مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

كيف تحوّل ضابط الجيش المصري السابق إلى قيادي في الجماعات المتطرفة

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب
TT

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

يروي مصدر قبلي ليبي من مدينة درنة عن هشام عشماوي، الضابط المصري الفار الذي تحوّل إلى قيادي في الجماعات المتطرفة، والذي ألقي عليه القبض أخيراً، أن عشماوي «لم يكن يعطي إجابات قاطعة أبداً... كنت أسأله. هل أنت من جماعة الإخوان؟ فيبتسم، ويهز رأسه. هل أنت من جماعة (حازمون)؟ فيهز رأسه أيضاً مع الابتسامة نفسها. لكن لا تعرف إن كان هذا يعني نعم أم لا. كان أيضاً ينفق ببذخ. حين يرسل لشراء تموين لجماعته من سوق درنة، يخرج أموالاً كثيرة».

تختصر حكاية المتطرف المصري، هشام عشماوي، الذي ألقت قوات الجيش الليبي القبض عليه يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، كثيراًَ من الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ أعطت الانتفاضات الشعبية في دول عدة في 2011، قُبلة الحياة لعودة جماعات متشددة للعمل على ساحة المنطقة بكل حرية.
لقد استهوت واحدة من هذه الجماعات ذات الطابع الخاص، هي جماعة «حازمون»، عشماوي الضابط المفصول من الخدمة بالقوات المسلحة المصرية. وللعلم، يمتلك مؤسس جماعة «حازمون»، حازم صلاح أبو إسماعيل، خلفية ذات طابع سياسي وديني واجتماعي، فعائلته في شمال القاهرة، لها باع طويل في تقديم الخدمات العامة للفقراء. وكان والد حازم محامياً مشهوراً، ونائباً في البرلمان، وله منشآت تعليمية أقامها في الماضي على نفقته الخاصة. وتشبه هذه الأعمال الخدمية، ما اعتمدت عليه جماعة الإخوان المسلمين في كسب الأنصار، خصوصاً في مواسم الانتخابات العامة.
وكان حازم صلاح أبو إسماعيل يسعى، ومعه هشام عشماوي وضباط فصلوا من الجيش والشرطة، لمنافسة الجميع في انتخابات الرئاسة المصرية في عام 2012، بما في ذلك جماعة الإخوان. ويقول الدكتور ناجح إبراهيم، المنظّر السابق للجماعة الإسلامية: «لو تمكن أبو إسماعيل من خوض الانتخابات لربما فاز فيها. كان لديه وجه طفولي ويتكلم لغة بسيطة وعفوية... كان كثير من المصريين معجبين به». ويضيف مصدر أمني مصري: «كان عشماوي من الأعضاء الأساسيين لحملة أبو إسماعيل الرئاسية».
ويقبع أبو إسماعيل في السجن بالقاهرة حالياً، لصلته بأحداث متطرفة شهدتها مصر عقب الإطاحة بحكم الدكتور محمد مرسي. وبحسب شهادات من شخصيات لها علاقات بجماعات المتطرفين في شرق ليبيا، ومن بينها جماعة عشماوي نفسه، كانت الصفات التي يتحلى بها الأخير شبيهة إلى حد كبير بصفات أبو إسماعيل الخادعة، أي البسيطة وغير الصدامية.

