إيران المركز المتخصص بنشر الفوضى في الشرق الأوسط

من التفاهم مع «القاعدة» إلى نشر «حرسها الثوري» وتمويله آيديولوجية التطرف والإرهاب

إيران المركز المتخصص بنشر الفوضى في الشرق الأوسط
TT

إيران المركز المتخصص بنشر الفوضى في الشرق الأوسط

إيران المركز المتخصص بنشر الفوضى في الشرق الأوسط

قبل بضعة أيام، وصف جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، إيران بأنها «المصرف المركزي للإرهاب في العالم منذ عام 1979 حتى الساعة»، وحذر من أن «نظام الملالي» يشكل تهديداً لأوروبا والولايات المتحدة. والحقيقة أن بولتون لم يكن أول من استخدم هذا الوصف لإيران، إذ سبقته إليه الدكتورة كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في إدارة جورج بوش الابن، التي اعتبرت إيران «البنك المركزي للإرهاب في مناطق مهمة في الشرق الأوسط، مثل لبنان والعراق، وهي بذلك سبقت بولتون في توضيح إرهاب إيران الشرق أوسطي، قبل أن يمضي في طريق أوروبا وبقية الدول الغربية».
كانت غالبية فعاليات الدورة الثالثة والسبعين من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، عطفاً على الفعاليات الخاصة «متحدون ضد الإرهاب الإيراني»، مسوغاً لإعادة التطرق لدور إيران في تشجيع آيديولوجية التطرف، كما رأينا في الهجوم الأخير الذي استهدف عرضاً عسكرياً لـ«الحرس الثوري» في الأحواز.

«الحرس»... طريق الإرهاب
حين قدر للخميني نجاح ثورته الدينية، استشرف الرجل أن سبيله الأضمن لتصدير الثورة إلى الخارج يمر عبر قوة مسلحة تابعة له مباشرة، تحقق هدفين في آن معاً: الأول، حماية النظام الديني الجديد الحاكم. والثاني، شق الطريق الثوري إلى دول الجوار بدايةً، ثم بقية العالم تالياً. من هنا، نشأ «الحرس الثوري» الذي يبلغ عدده اليوم نحو 125 ألف مقاتل، ينتظمون في وحدات برية وبحرية وجوية، كما يقود الحرس ميليشيا «البسيج»، وهي قوة من المتطوعين «المخلصين» للثورة.
يعمل «الحرس الثوري» في الواقع على نشر آيديولوجية التطرف الإيرانية، لا عن طريق نشر فكر أو الترويج لمثال نظري، بل من خلال تدريب وتمويل «المنظمات الإرهابية» التي غالباً ما تجمع في صفوفها المتشددين والمتطرفين، دينياً ومذهبياً. ويجري التدريب بعيداً عن أعين العالم، قبل إعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، ليغدوا أذرعاً لملالي طهران، وهو ما نراه اليوم في الحوثيين في اليمن، و«حماس» في الداخل الفلسطيني، و«حزب الله» في لبنان، وجماعة «الحشد الشعبي» في العراق.
لقد كان حلم الخميني أن يرى علم «ثورته» يرفرف فوق العواصم العربية كافة، من القاهرة إلى الرياض، ومن بغداد إلى دمشق، مروراً ببيروت، قبل أن يمتد إلى بقية أرجاء الأرض، تهيئة لـ«عودة الإمام الغائب».
وحقاً، تأكد ارتباط سلطات إيران الخمينية بالإرهاب في أسوأ صورها عام 1995، عندما نظم «الحرس الثوري» ما يمكن اعتباره «شبكة إرهابية عالمية» غير مسبوقة، جامعاً في مؤتمر غالبية الجماعات المتطرفة (يميناً ويساراً) حول العالم، مثل تنظيم «الجيش الأحمر الياباني»، و«الجيش السري الأرمني»، و«حزب العمال الكردستاني»، جنباً إلى جنب مع حزب «الدعوة» العراقي، و«حزب الله» اللبناني، وكان الغرض تهيئة الأجواء للسيطرة على مقدرات دول الخليج العربي، والشرق الأوسط بأسره، عبر تقديم المساعدات المسلحة لجماعات تتماهى مع رؤية «إيران الملالي»، إن جاز التعبير.

