتدلة، أو تلك السورية القريبة من تنظيم «القاعدة» وتتشارك معه في آيديولوجية واحدة. ويشرح الدكتور حسن أبو هنية، الباحث في ملفات الجماعات المتشددة، هذا الأمر بالقول: «كان الدخول في معركة يمثل خطراً بالغاً، بالنظر إلى أن انعكاساته بالتأكيد ستكون على الفصائل المتشددة، وكنا سنشهد استقطابات راديكالية، وهي أمور ذهبت أدراج الرياح الآن بفعل الاتفاق».
ويتابع أبو هنية: «بهذا الاتفاق، تم تجنب معركة أكثر تعقيداً؛ فالدم يوحد التنظيمات والأفراد، ويرفع مستوى (الردكلة) في صفوفهم»، لافتاً إلى انه حين تتضاعف المخاطر الوجودية «ستتشدِّد الفصائل، ويتوحَّد الأفراد المتشددون، وهو منطق طبيعي لأنه تنعدم الخيارات»، ثم يشير إلى أن تجربة الآخرين قبل الوصول إلى إدلب، «أثبتت أن الخيارات كانت معدومة، فإما الاعتقال في سجون النظام أو المصالحة معه وقتال زملاء لهم آخرين على الجبهات، أو التشدد، ومن هنا كان لا بد من الطريقة الروسية - التركية».
وتمزج الطريقة الروسية في التعامل مع الملف السوري، بين التسوية والتصعيد العسكري. لكن الجانب الأخير، لم تستطع روسيا تنفيذه في إدلب، كونه يشكل حالة مختلفة. وحسب أبو هنية، فإن «التصعيد في إدلب ينطوي على مخاطر في ظل وجود حركات متشددة، وتحاول تركيا منذ لقاءات (آستانة) و(سوتشي)، أن تفكك هيئة تحرير الشام وتدمجها مع الفصائل في تشكيلات جديدة، لكن تلك السيناريوهات بأكملها لم تنجح، ووضعتها على لائحة الإرهاب»، وذلك بعدما صنَّفتها الولايات المتحدة ضمن الإطار نفسه. ويستطرد الخبير في شؤون الجماعات المتشددة قائلاً إن «عملية تفكيك النصرة لم تنجح، ودخلت تركيا، التي لها نفوذ على بعض أطراف الهيئة، في عملية دينامية لتفكيكها. وشاهدنا تشكيلات وانسحابات، لكن الهيئة أخيراً بقيت مع مجموعة من الحلفاء قائمة».
ومن ناحية ثانية، يرى محللون أن الاتفاق لا يعني تجنيب إدلب الخيار العسكري بالمطلق. وتؤكد الدكتورة لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط في «شاتام هاوس» بالعاصمة اللبنانية بيروت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الاتفاق «لا يضمن أن الهجوم على إدلب لم يعد مطروحاً على الطاولة مستقبلاً». وتضيف: «يجب النظر إلى الاتفاق الدولي على أنه بداية المسار فقط، لكنها ليست النهاية بالنسبة إلى إدلب».

ثلاثة تيارات متشددة
يقسم المتطرفون في شمال سوريا إلى 3 تيارات: أحدها يميل للاتفاق مع تركيا. والثاني أكثر تشدداً ويرفض منطق التسويات. أما الثالث فيتألف من مجموعة المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، وهؤلاء يتخذون من منطقة ريف محافظة اللاذقية الشرقي ملاذاً لهم، ويتألفون من مجموعات مثل «الحزب التركستاني» والمقاتلين الإيغور و«التاجيك» و«حراس الدين»، وهم من المتشددين الأردنيين في سوريا، وبقايا جند الأقصى، ويتميز هؤلاء بالتنافس مع «النصرة».
وتمتد المنطقة التي يُفترض أن تكون منزوعة السلاح، بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً في المحافظة التي تسيطر على الجزء الأكبر منها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى مدعومة من تركيا. ويفرض الاتفاق الروسي التركي الجديد على الفصائل المعارضة إخلاء المنطقة المعنية من السلاح الثقيل، على أن ينسحب منها المقاتلون المتشددون. لكن لا يعرف بعد ما هي الآلية التي ستعتمد لتطبيق هذا الاتفاق.
وبالإضافة إلى كونها آخر معقل للفصائل، شكلت محافظة إدلب على مدى السنوات الماضية ملجأ لعشرات آلاف المقاتلين المعارضين والمدنيين الذين رفضوا اتفاقات تسوية مع النظام وأجبروا على مغادرة مناطقهم والانتقال إليها.
ويبدو الاتفاق تكريساً لمنطق فصل المتشددين، وحرمانهم من ذرائع تجمعهم وتزيدهم تشدداً، بينما يذهب المتشددون الرافضون للتأقلم مع الوضع الجديد، في إطار فردي أكثر. ويؤكد المراقبون والمتابعون أن إدلب هي مركز ثقل الحركات المتطرفة، وتتطلب عملية فصل المجموعات المعتدلة والأقل تشدداً والديناميكية القادرة على التكيف مع الوضع الجديد، عن المتطرفين في عملية تسبق إطلاق عملية سياسية. لكنهم يرون هذا التحول «سيتعرض لصدامات، ونشهد مواجهات في الداخل بين القوى المعتدلة والمتطرفة، وبين تركيا والجماعات الرافضة لتسوية أمورها».