«صداع» للدولة المصرية

ومنذ دخوله ليبيا قبل 4 سنوات، حتى القبض عليه أخيراً، ظل عشماوي (40 سنة)، بمثابة صداع في رأس الدولة المصرية. فهو ضابط سابق لديه خبرة بكثير من المعسكرات والمقار الأمنية المهمة في عموم البلاد. ثم إنه متهم بمحاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم، واستهداف كنائس ومواقع عامة، وتفجير مديرية الأمن بمحافظة الغربية، وتنفيذ أكبر عمليات ضد الأمن الوطني والجيش في منطقة الواحات غرباً وفي سيناء شرقاً، وكذلك الهجوم على مقر على الأقل للاستخبارات في مدينة بلبيس.
مصدر عسكري مصري أوضح أنه يجري في الوقت الراهن التنسيق مع الجانب الليبي لتسلم عشماوي، مشيراً إلى أنه ارتكب جرائم في حق الليبيين أيضاً، وترى السلطات هناك أن تستجوبه أولاً. بينما يقول العميد أركان حرب أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، إن «عشماوي أسهم بشكل مباشر في قتل مئات الليبيين... لقد أودعناه أحد السجون لكي يخضع للتحقيق». وحول هذا الأمر يرى الدكتور إبراهيم: «كان عشماوي عدو الجميع، والجميع يطلبه».
عام 2012، لم يتمكن أبو إسماعيل من إدراج اسمه في لائحة المرشحين للانتخابات الرئاسية في مصر، لأسباب تتعلق بحمل والدته الجنسية الأميركية، وهو أمر يمنعه القانون على المرشحين. فوقفت جماعته التي كانت تجوب شوارع القاهرة في مسيرات مخيفة ومدمرة، مع جماعة الإخوان. ويقول أحد من عملوا مع عشماوي في حملة أبو إسماعيل، إن هذا الضابط السابق لم يكن متحمساً لوقوف أبو إسماعيل مع الإخوان، لكنه لم يصطدم مع أحد، بل نأى بنفسه عن أي جدل، وانتقل إلى سيناء التي يعرفها جيداً منذ كان رائداً في قوات الصاعقة. ومن هناك نشط مع الجماعات المتشددة التي عرفت وقتها باستهداف خط الغاز المصري العابر، من سيناء إلى الأردن وإسرائيل.

فترة رئاسة مرسي

محمد مرسي القادم من جماعة الإخوان فاز يومذاك بمنصب رئيس الجمهورية، والتفت حوله معظم التيارات الإسلامية الأخرى، بما فيها القطاع المتشدد في الجماعة الإسلامية بقيادة عاصم عبد الماجد (هارب خارج مصر)، وأيضاً تيارات عرفت باسم التيار المدني وتيار الاشتراكيين الثوريين. لكن معظم هذه الروابط انتهت سريعاً وانفضّت من حول مرسي، ومنها حزب النور (الديني) وأحزاب عدة اقترنت بأسماء مشهورة مثل الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحمدين صباحي المرشح الرئاسي الاشتراكي السابق في مصر، خصوصاً بعدما أصبحت العمليات في سيناء ضد الجيش والشرطة مثيرة للقلق.
لقد ضعضع صراع داخلي مكتوم، كتلة الإسلاميين، خلال السنة التي حكم فيها مرسي مصر، مثلما حدث عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الخلاف الأساسي يدور حول مدى الالتزام بفكر منظر جماعة الإخوان المتطرف سيد قطب. وبرز فريق داخل الإخوان يحاول تطبيق أفكار قطب التكفيرية وهو أمر يستهوي جماعات متشددة، تمتد من جبل الشعانبي في تونس إلى وديان سيناء، وهي الجماعات التي التحق بها عشماوي. وفي المقابل، كان هناك فريق آخر يدعو إلى التمسك بالإصلاحات و«الاعتدال»، وهي مصطلحات نَحَتَها داخل الجماعة مرشدها الأسبق عمر التلمساني عقب خروج ألوف من أتباع الجماعة من السجن إبان عهد الرئيس الراحل أنور السادات. ولقد تأثر بها دعاة من الإخوان في السودان وتونس وغيرها، لكنها لم تصمد بعد انتكاسة حكم الإسلاميين أخيراً.
وفق الدكتور ناجح إبراهيم: «فكر عشماوي، هو نفسه فكر القيادي الإسلامي المتشدد رفاعي سرور، المتوفى في 2012». ويضيف أن رفاعي سرور هو أحد أهم تلاميذ الشيخ سيد قطب الأخيرين، وهو صاحب الفكر التكفيري الانقلابي. وللعلم، عاش ناجح إبراهيم مع رفاعي سرور 3 سنوات، ويقول عنه إنه «المفكر الأساسي لمثل هذه الجماعات (التكفيرية)، ويعتمد على أسلوب أدبي (جذاب) في الكتابة». ويضيف: «هذه المجموعات كانت وقتها بعيدة عن الإخوان، وكانت تؤيد (حازمون)، بعد ثورة 2011، ظناً منها أنه أقرب إليها. لقد كان فكرها مضاداً لفكر الإخوان»، مشيراً إلى أن فكر الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكن قد تحول إلى تأييد منهج سيد قطب بالشكل السافر الذي أصبح عليه في السنوات الأخيرة. أي بعد فشل تجربة حكم الجماعة في مصر وليبيا وتونس.

