نيتشه... استعادة وتوظيف كلما استيقظت نوازع العنصرية الأوروبية

175 عاماً على مولد فيلسوف «إرادة القوة»

تمثال نيتشه في نومبرغ
تمثال نيتشه في نومبرغ
TT

نيتشه... استعادة وتوظيف كلما استيقظت نوازع العنصرية الأوروبية

تمثال نيتشه في نومبرغ
تمثال نيتشه في نومبرغ

أصابت التصدعات التي ترتبت على الأزمة المالية العالمية عام 2008 المجتمعات الغربية بحمى غضب شعبي واسع النطاق ضد كل أنواع السلطات؛ حكومية وسياسية وتقنية، دون أن يتوفر لديها أي تصورات محددة بشأن الشكل البديل لتنظيم سبل العيش، فغرق كثيرون في العدمية واليأس، وأصبحوا لاحقاً مطية سهلة لكل سياسي شعبوي يتاجر بالحروب الثقافية وأزمات الهويات المتناقضة، فكان الاستفتاء البريطاني عن الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وانتخاب الرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة، وحصول أحزاب اليمين المتطرف والفاشيات الجديدة على مفاتيح السلطة أو تمثيل غير مسبوق في برلمانات في أكثر من بلد أوروبي.
في مناخ هذه الأجواء المضطربة من انعدام البصيرة وفقدان الاتجاه، يبحث الشباب الغربي المتعطش للخلاص الفردي من أحوال ضائقته العمومية في بحر الأفكار الفلسفية القديمة والشخصيات الملهمة عله يجد مخرجاً، لتنتهي مجموعة ملحوظة منه إلى فيلسوف «الأفكار الخطيرة» وصاحب «إرادة القوة»، المعادي للأفكار الإنسانية الحديثة، وحقوق الإنسان، والمساواة الديمقراطية؛ الألماني فريدريك نيتشه (1844 - 1900).
خلال العقد الحالي، لا سيما السنوات الأخيرة، عادت نتاجات نيتشه لتتصدر مبيعات الكتب الفلسفية في مكتبات الغرب، وظهرت منها طبعات مجددة، كما سير متعددة لحياته ومواقفه، وتوسعت النقاشات حول أفكاره على مواقع الإنترنت أكثر من أفكار أي فيلسوف معاصر، بينما تستعد عدة مؤسسات ثقافية وسياسية للاحتفال بالذكرى 175 لمولده، ولم يعد مستغرباً أن تجده حاضراً بأفكاره وملامحه على موائد الشباب النابض بالأسئلة وأن يصير «هكذا تكلم زرادشت» - أشهر كتبه - أنيسهم وقاموس كلامهم.
ولكن يبدو أن قدر نيتشه، الذي أصابته لوثة من الجنون في آخر أيامه ومات قبل أن يقول كلمته الأخيرة، أن يظل دائماً موضع توظيف واستعادة كلما استيقظت نوازع العنصرية الأوروبية، وتشظى الكفر بالمنظومات الليبرالية القائمة، وسادت الأزمنة المظلمة. فهو كان فيلسوف الفوهرر النازي أدولف هتلر المفضل، وطالما أعلن الدوتشي الفاشي الإيطالي بينوتو موسيليني عن دَيْنِه الدائم له في تشكل أفكاره، وانتشرت أعماله بكثافة بين شبان اليمين الأوروبي في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، حتى أن الفيلسوف البريطاني، برتراند رسل، في سرده لتاريخ الفلسفة الغربية اعتبر أن تلك الحرب الكبرى كانت قبل كل شيء «حرب نيتشه»، ويحاول البعض في زماننا الراهن الاستعانة به لتفسير صعود شخصيات شعبوية مثل الأميركي ترمب أو الهنغاري أوربان.
لكن الحقيقة أن هنالك كثيراً من الالتباس وسوء الفهم يحيط بأعمال هذا الفيلسوف، الذي تورط بمواقف وأفكار تمثل خلاصة فكر النخبة الأوروبية الأرستقراطية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تعكس نزعاتها الموغلة بالترفع والاستعلاء والتمييز العنصري والجندري والديني. فهو كان شديد العداء لما يمكن أن نسميه اليوم الديمقراطية الليبرالية، بل وأي نظام يساوي بين فئات المجتمع بوصفه خطراً داهماً على الثقافة الرفيعة فيه، واعتبر دائماً أن أفكار التنوير التي تفشت في الفكر الأوروبي بداية من أعمال الفرنسي جان جاك روسو لم تتسبب فحسب في قيام الثورة الفرنسية - التي أقصت الأرستقراطية الرفيعة لمصلحة البرجوازيين محدثي النعمة، بل وأطلقت سموم الأفكار إنسانية الطابع في الفضاء الأوروبي، وهي الأفكار التي كان يراها تليق بمجتمعات العبيد المهادنة. ورغم التجاهل شبه المتعمد من قبل دارسي نيتشه في الغرب لمواقفه المعيبة بمسطرة أيامنا الراهنة - لا سيما مسألة العبودية تحديداً، فإن المطلع على أعماله لا بد أن يتعثر ولو بقليل مما يقرب لـ300 موضِعٍ نَظرَ فيها للعبودية بوصفها لازمة الأمم العظيمة كما كان حال اليونان القديمة أو فلورنسا أيام آل مديتشي، وأنها نظام الأشياء الطبيعي وأفضل ما يمنح للأفارقة السود، فهم عنده لا يتألمون كما يتألم البشر، كأنهم خلقوا لما شق من الأعمال فقط.

