«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

وسط مخاوف من توحّد تيارات متشددة ووصولها إلى عاصمة المحافظة

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
TT

«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل

لم يُنهِ الاتفاق التركي - الروسي في مدينة سوتشي الروسية، الأسبوع الماضي، «الوضع الدقيق» في محافظة إدلب السورية، وذلك بالنظر إلى غياب أي استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع التنظيمات المتطرفة التي شكَّل وجودها في المنطقة عقبة أمام أي حل. وتُعدّ مهمة فصل هذه التنظيمات عن الفصائل المعتدلة معقدة، وكذلك تفكيك «هيئة تحرير الشام» وفصلها عن تنظيم «القاعدة»، في حين يتخوف مراقبون من أن يؤدي الضغط على هذه التنظيمات إلى التفافها مرة أخرى، كما يحذرون من وصول الأطراف الأكثر تشدداً إلى المدن، واتحادها مع الأفراد المتشددين، ما يزيد الأمر تعقيداً.
«اتفاق سوتشي» الأخير بين تركيا وروسيا حول الوضع في سوريا، كان من شقين: أولهما «احتواء» المتشددين، وثانيهما «تحييدهم» عن المدن، ومنع اتصالهم بها. لكن هذه المهمة، في ظل رفض متطرفين للاتفاق، ينذر بمخاطر، أبرزها التقديرات بشنِّ عمليات على القوات التركية في إدلب أو في تركيا نفسها، فضلاً عن تقويض الجهود لتفكيك مسارات المتشددين عن «القاعدة»، وسط معلومات عن وجود مئات المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، الذين لا يبدو أن هناك أي أفق لحل معضلة وجودهم.
وبالفعل، أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن عدة فصائل مسلحة رفضت الاتفاق التركي - الروسي الذي عُقِد عقب اجتماع الرئيسين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في سوتشي يوم الاثنين الماضي. وقال «المرصد» في بيان له إن «كلا من فصائل حراس الدين وأنصار التوحيد وأنصار الدين وأنصار الله وتجمع الفرقان وجند القوقاز برفقة فصائل راديكالية أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات النظام الممتدة من جسر الشغور إلى ريف محافظة إدلب الشرقي مروراً بريف محافظة حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي».
وأضاف أن «هذه الفصائل أبدت استعدادها لمجابهة أي طرف يسعى لسحب سلاحها وإجبارها على الانسحاب من نقاطها الواقعة، بل على النقيض من ذلك، ستبقى على نقاطها لقتال الجيش النصيري والكفار الروس»، وفق تعبيرها. وحسب «المرصد»، لم يُعلَم بعد ما إذا كانت الجبهة الوطنية ستتولى قتال هذه الفصائل، خصوصاً بعد الشحنات الكبيرة التي أدخلت لها من تركيا على مدار ثلاثة أيام متواصلة بدءاً من 10 سبتمبر (أيلول) الماضي.

