«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

وسط مخاوف من توحّد تيارات متشددة ووصولها إلى عاصمة المحافظة

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
TT

«الاحتواء» و«التحييد»... استراتيجية جديدة مع متطرفي إدلب منعاً لـ«ردكلة» الآخرين

شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل
شكل وجود التنظيمات المتطرفة عقبة امام أي حل

لم يُنهِ الاتفاق التركي - الروسي في مدينة سوتشي الروسية، الأسبوع الماضي، «الوضع الدقيق» في محافظة إدلب السورية، وذلك بالنظر إلى غياب أي استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع التنظيمات المتطرفة التي شكَّل وجودها في المنطقة عقبة أمام أي حل. وتُعدّ مهمة فصل هذه التنظيمات عن الفصائل المعتدلة معقدة، وكذلك تفكيك «هيئة تحرير الشام» وفصلها عن تنظيم «القاعدة»، في حين يتخوف مراقبون من أن يؤدي الضغط على هذه التنظيمات إلى التفافها مرة أخرى، كما يحذرون من وصول الأطراف الأكثر تشدداً إلى المدن، واتحادها مع الأفراد المتشددين، ما يزيد الأمر تعقيداً.
«اتفاق سوتشي» الأخير بين تركيا وروسيا حول الوضع في سوريا، كان من شقين: أولهما «احتواء» المتشددين، وثانيهما «تحييدهم» عن المدن، ومنع اتصالهم بها. لكن هذه المهمة، في ظل رفض متطرفين للاتفاق، ينذر بمخاطر، أبرزها التقديرات بشنِّ عمليات على القوات التركية في إدلب أو في تركيا نفسها، فضلاً عن تقويض الجهود لتفكيك مسارات المتشددين عن «القاعدة»، وسط معلومات عن وجود مئات المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، الذين لا يبدو أن هناك أي أفق لحل معضلة وجودهم.
وبالفعل، أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن عدة فصائل مسلحة رفضت الاتفاق التركي - الروسي الذي عُقِد عقب اجتماع الرئيسين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في سوتشي يوم الاثنين الماضي. وقال «المرصد» في بيان له إن «كلا من فصائل حراس الدين وأنصار التوحيد وأنصار الدين وأنصار الله وتجمع الفرقان وجند القوقاز برفقة فصائل راديكالية أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات النظام الممتدة من جسر الشغور إلى ريف محافظة إدلب الشرقي مروراً بريف محافظة حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي».
وأضاف أن «هذه الفصائل أبدت استعدادها لمجابهة أي طرف يسعى لسحب سلاحها وإجبارها على الانسحاب من نقاطها الواقعة، بل على النقيض من ذلك، ستبقى على نقاطها لقتال الجيش النصيري والكفار الروس»، وفق تعبيرها. وحسب «المرصد»، لم يُعلَم بعد ما إذا كانت الجبهة الوطنية ستتولى قتال هذه الفصائل، خصوصاً بعد الشحنات الكبيرة التي أدخلت لها من تركيا على مدار ثلاثة أيام متواصلة بدءاً من 10 سبتمبر (أيلول) الماضي.

