«بيان الإخفاق»... نصائح ذهبية لمراهق معاصر

ريجيس دوبريه ينصح في كتابه الأخير ابنه بألا يتبع مساره

ريجيس دوبريه
ريجيس دوبريه
TT

«بيان الإخفاق»... نصائح ذهبية لمراهق معاصر

ريجيس دوبريه
ريجيس دوبريه

لا يكفّ المفكر الفرنسي اللامع ريجيس دوبريه عن الإنتاج الفكري الطارح للأسئلة والمثير للنقاش واللصيق بعالم اليوم وتحولاته المتسارعة. تبدو أفكاره كأنها ذات معين لا ينضب، فهو غزير الإنتاج، يصدر كتابين على الأقل في كل عام. وعند كل إصدار، يصير نجم أغلفة المجلات وصفحات الجرائد وضيف الأثيرين المسموع والمرئي بلا منازع في فرنسا التي ما زالت تفرد حيزاً ولو متناقِصاً للثقافة الرصينة والمفيدة. وضمن هذا المنظور فإن دوبريه يمثل «المثقف» بامتياز بتعبير إدوارد سعيد من حيث دوره في الاشتباك المستمر مع واقع مجتمعه عبر أفكاره الحيوية وطروحاته التي تصب في المصلحة العامة.
ولكتابه الأخير «بيان الإخفاق» (منشورات غاليمار) مكانة شخصية إن جاز التعبير، فهو مكتوب على شكل رسالة وموجّه لابنه المراهق أنطونان البالغ من العمر ستة عشر عاماً، عند لحظة مفصلية في حياته، حيث يكون الخيار أو التوجه الدراسي مهماً في بلورة مستقبل المرء وعمله، فما النصيحة للاختيار: بين الفلسفة والأدب بقيمتهما الرمزية الرفيعة، أو عالم المال والأعمال ببريقهما النقدي، أو التكنولوجيا بسحرها وقوتها وإقناعها العلمي الواقعي، أو عالم السياسة النفعي المتقلب؟ وكيف يمكن لمن في عقده السابع وصاحب تجربة متنوعة وطويلة وغنية نصح وإقناع مراهق يعيش عالم اليوم الرقمي؟ «عمرك ستة عشر عاماً، وأنا في السادسة والسبعين. هاوية. أن يكون المرء أكبر من اللازم فهذا لا يعطي أباً السلطة المطلوبة كي يجعل ابناً يسمع كلامه. أنت تسألني عمّا تفعل بحياتك، وأنا أسأل نفسي عمّا فعلته أنا بحياتي. تريد الخروج من الطفولة، وأنا أحلم بالرجوع إليها. فكيف أوجّهك في غابات الغد؟».
الجواب موجود لا في مضمون الكتاب فحسب طبعاً، بل أيضاً في أسلوبه المغلّف بروح الفكاهة والظرف، والبعيد من الأوهام، إذ لا يتردد دوبريه في أن يقول لابنه مثلاً إنه مثل «جد بمثابة أب»، وأنه لو أراد النجاح في حياته فعليه ألا يتبع خصوصاً مسار أبيه «المتشيطن المشاكس، والكاتب الركيك الغث، والصحافي الرديء». فدوبريه لا يتردد في أخذ خيبات أمله و«إخفاقاته» بخفة، من دون أن يتخلى بالطبع عن أسلوبه «الإشاري» في الكتابة، حيث تحيل الصفات المشتقة من أسماء علم وأحداث معينة إلى أفكار معقدة وقوية وواقعية.
استعار دوبريه لكتابه عنواناً يستبطن عالم المال والأعمال، من دون أن يعتّم على مضمونه الفكري والشخصي. فـ«بيان الإخفاق» يعني باللغة التجارية محصلة عمل تاجر أو شركة على شفير إشهار الإفلاس، وباللغة الاستعارية التي يبرع فيها دوبريه، فإنه يعني تقريراً شخصياً عن «إخفاق» التجربة الناجم لا من صواب خيارات المثقف بقدر ما هو ناجم من أثر التحولات الكبرى في عالم الرأسمالية المعولمة في حياة الفرد، حيث الصورة والشبكة والأرقام والتسويق الإعلامي تحل محل الكلمة والأفكار.