تغيرات لافتة

باختصار، يعتقد كثير ممن عملوا مع الجماعات الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضي، أن أحداث 2011 قلبت الأوضاع رأساً على عقب، لأن عدداً كبيراً من الأجيال الجديدة التي انضمت للجماعات المتشددة لم يأتوا من خلفيات ريفية وبدوية أو من أطراف المدن، كما كان الحال في الماضي. بل ظهروا في مدن كبيرة مثل القاهرة، وطرابلس، وتونس، ودمشق. ومن بين هؤلاء أبناء عائلات ثرية أو متوسطة من النمط المحافظ، ومن بينهم خريجو كليات عليا، منها كليات عسكرية، كما الحال مع عشماوي. ويقول إبراهيم: «كل هذه أجيال جديدة... كانوا أناساً عاديين، مثل الجميع، وتغيّروا بعد الثورة (2011)».
لقد اجتذبت حركة «حازمون» عناصر كثيرة كانت تتطلع إلى لعب دور مع أبو إسماعيل، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية. وجرى التأسيس وقتها لجماعة «أنصار الشريعة» انطلاقاً من محافظة الشرقية، شمال القاهرة، بقيادة رجل يدعى أحمد عبد الرحمن، وتأسيس تنظيم «أجناد مصر» في محافظة الجيزة، وتأسيس جماعة «أنصار بيت المقدس» في شرق البلاد.
إلا أن معظم هؤلاء تفرقت بهم السبل خلال الفترة القصيرة التي صعد فيها مرسي إلى الحكم. وبحسب إبراهيم: «كل هذه العناصر صبت فيما بعد في تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، وبايعوا كلهم أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. وحين ظهرت سفينة (داعش)، بايع كثير منهم أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم. وانفصلت هذه العناصر عن المجموعة الأساسية، التي كان فيها عشماوي».
كانت معظم اللبنات الأولى للفكر المتطرف لمثل هذه الجماعات موجودة حتى أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك. ووفق ناجح إبراهيم: «كان الرعيل الأول لمثل هذه الجماعات المتطرفة يتمثل في (حركة التوحيد والجهاد) التي قضى عليها حسني مبارك. إلا أن ثورة 25 يناير (كانون الثاني) أعطتهم قبلة الحياة، وانضم لهم عشماوي، وشرائح صغيرة السن من الطبقة الراقية، ولم تعد هذه النسخة تضم عناصر ذات طابع بدوي ريفي فقط. كل العلميات العسكرية القوية التي قام بها (أنصار بيت المقدس) كانت من تخطيط عشماوي».

عشماوي و«داعش»

وبمجرد أن انشق جانب من «أنصار بيت المقدس» وأعلن مبايعته البغدادي، غادر عشماوي سيناء وأخذ يتردد على سوريا، مثل آخرين من حركة «حازمون». ثم انتقل بعد ذلك إلى ليبيا، واستقر في درنة بشكل دائم منذ 2014. و«... حين وجد أن (أنصار بيت المقدس) ذهبوا لـ(داعش) تركهم ومشى. ولو تصادم معهم لقتلوه. أنت تعرف أن (داعش) في ليبيا أباح دمه أيضاً»، حسب كلام إبراهيم.
على أي حال، ومنذ وصول عشماوي إلى درنة، وجد هناك أرضاً خصبة للعمل. فلقد تغير كثير من الأمور في المنطقة، بعد عزل مرسي في مصر، وأصبحت قيادات جماعة الإخوان الغاضبة من سجن رئيسها ومرشدها العام محمد بديع، أكثر فجاجة في التعبير عن الفكر القطبي التكفيري المتسم بالعنف والقتل والتفجير. وظهرت حركات انتقامية دموية منبثقة عن جماعة الإخوان نفذت عمليات مروعة في عموم مصر.
في هذه الأثناء، تغيرت كذلك مجريات أخرى تتعلق بكراهية كثير من الناس لجماعة الإخوان، إذ أسقط الناخبون في ليبيا غالبية المرشحين الإخوان في انتخابات 2014، وخسر إخوان تونس كثيراً من المكاسب أيضاً، بعدما كانوا في مقدمة المتسابقين السياسيين عقب الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
وفي أفريقيا، بايع تنظيم «بوكو حرام» البغدادي، وازدادت عمليات «حركة الشباب» الصومالية المتطرفة عبر الحدود. وتماهت الحدود الفاصلة بين «القاعدة» و«داعش» إلى حد كبير. وتوسع نشاط المتطرف الجزائري مختار بلمختار من شمال مالي وجنوب الجزائر، إلى وسط أفريقيا وجنوب ليبيا. واجتذب تنظيمه (المرابطون)، عناصر من دول مختلفة، من بينهم عشماوي.
الدكتور ناجح إبراهيم يشرح هنا أن مثل هذه التنظيمات «كانت لها امتدادات في الجزائر وتشاد وكل الأماكن. كل هذه الأفكار المشتركة سهلت لعشماوي أن يتعامل مع الكل. وكما قلت لك، لم يكن تصادمياً». ويبدو أن هذا الضابط السابق استفاد بشكل كبير من تحول كثير من عناصر الإخوان إلى الفكر القطبي الأقرب إلى «القاعدة»، ليس في مصر فقط، ولكن عبر المنطقة، في أعقاب الخسائر التي لحقت بالجماعة، وهو أمر تزامن كذلك مع ظهور «داعش» الأكثر دموية من «القاعدة».