إيران و{الإخوان}
يضيق المجال للبحث في تأصيل العلاقة القديمة جداً بين آية الله الخميني ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي عرف دوماً بلقب «المرشد العام». وكانت هناك صلات وجسور بين الإخوان وشيعة إيران. ولذا، كان من المثير أن يختار الخميني بعد نجاح ثورته لقب «المرشد»، ليصبح تميزاً له عمن دونه من الملالي وكبار رجال الدين. وحين نجحت ثورة الخميني، كان هناك في مصر رجل بعيد النظر، تأمل الغروب الإيراني الشاهنشاهي من بعيد، قائلاً إن الشرق الأوسط لن يبقى كما هو بعد وصول الخميني لحكم إيران، وقد صدقت رؤية الرجل بعد أقل من سنة.
كان يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 موعد العرض العسكري السنوي لاحتفالات القوات المسلحة المصرية بـ«انتصار أكتوبر 1973». في ذلك اليوم، قُتل الرئيس المصري أنور السادات برصاص أفراد جماعة إرهابية، ثمة من يزعم أنها خرجت من كنف الإخوان المسلمين. ولم تألو إيران جهداً في دعم الجماعات الإرهابية المتطرفة في مصر، بل قدمت للكثيرين منهم التدريب والعتاد والمال، واستقبلت الفارين منهم إلى الداخل الإيراني، بل وكنوع من أنواع المُكايدة السياسية، أطلقت على أحد شوارع طهران الكبرى اسم «خالد الإسلامبولي»، قاتل السادات.
والمثير أنه في الوقت الذي عملت فيه القيادات الإيرانية على دعم التطرف والإرهاب في مصر، كانت تقوم بإرهاب موازٍ في الداخل الإيراني. وكانت بداية «القصيدة الخمينية» يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979، عندما اقتحم نحو 500 ناشط إيراني مجمع السفارة الأميركية في طهران، وأقدموا على احتجاز واسترهان 90 موظفاً وزائراً. وفي وقت لاحق، أفرجوا عن غير الأميركيين والنساء والأميركيات من أصل أفريقي، وتبقى 52 أميركياً ظلوا في الأسر كرهائن لمدة 444 يوماً.
والثابت أنه من خلال أعضاء الجماعات الإسلامية، التي كان في مقدمتها أيمن الظواهري ومصطفى حمزة وسيف العدل، نشأ ونما تنظيم القاعدة، وفي ما بعد أفرز «القاعدة» جماعات أكثر عنفاً وتطرفاً، تجسد أبرزها بـ«داعش».

علاقة «القاعدة» وطهران
في مطلع سبتمبر (أيلول) الفائت، أشار تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي عن الحرب ضد الإرهاب إلى أن إيران ما زالت تنشر الفوضى في الشرق الأوسط، عبر السماح لتنظيم القاعدة بالوجود على أراضيها. ومساء يوم صدور التقرير، كانت شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية الأميركية، المعروفة بميولها اليمينية، والقريبة من البيت الأبيض، تؤكد في تقاريرها أن ما ذكرته الخارجية صحيح بالمطلق، وأن سلطات طهران لا تسمح فقط لـ«القاعدة» بتنفيذ عمليات دولية من داخل أراضيها، بل ما زالت غير مستعدة لمحاكمة أعضاء بارزين في التنظيم يقيمون على أراضيها، وكذلك رفضت الإفصاح عن أسماء من تعتقلهم من أعضاء «القاعدة». ولقد أطلع مصدر استخباراتي أميركي «فوكس نيوز» على أن «العلاقة اليوم بين الطرفين قائمة على الأمن والمال، بمعنى أن الطرفين، وإن كانا لا يتفقان بشكل دائم، فإن التنظيم بحاجة إلى ملاذ آمن، والإيرانيون من جانبهم يحصلون على حصة من عمليات تهريب المخدرات».
لكن هذا الوضع الحالي على أهميته لا يعبر عن الخلفية التاريخية لتلك العلاقة البعيدة، التي أماط عنها اللثام موقع «نيو أميركا» أخيراً، وكشف فيها عن وجود علاقات تعاون بين طهران و«القاعدة» على مدار سنوات، عملت عبرها طهران على تمكين التنظيم الإرهابي من أجل خدمة مصالحها. ولم تكن معلومات «نيو أميركا» إلا كشفاً عن بعض الوثائق السرية للغاية التي حصلت عليها «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي آيه) الأميركية، بعد الهجوم على المجمع الذي كان يأوي زعيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، في بلدة آبوت آباد الباكستانية، عام 2011.
ومثير جداً ما تضمنته نحو ثلاثمائة وثيقة معروفة، مع أن هناك بشكل قاطع ما هو مغرق في السرية، ولم يُكشف عنه، ذلك أنه رغم عدم التوافق الآيديولوجي بين إيران و«القاعدة»، وانعدام الثقة بينهما، فإنهما بلورا رؤية براغماتية على أساس استراتيجي. والقصد أن أي تعاون قد تقدمه إيران للتنظيم سيكون مبنياً على أساس خدمة سياساتها الخارجية ضد الولايات المتحدة، التي وصفتها إحدى الوثائق بأنها تتسم بـ«خصومة حقيقية». وتقول الوثيقة المشار إليها إن «إيران مستعدة لتقديم دعم ومساعدة بالمال والسلاح وكل ما هو مطلوب»، وتضيف أن النظام الإيراني يجسد البراغماتية السياسية المبنية على أساس «الغاية تبرر الوسيلة».
أما تنظيم القاعدة، فمن جانبه اعتبر أن إيران اعتمدت في البداية سياسة مرنة حياله منذ نشوئه عام 1988. ولذلك، لم يجد أفراد التنظيم - بل حتى أفراد أسرة بن لادن - غضاضة في اللجوء إليها بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من سقوط حكم طالبان.