«ردكلة» التنظيمات
جدير بالذكر، أن محافظة إدلب غدت الملاذ الوحيد لفصائل المعارضة السورية ورافضي التسوية مع نظام دمشق، والتنظيمات المتشددة، وذلك بعدما استعاد النظام (بدعم روسي) السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد ضمن استراتيجية «المصالحات» القسرية، ومن هنا، كانت التحذيرات من أن تتحول أي معركة إلى كارثة عالمية، في حال فشلت المباحثات الروسية – التركية في تجنُّبها.
الكارثة الناجمة عن الحرب تتخطى الجانب الإنساني المتوقَّع، الذي يتمثل في دفع موجة جديدة من النازحين باتجاه وأوروبا، أو مقتل آلاف المدنيين جراء المعارك في منطقة محصورة ومكتظة يقدر عدد سكانها الآن بنحو 3.5 مليون شخص، إذ إن الانعكاسات المحتملة على العالم أيضاً، تتمثل في «ردكلة» التنظيمات المعتدلة، أو تلك السورية القريبة من تنظيم «القاعدة» وتتشارك معه في آيديولوجية واحدة. ويشرح الدكتور حسن أبو هنية، الباحث في ملفات الجماعات المتشددة، هذا الأمر بالقول: «كان الدخول في معركة يمثل خطراً بالغاً، بالنظر إلى أن انعكاساته بالتأكيد ستكون على الفصائل المتشددة، وكنا سنشهد استقطابات راديكالية، وهي أمور ذهبت أدراج الرياح الآن بفعل الاتفاق».
ويتابع أبو هنية: «بهذا الاتفاق، تم تجنب معركة أكثر تعقيداً؛ فالدم يوحد التنظيمات والأفراد، ويرفع مستوى (الردكلة) في صفوفهم»، لافتاً إلى انه حين تتضاعف المخاطر الوجودية «ستتشدِّد الفصائل، ويتوحَّد الأفراد المتشددون، وهو منطق طبيعي لأنه تنعدم الخيارات»، ثم يشير إلى أن تجربة الآخرين قبل الوصول إلى إدلب، «أثبتت أن الخيارات كانت معدومة، فإما الاعتقال في سجون النظام أو المصالحة معه وقتال زملاء لهم آخرين على الجبهات، أو التشدد، ومن هنا كان لا بد من الطريقة الروسية - التركية».
وتمزج الطريقة الروسية في التعامل مع الملف السوري، بين التسوية والتصعيد العسكري. لكن الجانب الأخير، لم تستطع روسيا تنفيذه في إدلب، كونه يشكل حالة مختلفة. وحسب أبو هنية، فإن «التصعيد في إدلب ينطوي على مخاطر في ظل وجود حركات متشددة، وتحاول تركيا منذ لقاءات (آستانة) و(سوتشي)، أن تفكك هيئة تحرير الشام وتدمجها مع الفصائل في تشكيلات جديدة، لكن تلك السيناريوهات بأكملها لم تنجح، ووضعتها على لائحة الإرهاب»، وذلك بعدما صنَّفتها الولايات المتحدة ضمن الإطار نفسه. ويستطرد الخبير في شؤون الجماعات المتشددة قائلاً إن «عملية تفكيك النصرة لم تنجح، ودخلت تركيا، التي لها نفوذ على بعض أطراف الهيئة، في عملية دينامية لتفكيكها. وشاهدنا تشكيلات وانسحابات، لكن الهيئة أخيراً بقيت مع مجموعة من الحلفاء قائمة».
ومن ناحية ثانية، يرى محللون أن الاتفاق لا يعني تجنيب إدلب الخيار العسكري بالمطلق. وتؤكد الدكتورة لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط في «شاتام هاوس» بالعاصمة اللبنانية بيروت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الاتفاق «لا يضمن أن الهجوم على إدلب لم يعد مطروحاً على الطاولة مستقبلاً». وتضيف: «يجب النظر إلى الاتفاق الدولي على أنه بداية المسار فقط، لكنها ليست النهاية بالنسبة إلى إدلب».

ثلاثة تيارات متشددة
يقسم المتطرفون في شمال سوريا إلى 3 تيارات: أحدها يميل للاتفاق مع تركيا. والثاني أكثر تشدداً ويرفض منطق التسويات. أما الثالث فيتألف من مجموعة المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، وهؤلاء يتخذون من منطقة ريف محافظة اللاذقية الشرقي ملاذاً لهم، ويتألفون من مجموعات مثل «الحزب التركستاني» والمقاتلين الإيغور و«التاجيك» و«حراس الدين»، وهم من المتشددين الأردنيين في سوريا، وبقايا جند الأقصى، ويتميز هؤلاء بالتنافس مع «النصرة».
وتمتد المنطقة التي يُفترض أن تكون منزوعة السلاح، بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً في المحافظة التي تسيطر على الجزء الأكبر منها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى مدعومة من تركيا. ويفرض الاتفاق الروسي التركي الجديد على الفصائل المعارضة إخلاء المنطقة المعنية من السلاح الثقيل، على أن ينسحب منها المقاتلون المتشددون. لكن لا يعرف بعد ما هي الآلية التي ستعتمد لتطبيق هذا الاتفاق.
وبالإضافة إلى كونها آخر معقل للفصائل، شكلت محافظة إدلب على مدى السنوات الماضية ملجأ لعشرات آلاف المقاتلين المعارضين والمدنيين الذين رفضوا اتفاقات تسوية مع النظام وأجبروا على مغادرة مناطقهم والانتقال إليها.
ويبدو الاتفاق تكريساً لمنطق فصل المتشددين، وحرمانهم من ذرائع تجمعهم وتزيدهم تشدداً، بينما يذهب المتشددون الرافضون للتأقلم مع الوضع الجديد، في إطار فردي أكثر. ويؤكد المراقبون والمتابعون أن إدلب هي مركز ثقل الحركات المتطرفة، وتتطلب عملية فصل المجموعات المعتدلة والأقل تشدداً والديناميكية القادرة على التكيف مع الوضع الجديد، عن المتطرفين في عملية تسبق إطلاق عملية سياسية. لكنهم يرون هذا التحول «سيتعرض لصدامات، ونشهد مواجهات في الداخل بين القوى المعتدلة والمتطرفة، وبين تركيا والجماعات الرافضة لتسوية أمورها».
عودة إلى أبو هنية، الذي يقول إن «الصدامات ستقع بالتأكيد، لكنها ستكون محدودة... وسنشهد عمليات عسكرية ضمن تكتيك مكافحة التمرد عبر قوات خاصة، من غير أن نشهد أي عملية عسكرية واسعة النطاق من شأنها أن تعيد ربط الحركات المتشددة مع بعضها». ويشدد على أن عملية فك التنظيمات والمتشددين في إدلب «تحتاج إلى عمل صبور وشاق، كونها مختلفة عما جرى الأمر عليه في الجبهة الجنوبية أو محافظة ريف دمشق أو محافظتي حمص وحلب».
آلية العمل، يراها أبو هنية متشعبة، بينها «عن طريق دينامية المظاهرات ورفض الناس للنصرة، وتكتيكات مركبة، جزء منها عسكري، واستمالة أجزاء من هيئة أحرار الشام بغرض إجراء تفكيك بطيء». وبدأت تركيا تنفيذ الجانب الأخير في صيف عام 2017 إثر اتفاقات «آستانة»، إلا أنها لم تنجح، حتى هذا العام، في تفكيك «هيئة تحرير الشام» بالكامل، رغم أنها دعمت إنشاء «الجبهة الوطنية للتحرير».