عشماوي في درنة

ويقول الدكتور ولاء خطاب، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية في ليبيا، إن عشماوي - الذي يلقب أيضاً بـ«أبو عمر المهاجر» - حين جاء إلى ليبيا انضم إلى ما يعرف باسم «شورى ثوار درنة» الإرهابي، المكوّن من «كتيبة أبو سليم» المنبثقة عن فكر «القاعدة». وظلت هذه الجماعة تحظى بدعم من بعض قيادات الغرب الليبي، ومن جهات خارجية أيضاً تؤيد المتطرفين. وظهرت أصوات محلية في ليبيا، وأخرى من الخارج، تدعو الجيش الليبي إلى فتح ممرات آمنة لخروج المحاصرين في درنة، بعدما تقطعت السبل بمئات المتطرفين، وكان من بينهم عشماوي نفسه.
ويتابع خطاب أن القبض على عشماوي حياً «يعد ضربة قوية للتيار الإسلامي المسيطر على طرابلس والمنطقة الغربية، إذ كان هذا التيار ينكر دائماً وجود عناصر غير ليبية بين صفوف (شورى ثوار درنة)». ويشير إلى أن عشماوي حين جاء لدرنة قبل سنوات وجد تحالفاً بين «القاعدة» وجماعة الإخوان المسلمين. ويستطرد: «يعتبر تنظيم القاعدة، أو كما يسمى في ليبيا بـ(مجالس شورى الثوار)، الجناح العسكري لحركة الإخوان، أو التيار الإسلامي في ليبيا، ويتم استخدام هذا الجناح للضغط على الحكومة الليبية في الشرق، وكذلك على المجتمع الدولي... تحليلي الشخصي أن عشماوي انضم في أول الأمر إلى كتيبة أبو سليم، التي أطلق عليها فيما بعد مجلس شورى ثوار درنة، فترة سيطرة الإخوان على مصر، حيث كانوا يسهلون عملية تنقل الإرهابيين من وإلى ليبيا ومصر... لم يكن عشماوي محباً للظهور الإعلامي، ومع ذلك انتشرت له، على مواقع الإنترنت، مقاطع يظهر فيها شخصية قيادية، وقاضياً شرعياً في تنظيم مجلس شورى ثوار درنة».
لقد عاش عشماوي الفترة العصيبة التي كان مطلوباً فيها من التيارات المتشددة عبر العالم اختيار إحدى الضفتين؛ إما ضفة «القاعدة» والظواهري، أو ضفة البغدادي و«داعش». ووقع صراع بالأسلحة الثقيلة في درنة بين الفريقين، وفي مناطق أخرى في سوريا أيضاً. كما وصلت الخلافات إلى مناطق النفوذ التي كان يتقاسمها أنصار الظواهري وأنصار البغدادي في جنوب ليبيا.