«ردكلة» التنظيمات
جدير بالذكر، أن محافظة إدلب غدت الملاذ الوحيد لفصائل المعارضة السورية ورافضي التسوية مع نظام دمشق، والتنظيمات المتشددة، وذلك بعدما استعاد النظام (بدعم روسي) السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد ضمن استراتيجية «المصالحات» القسرية، ومن هنا، كانت التحذيرات من أن تتحول أي معركة إلى كارثة عالمية، في حال فشلت المباحثات الروسية – التركية في تجنُّبها.
الكارثة الناجمة عن الحرب تتخطى الجانب الإنساني المتوقَّع، الذي يتمثل في دفع موجة جديدة من النازحين باتجاه وأوروبا، أو مقتل آلاف المدنيين جراء المعارك في منطقة محصورة ومكتظة يقدر عدد سكانها الآن بنحو 3.5 مليون شخص، إذ إن الانعكاسات المحتملة على العالم أيضاً، تتمثل في «ردكلة» التنظيمات المعتدلة، أو تلك السورية القريبة من تنظيم «القاعدة» وتتشارك معه في آيديولوجية واحدة. ويشرح الدكتور حسن أبو هنية، الباحث في ملفات الجماعات المتشددة، هذا الأمر بالقول: «كان الدخول في معركة يمثل خطراً بالغاً، بالنظر إلى أن انعكاساته بالتأكيد ستكون على الفصائل المتشددة، وكنا سنشهد استقطابات راديكالية، وهي أمور ذهبت أدراج الرياح الآن بفعل الاتفاق».
ويتابع أبو هنية: «بهذا الاتفاق، تم تجنب معركة أكثر تعقيداً؛ فالدم يوحد التنظيمات والأفراد، ويرفع مستوى (الردكلة) في صفوفهم»، لافتاً إلى انه حين تتضاعف المخاطر الوجودية «ستتشدِّد الفصائل، ويتوحَّد الأفراد المتشددون، وهو منطق طبيعي لأنه تنعدم الخيارات»، ثم يشير إلى أن تجربة الآخرين قبل الوصول إلى إدلب، «أثبتت أن الخيارات كانت معدومة، فإما الاعتقال في سجون النظام أو المصالحة معه وقتال زملاء لهم آخرين على الجبهات، أو التشدد، ومن هنا كان لا بد من الطريقة الروسية - التركية».
وتمزج الطريقة الروسية في التعامل مع الملف السوري، بين التسوية والتصعيد العسكري. لكن الجانب الأخير، لم تستطع روسيا تنفيذه في إدلب، كونه يشكل حالة مختلفة. وحسب أبو هنية، فإن «التصعيد في إدلب ينطوي على مخاطر في ظل وجود حركات متشددة، وتحاول تركيا منذ لقاءات (آستانة) و(سوتشي)، أن تفكك هيئة تحرير الشام وتدمجها مع الفصائل في تشكيلات جديدة، لكن تلك السيناريوهات بأكملها لم تنجح، ووضعتها على لائحة الإرهاب»، وذلك بعدما صنَّفتها الولايات المتحدة ضمن الإطار نفسه. ويستطرد الخبير في شؤون الجماعات المتشددة قائلاً إن «عملية تفكيك النصرة لم تنجح، ودخلت تركيا، التي لها نفوذ على بعض أطراف الهيئة، في عملية دينامية لتفكيكها. وشاهدنا تشكيلات وانسحابات، لكن الهيئة أخيراً بقيت مع مجموعة من الحلفاء قائمة».
ومن ناحية ثانية، يرى محللون أن الاتفاق لا يعني تجنيب إدلب الخيار العسكري بالمطلق. وتؤكد الدكتورة لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط في «شاتام هاوس» بالعاصمة اللبنانية بيروت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الاتفاق «لا يضمن أن الهجوم على إدلب لم يعد مطروحاً على الطاولة مستقبلاً». وتضيف: «يجب النظر إلى الاتفاق الدولي على أنه بداية المسار فقط، لكنها ليست النهاية بالنسبة إلى إدلب».

ثلاثة تيارات متشددة
يقسم المتطرفون في شمال سوريا إلى 3 تيارات: أحدها يميل للاتفاق مع تركيا. والثاني أكثر تشدداً ويرفض منطق التسويات. أما الثالث فيتألف من مجموعة المقاتلين الأجانب الأكثر تطرفاً، وهؤلاء يتخذون من منطقة ريف محافظة اللاذقية الشرقي ملاذاً لهم، ويتألفون من مجموعات مثل «الحزب التركستاني» والمقاتلين الإيغور و«التاجيك» و«حراس الدين»، وهم من المتشددين الأردنيين في سوريا، وبقايا جند الأقصى، ويتميز هؤلاء بالتنافس مع «النصرة».
وتمتد المنطقة التي يُفترض أن تكون منزوعة السلاح، بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً في المحافظة التي تسيطر على الجزء الأكبر منها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى مدعومة من تركيا. ويفرض الاتفاق الروسي التركي الجديد على الفصائل المعارضة إخلاء المنطقة المعنية من السلاح الثقيل، على أن ينسحب منها المقاتلون المتشددون. لكن لا يعرف بعد ما هي الآلية التي ستعتمد لتطبيق هذا الاتفاق.
وبالإضافة إلى كونها آخر معقل للفصائل، شكلت محافظة إدلب على مدى السنوات الماضية ملجأ لعشرات آلاف المقاتلين المعارضين والمدنيين الذين رفضوا اتفاقات تسوية مع النظام وأجبروا على مغادرة مناطقهم والانتقال إليها.
ويبدو الاتفاق تكريساً لمنطق فصل المتشددين، وحرمانهم من ذرائع تجمعهم وتزيدهم تشدداً، بينما يذهب المتشددون الرافضون للتأقلم مع الوضع الجديد، في إطار فردي أكثر. ويؤكد المراقبون والمتابعون أن إدلب هي مركز ثقل الحركات المتطرفة، وتتطلب عملية فصل المجموعات المعتدلة والأقل تشدداً والديناميكية القادرة على التكيف مع الوضع الجديد، عن المتطرفين في عملية تسبق إطلاق عملية سياسية. لكنهم يرون هذا التحول «سيتعرض لصدامات، ونشهد مواجهات في الداخل بين القوى المعتدلة والمتطرفة، وبين تركيا والجماعات الرافضة لتسوية أمورها».
عودة إلى أبو هنية، الذي يقول إن «الصدامات ستقع بالتأكيد، لكنها ستكون محدودة... وسنشهد عمليات عسكرية ضمن تكتيك مكافحة التمرد عبر قوات خاصة، من غير أن نشهد أي عملية عسكرية واسعة النطاق من شأنها أن تعيد ربط الحركات المتشددة مع بعضها». ويشدد على أن عملية فك التنظيمات والمتشددين في إدلب «تحتاج إلى عمل صبور وشاق، كونها مختلفة عما جرى الأمر عليه في الجبهة الجنوبية أو محافظة ريف دمشق أو محافظتي حمص وحلب».
آلية العمل، يراها أبو هنية متشعبة، بينها «عن طريق دينامية المظاهرات ورفض الناس للنصرة، وتكتيكات مركبة، جزء منها عسكري، واستمالة أجزاء من هيئة أحرار الشام بغرض إجراء تفكيك بطيء». وبدأت تركيا تنفيذ الجانب الأخير في صيف عام 2017 إثر اتفاقات «آستانة»، إلا أنها لم تنجح، حتى هذا العام، في تفكيك «هيئة تحرير الشام» بالكامل، رغم أنها دعمت إنشاء «الجبهة الوطنية للتحرير».