العراق ومخططات سليماني
خلال المؤتمر الذي عقد على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الخاص بإيران، تحدث مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، مشدداً على سياسة واشنطن الصارمة تجاه إيران، فقال: «لن نسمح لخامنئي (المرشد الحالي) بتدمير دول الشرق الأوسط»، وتابع: «سنستهدف كبار المسؤولين الإيرانيين، ومن بينهم (الجنرال) قاسم سليماني، وسنواجه كل الخطط الشريرة التي ينفذها».
لماذا ذكر بولتون اسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، بالاسم؟ ربما لأنه الرجل المسؤول عن إرهاب إيران في الشرق الأوسط، والعهدة هنا على الجنرال ديفيد بترايوس، قائد قوات التحالف الأميركي في العراق سابقاً، الذي أدلى في أبريل (نيسان) 2008 بشهادة أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، أفاد فيها بتدفق أسلحة إيرانية متطورة إلى مسلحين شيعة في العراق.
والحقيقة أن سليماني هو الذي يمسك بزمام الأمور في العراق، نيابة عن إيران، ولقد وقع بعض من أبرز المسلحين الشيعة، وآخرين من القوة عينها، في أيدي القوات الأميركية. وفي ضوء استجوابهم، أمكن تقدير الموقف عن مدى وطبيعة أعمال الإرهاب الإيرانية على الأراضي العراقية.
وهنا، نشير إلى أنه في مرحلة ما، بعث سليماني برسالة إلى بترايوس، تولى نقلها قائد عراقي كبير، في الوقت الذي بدأت فيه القوات العراقية وقوات التحالف عملية «صولة الفرسان»... وهي المسعى المكثف لاستهداف مسلحي الشيعة العراقيين في بغداد والبصرة. وجاء في نص الرسالة ما يلي: «الجنرال بترايوس... ينبغي أن تعرف أنني قاسم سليماني، الشخص الذي يتحكم بالسياسة الإيرانية التي تختص بالعراق ولبنان وغزة وأفغانستان. وفي الواقع، فإن سفيرنا في بغداد عضو في (فيلق القدس)، ومن سيخلفه أيضاً عضو في (فيلق القدس)».

دعم {حزب الله}
أيضاً، يعترف سليماني، في رسالته لبترايوس، وبوضوح كامل، بأن الأيادي الإيرانية التي يقودها هي الفاعلة في تلك الدول (المذكورة آنفاً)، ما يعني أن المخطط الإرهابي الأصيل للخميني، وارتفاع أعلام الثورة الإيرانية، لم تكن مرويات تاريخية، بل أهداف استراتيجية حقيقية. ولعل واحداً من أفضل من تناولوا دور الإرهاب الإيراني ما بين لبنان وفلسطين المحتلة كان الدكتور ماثيو ليفيت، مدير برنامج «ستاين» للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، الذي يقول إنه من بين جميع الجماعات التي رعتها طهران خلال الأعوام الماضية، لا يوجد من هو أهم بالنسبة لإيران من «حزب الله»، الذي يحتفظ نشطاؤه بعلاقات وثيقة مع مسؤولي الاستخبارات الإيرانية وأعضاء «الحرس الثوري» الإيراني المنخرطين بعمق في أنشطة الصواريخ الباليستية والانتشار النووي والتسلح في البلاد.
وفي هذا السياق، فإن بعض أجهزة الاستخبارات الدولية تقدر أنه منذ صيف 2006، قدمت إيران لـ«حزب الله» أكثر من مليار دولار، في شكل مساعدات مباشرة. ولعل أكثر خطورة للإرهاب الإيراني هو نشره للإرهاب الآيديولوجي، إذ كانت إيران قادرة على التأثير على خلايا ونشطاء «حزب الله» الموزعين في جميع أنحاء العالم لتنفيذ هجمات خارج نطاق حدودها.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.