عبء على تركيا
ولا تمثل هذه الجماعات، على اختلافها وتنوعها بين مرتبط بـ«القاعدة» أو زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني، حتى الآن عبئاً على تركيا. والسبب أنها تنظر إلى تركيا على أنها مجرد ممر، كما أنه ليس في استراتيجيتها استهداف تركيا، رغم الجدل العالمي الذي تصاعد أخيراً في صفوف بعض التيارات المتشددة، وبينها من هو مرتبط بـ«داعش»، حول تكفير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو حزب «العدالة والتنمية». بيد أن الأمر قد يتحول إلى عبء عليها في حال التضييق على تلك الجماعات، تكراراً لتجربة «داعش»، الذي أطلق هجمات داخل الأراضي التركية عندما بدأت عمليات ضد التنظيم في ريف محافظة حلب الشمالي ضمن عمليات «درع الفرات».
ومن جهته، يشرح الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر أن تطبيق الاتفاق «سيكون حافلاً بالمخاطر وللطرف التركي أكثر من غيره، كونه تحمل مسؤولية التعامل مع هيئة تحرير الشام». ويضيف: «يُتوقع أن تقاوم هيئة تحرير الشام اتفاقاً ينص على حجبها جغرافياً وتفكيك خطوط دفاع المعارضة على خط التماس» مع النظام. ويشكل الاتفاق، وفق هيلر، «اختباراً مفصلياً لتركيا في سوريا». ويعتقد أنه «رغم صعوباته، ليس أمامها (أي تركيا) خيارات أخرى، نظراً للضرر الكبير الذي سيلحق بالمصلحة التركية في حال انهارت هدنة إدلب».
وهنا، لا يستبعد أبو هنية أن تواجه تركيا «هجمات ارتدادية انتقامية» عندما يضيق الخناق على تلك الجماعات داخل سوريا بموجب الاتفاق؛ إذ يلفت إلى أن «المعضلة الآن تتمثل فكيفية التعامل مع هؤلاء». ولذا، يرى أن «إدلب ستشكل عقدة وتحتاج لتعامل مختلف، وهي استراتيجية غير واضحة حتى الآن بسبب عدم وجود طروحات محددة بعد للتعامل مع تلك الجماعات». ويعرب عن تخوفه من «تحالفها في حال ضغطت أكثر»، وهي الجماعات الأكثر شدة في القتال، «ما يحتِّم فصلهم ومنعهم من الدخول إلى المدينة (إدلب) والانحياز للجناح المتشدد من (النصرة)».
بدوره، يقول الباحث نوار أوليفر، من مركز عمران للدراسات، في هذا السياق، إن «الخطر الخارجي على إدلب ليس بقدر قوة الخطر الداخلي»، مؤكداً بدوره أن الأتراك «يواجهون مهمة صعبة جداً وهي كيفية السيطرة على هيئة تحرير الشام ومحاربة حراس الدين».
واقع الأمر أن المعضلة الناتجة عن وجهة هؤلاء الأخيرة، مثَّلَت نقاشاً بدأ منذ اتباع موسكو مسارات التهجير التي باتت دينامية منذ تدخلها في سوريا، وهو نقاش دولي أفضى إلى فشل في إيجاد حل لترحيلهم. ووفق أبو هنية فإن المخارج لنقلهم باتجاه ليبيا أو أفغانستان أو محاولة تركيا دفعهم لقتال حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، كلها باءت بالفشل، ولم يظهر أن هناك رؤيةً واقعيةً للتخلُّص منهم، وهو ما جعل المقاربة العملية تتمثل في تحييدهم وفصلهم عبر دينامية تحتاج إلى بعض الوقت».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».