عبء على تركيا
ولا تمثل هذه الجماعات، على اختلافها وتنوعها بين مرتبط بـ«القاعدة» أو زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني، حتى الآن عبئاً على تركيا. والسبب أنها تنظر إلى تركيا على أنها مجرد ممر، كما أنه ليس في استراتيجيتها استهداف تركيا، رغم الجدل العالمي الذي تصاعد أخيراً في صفوف بعض التيارات المتشددة، وبينها من هو مرتبط بـ«داعش»، حول تكفير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو حزب «العدالة والتنمية». بيد أن الأمر قد يتحول إلى عبء عليها في حال التضييق على تلك الجماعات، تكراراً لتجربة «داعش»، الذي أطلق هجمات داخل الأراضي التركية عندما بدأت عمليات ضد التنظيم في ريف محافظة حلب الشمالي ضمن عمليات «درع الفرات».
ومن جهته، يشرح الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر أن تطبيق الاتفاق «سيكون حافلاً بالمخاطر وللطرف التركي أكثر من غيره، كونه تحمل مسؤولية التعامل مع هيئة تحرير الشام». ويضيف: «يُتوقع أن تقاوم هيئة تحرير الشام اتفاقاً ينص على حجبها جغرافياً وتفكيك خطوط دفاع المعارضة على خط التماس» مع النظام. ويشكل الاتفاق، وفق هيلر، «اختباراً مفصلياً لتركيا في سوريا». ويعتقد أنه «رغم صعوباته، ليس أمامها (أي تركيا) خيارات أخرى، نظراً للضرر الكبير الذي سيلحق بالمصلحة التركية في حال انهارت هدنة إدلب».
وهنا، لا يستبعد أبو هنية أن تواجه تركيا «هجمات ارتدادية انتقامية» عندما يضيق الخناق على تلك الجماعات داخل سوريا بموجب الاتفاق؛ إذ يلفت إلى أن «المعضلة الآن تتمثل فكيفية التعامل مع هؤلاء». ولذا، يرى أن «إدلب ستشكل عقدة وتحتاج لتعامل مختلف، وهي استراتيجية غير واضحة حتى الآن بسبب عدم وجود طروحات محددة بعد للتعامل مع تلك الجماعات». ويعرب عن تخوفه من «تحالفها في حال ضغطت أكثر»، وهي الجماعات الأكثر شدة في القتال، «ما يحتِّم فصلهم ومنعهم من الدخول إلى المدينة (إدلب) والانحياز للجناح المتشدد من (النصرة)».
بدوره، يقول الباحث نوار أوليفر، من مركز عمران للدراسات، في هذا السياق، إن «الخطر الخارجي على إدلب ليس بقدر قوة الخطر الداخلي»، مؤكداً بدوره أن الأتراك «يواجهون مهمة صعبة جداً وهي كيفية السيطرة على هيئة تحرير الشام ومحاربة حراس الدين».
واقع الأمر أن المعضلة الناتجة عن وجهة هؤلاء الأخيرة، مثَّلَت نقاشاً بدأ منذ اتباع موسكو مسارات التهجير التي باتت دينامية منذ تدخلها في سوريا، وهو نقاش دولي أفضى إلى فشل في إيجاد حل لترحيلهم. ووفق أبو هنية فإن المخارج لنقلهم باتجاه ليبيا أو أفغانستان أو محاولة تركيا دفعهم لقتال حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، كلها باءت بالفشل، ولم يظهر أن هناك رؤيةً واقعيةً للتخلُّص منهم، وهو ما جعل المقاربة العملية تتمثل في تحييدهم وفصلهم عبر دينامية تحتاج إلى بعض الوقت».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.