عودة إلى أبو هنية، الذي يقول إن «الصدامات ستقع بالتأكيد، لكنها ستكون محدودة... وسنشهد عمليات عسكرية ضمن تكتيك مكافحة التمرد عبر قوات خاصة، من غير أن نشهد أي عملية عسكرية واسعة النطاق من شأنها أن تعيد ربط الحركات المتشددة مع بعضها». ويشدد على أن عملية فك التنظيمات والمتشددين في إدلب «تحتاج إلى عمل صبور وشاق، كونها مختلفة عما جرى الأمر عليه في الجبهة الجنوبية أو محافظة ريف دمشق أو محافظتي حمص وحلب».
آلية العمل، يراها أبو هنية متشعبة، بينها «عن طريق دينامية المظاهرات ورفض الناس للنصرة، وتكتيكات مركبة، جزء منها عسكري، واستمالة أجزاء من هيئة أحرار الشام بغرض إجراء تفكيك بطيء». وبدأت تركيا تنفيذ الجانب الأخير في صيف عام 2017 إثر اتفاقات «آستانة»، إلا أنها لم تنجح، حتى هذا العام، في تفكيك «هيئة تحرير الشام» بالكامل، رغم أنها دعمت إنشاء «الجبهة الوطنية للتحرير».

عبء على تركيا
ولا تمثل هذه الجماعات، على اختلافها وتنوعها بين مرتبط بـ«القاعدة» أو زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني، حتى الآن عبئاً على تركيا. والسبب أنها تنظر إلى تركيا على أنها مجرد ممر، كما أنه ليس في استراتيجيتها استهداف تركيا، رغم الجدل العالمي الذي تصاعد أخيراً في صفوف بعض التيارات المتشددة، وبينها من هو مرتبط بـ«داعش»، حول تكفير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو حزب «العدالة والتنمية». بيد أن الأمر قد يتحول إلى عبء عليها في حال التضييق على تلك الجماعات، تكراراً لتجربة «داعش»، الذي أطلق هجمات داخل الأراضي التركية عندما بدأت عمليات ضد التنظيم في ريف محافظة حلب الشمالي ضمن عمليات «درع الفرات».
ومن جهته، يشرح الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر أن تطبيق الاتفاق «سيكون حافلاً بالمخاطر وللطرف التركي أكثر من غيره، كونه تحمل مسؤولية التعامل مع هيئة تحرير الشام». ويضيف: «يُتوقع أن تقاوم هيئة تحرير الشام اتفاقاً ينص على حجبها جغرافياً وتفكيك خطوط دفاع المعارضة على خط التماس» مع النظام. ويشكل الاتفاق، وفق هيلر، «اختباراً مفصلياً لتركيا في سوريا». ويعتقد أنه «رغم صعوباته، ليس أمامها (أي تركيا) خيارات أخرى، نظراً للضرر الكبير الذي سيلحق بالمصلحة التركية في حال انهارت هدنة إدلب».
وهنا، لا يستبعد أبو هنية أن تواجه تركيا «هجمات ارتدادية انتقامية» عندما يضيق الخناق على تلك الجماعات داخل سوريا بموجب الاتفاق؛ إذ يلفت إلى أن «المعضلة الآن تتمثل فكيفية التعامل مع هؤلاء». ولذا، يرى أن «إدلب ستشكل عقدة وتحتاج لتعامل مختلف، وهي استراتيجية غير واضحة حتى الآن بسبب عدم وجود طروحات محددة بعد للتعامل مع تلك الجماعات». ويعرب عن تخوفه من «تحالفها في حال ضغطت أكثر»، وهي الجماعات الأكثر شدة في القتال، «ما يحتِّم فصلهم ومنعهم من الدخول إلى المدينة (إدلب) والانحياز للجناح المتشدد من (النصرة)».
بدوره، يقول الباحث نوار أوليفر، من مركز عمران للدراسات، في هذا السياق، إن «الخطر الخارجي على إدلب ليس بقدر قوة الخطر الداخلي»، مؤكداً بدوره أن الأتراك «يواجهون مهمة صعبة جداً وهي كيفية السيطرة على هيئة تحرير الشام ومحاربة حراس الدين».
واقع الأمر أن المعضلة الناتجة عن وجهة هؤلاء الأخيرة، مثَّلَت نقاشاً بدأ منذ اتباع موسكو مسارات التهجير التي باتت دينامية منذ تدخلها في سوريا، وهو نقاش دولي أفضى إلى فشل في إيجاد حل لترحيلهم. ووفق أبو هنية فإن المخارج لنقلهم باتجاه ليبيا أو أفغانستان أو محاولة تركيا دفعهم لقتال حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، كلها باءت بالفشل، ولم يظهر أن هناك رؤيةً واقعيةً للتخلُّص منهم، وهو ما جعل المقاربة العملية تتمثل في تحييدهم وفصلهم عبر دينامية تحتاج إلى بعض الوقت».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».