التقى مع المختار

ووفقاً لمصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في ليبيا، التقى عشماوي مع بلمختار، عدة مرات، لبحث هذه القضية. ويبدو أنه جرت إدارة الأمر بحرفية نادرة. وتمكن عشماوي في الشهور الماضية من المرور عبر مناطق نفوذ لـ«داعش» في منطقة الهروج الصحراوية في ليبيا، دون أن يقدم التنظيم على قتله. ويضيف المصدر: «... في أواخر 2016، دفع بلمختار باثنين من أكبر مساعديه إلى درنة لتعضيد نفوذ عشماوي. وهما رجل جزائري مخضرم، يلقب بـ(أبو الهمام)، وآخر مغربي يدعى (الحدوشي). الاثنان كانا في السابق من معتنقي الأفكار المعتدلة، إلا أنهما تحولا في السنوات الأخيرة وأصبحا من الداعين لأفكار سيد قطب انطلاقاً من مقر عشماوي في درنة، ومع ذلك كانت لديهما علاقات جيدة مع قادة من القاعدة وداعش والإخوان في ليبيا ودول الجوار، وهذا أنعش عشماوي لبعض الوقت». إلا أن انتصارات الجيش الليبي ضد الجماعات المتطرفة في مدينة بنغازي، عاصمة الشرق، تسببت في تضييق الخناق على باقي الجماعات خصوصاً في درنة. ولقد فرض الجيش حصاراً على المدينة قبل أن يقتحمها في مايو (أيار) الماضي. وفي الشهور التي سبقت القبض عليه، خسر عشماوي أبرز مساعديه في درنة، ومن بينهم عمر ابن القيادي القطبي الراحل رفاعي سرور، كما سقط معه اثنان من مرافقيه المهمين؛ أحدهما ليبي والثاني مصري.
وأخيراً، ظهر عشماوي أثناء القبض عليه في مقاطع فيديو، من بينها مقطع يقوم فيه ليبيون بضربه، وهم يذكرون له أسماء من يقولون إنهم قتلوا على أيدي الجماعات المتطرفة التي كان يتزعمها في درنة.

درنة... مدينة للفنون خرّبها المتطرفون

> ظهرت فرق موسيقية وشخصيات طبية وأدبية في درنة، وانتشرت منها في باقي أرجاء ليبيا والعالم. لكن هذا كان قبل عام 2011. أما في المرحلة التي أعقبت ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي»، فقد تحولت درنة فيها إلى مدينة لقطع رقاب الخصوم في الساحة العامة، على أيدي تنظيمات متشددة.
منذ سقوط نظام معمر القذافي تقاسم النفوذ في المدينة الجبلية الشاطئية الواقعة على البحر المتوسط، جماعات مختلفة، بعضها بايع تنظيم القاعدة، والبعض الآخر مع تنظيم داعش. وانتشرت في المدينة جنسيات مختلفة لمتشددين من آسيا وأفريقيا ومن دول عربية عدة، منها مصر وتونس والجزائر.
يبلغ عدد سكان درنة نحو 80 ألف نسمة. وكانت المدينة مركزاً لتنظيم المسابقات الفنية والأدبية في شرق البلاد. ومع احتدام المنافسة المسلحة بين المتصارعين عليها، اضطر ألوف السكان لمغادرتها في السنوات الأربع الماضية، والإقامة لدى الأقارب في مدن مجاورة أو خارج الحدود. والتحق كثير من أبنائها بقوات الجيش على أمل تحرير المدينة من الجماعات المتشددة، وهو ما حدث أخيراً.
وتظهر المباني المهدمة والسيارات المحترقة آثار الخراب الذي خلفته العناصر التي كانت تتخذ من درنة قاعدة للعمل في ليبيا وعبر الحدود، حيث ظلت تقاوم دخول الجيش الوطني للمدينة لأكثر من 3 سنوات. وعسكر مئات المتطرفين في ضاحية السيدة خديجة (لميس سابق)، وفي ضاحية المغار ذات الأزقة الضيقة، وفي مدخل المدينة الجنوبي حيث يمتد واديها الشهير الذي يقسم المدينة إلى شطرين، إلى أن تمكنت «قوات الصاعقة» و«القوات الخاصة» الليبية من اقتحام هذه المواقع أخيراً.
وفي تسعينات القرن الماضي، حاول تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، المتطرف، نقل مقره من أفغانستان إلى جبال درنة، لكن قوات الجيش في عهد النظام السابق، تصدت له، وقصفت مقرات الجماعة بالطيران. وبعد رحيل القذافي ظهرت الجماعات المتشددة مرة أخرى. واستغلت الفوضى وسيطرت على المدينة وطردت منها قوات الجيش والشرطة.
وفي عمليات يقوم بها الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر، منذ شهور، تم القضاء على مراكز الجماعات المتطرفة، ويقوم الضباط والجنود، في الوقت الراهن، بتمشيط الضواحي والمغارات الجبلية التي يحتمل وجود باقي العناصر الإرهابية فيها، حيث تقول معلومات الجيش إن هناك عشرات من المتطرفين ما زالوا يختبئون في المدينة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.