استغلال نيتشه سياسياً
مع ذلك، فكثير من متعاطي نيتشه المعاصرين يأتون إليه من بوابات السياسة، على الرغم من أن هذا الفيلسوف المعني بالفردانية والتفوق والإنسان الجديد (السوبرمان) لم يترك مطلقاً منظومة فكر سياسي متكاملة، وكان عمله متمحوراً أساساً حول المسألة الثقافية، وجل ما ينقل عنه من مواقف سياسية مرتبط بحقيقة أن الثقافة بمجملها نتاج نظام سياسي محدد لا أكثر، وأن الذي يتصدى لمسألة تشكيل ثقافة المجتمعات لا بد أن يعرج على السياسة لا محالة.
نيتشه لم يعِش في ظل أنظمة ديمقراطية بالمعنى المعاصر وكانت أفكاره منتزعة من أجواء كلاسيكية قديمة تعكس تخصصه الأكاديمي الدقيق وإيمانه بالنموذج الإغريقي كعصر ذهبي للتجربة البشرية، كما أن ظروفه الشخصية طبعت وبشدة رؤيته إلى العالم. فهو قد مقت سياسة معاصره موحد ألمانيا أتو فون بسمارك الذي لجأ إلى القوميات الضيقة بدلاً من العمل لأجل أوروبا موحدة عظيمة قادرة على منافسة الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية في فضاء الأطماع الاستعمارية كما كان حلمه، وقضى شطراً من عمره في أجواء الأرستقراطية الأوروبية ضمن حاشية الموسيقار الألماني النجم ريتشارد فاغنر قبل أن تفرقهما المواقف الفكرية لا سيما نظرته إلى الأديان، خصوصاً المسيحية - التي اعتبرها نيتشه ديانة تليق بالضعفاء. وقبلها شهد بنفسه حشرجات وآلام الجرحى المعذبين بلا أمل بالنجاة في الحرب الفرنسية - البروسية عام 1871 التي كان تطوع فيها للتمريض، وأصيب لاحقاً هو نفسه بعدها بأمراض كثيرة عولج منها بأساليب بدائية يعتقد أنها تسببت له بمصاعب صحية طوال حياته، وكانت سر إصابته بالجنون قبل موته بـ12 عاماً.
لكن الذي لا يعرفه كثير من مبجلي نيتشه أن أمر تسييسه وتبنيه من قبل النازيين إنما كان نتيجة سذاجة وتآمر شقيقته إليزابيث التي كانت تصغره بعامين. إذ كانت الأخيرة قد تزوجت من مفكر ألماني متطرف كان يؤمن بتفوق الجنس الآري اصطحبها معه إلى باراغواي في أميركا الجنوبية، حيث كان يسعى لإقامة ألمانيا جديدة، لكن مشروعه فشل وأفلس وانتهى به إلى الموت كمداً. وهكذا عندما عادت الأرملة وحيدة إلى ألمانيا وجدت في التركة الأدبية لأخيها - الذي مسه الجنون وقضى نحبه منجم ذهب في أجواء صعود النازية عشرينات القرن الماضي، فزورت مراسلات باسمه ونشرت من أوراقه غير المطبوعة ما يتوافق مع أجواء السوق السائدة حينها التي كانت متعطشة بشدة لأفكار تبرر أوهام التفوق وكراهية الآخر، حتى قيل إن هتلر كان يرى نفسه تجسيداً لفكرة الإنسان المتفوق (السوبرمان) كما كتبها نيتشه. وهناك الآن شكوك قوية بأن كتاب «إرادة القوة» الذي نشرته إليزابيث بوصفه آخر أعمال شقيقها عمل منحول بالكامل من قبل الأرملة التي هي تحديداً وراء أسطورة نيتشه كما نعرفه اليوم، وكانت تنظم زيارات لشبان الحزب النازي إلى قبره، كما استضافت هتلر شخصياً في مقر الأرشيف المخصص لأعماله وأهدته العصا التي كان يتوكأ عليها في أيامه الأخيرة.
لربما، وبعد كل شيء قد صدقت نبوءة فيلسوفنا المجنون الذي قال إن اسمه سيُذكر دوماً مرتبطاً بمآسٍ هائلة تصيب البشر، فها هي ظلاميات الفاشيات الصاعدة تستعيده من جيوب التاريخ.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.