الكتاب شخصي بقدر ما هو سياسي، فيه يعيد دوبريه تتبع أثر طريقه السياسي والآيديولوجي. ووراء لفظ «الإخفاق» الظاهر، ثمة عمل رائع لنقل خلاصة التجربة، إذ هو يكتب من دون عاطفة لكن بحساسية عالية، كاشفاً أوهامه الضائعة وأوهام جيل بأكمله في الوقت نفسه، مركزاً على فكرة رئيسية تقول بأنه شاهد على نهاية حقبة، عند تلك البرهة تماماً حيث تُقلب الصفحة. فالبنية التحتية نفسها تغيرت، إذ إن الاتصال الجماهيري والتأثير في المجتمع عبره، لم يعد يمرّ من طريق الكتب وتقريرات الخبراء، ولم يعد ثمة منظور ولا ذاكرة، فقد حلّت الصورة السريعة تلو الصورة الأسرع مكان كلّ شيء تقريباً، وصار الظهور المستمر غاية في حدّ ذاته.
دوبريه الذي عمل كما هو معروف مستشاراً سياسياً (1981 - 1985) في قصر الإليزيه إبّان حكم فرنسوا ميتران، ينصح ابنه بالابتعاد عن السياسة، مبيناً له الأمر بخلاصة لا تخلو من الاستهزاء الذاتي لكن من دون أية شفقة على الذات: «على أي حال، لو أردت الانخراط في مجال العلوم السياسية من أجل أن تركب سيارة (ليموزين) تابعة للحكومة ذات نوافذ بزجاج غامق، وفّر على نفسك إذن الامتحانات، والأطروحات والاستدلال الدقيق المتنوع. أكرر لك أن التفكير المنطقي لا علاقة له بالأمر في مجال نشاط غير عقلاني تماماً».
ويفصّل الأمر من تجربته، حيث يسرد مصير كتب سياسية له منها «نقد الأسلحة» (1974)، وفيه نقد ذاتي مفصل وموثق لنظرية بؤرة الثوريين المتمردين الطليعيين التي عرضها في كتاب «ثورة في الثورة» (1967)، وكتاب «السلطة والأحلام» (1983)، و«إمبراطوريات ضد أوروبا» (1985)، حيث الأول ينتقد الواقعية السياسية، والثاني «ينفّس» التهديد السوفياتي الشمولي المبالغ في تقديره، آنذاك. ويلاحظ أن أياً من تلك الكتب لم يحمل ولو تأثيراً بسيطاً لدى الفئة الموجهة لها. ويعلّق بظرف أن تلك الكتب لم تضف ولا نغمة في أغنية الشيوعيين «الغد لنا أيها الرفاق». الشيوعيون أنفسهم، الفرنسيون منهم تحديداً، كانوا أيضاً موضوع كتاب/ رسالة عام 1978، نبّه فيها دوبريه إلى انسداد أفق الحزب. بظرف بالغ ومن دون مرارة يسرد ريجيس مصير تلك الكتب - الواقعية والمستشرفة حقاً - من الإهمال حيث «النسخ الباقية منها تراكمت في القبو، وحتى بائعو الكتب المستعملة يترددون في شرائها بالوزن. المضحك في الأمر، أنني لن أحصل على عائد من هذه الكتب غير المباعة وغير القابلة أصلاً للبيع. بيد أنني بعد قراءتها مرّة أخرى، أستطيع أن أرى راهنيتها، إذ لطالما أكدت صحَتها الأحداث».
وربما كانت راهنية كتابة دوبريه (وقتها في نهاية عقد الثمانيات من العقد الماضي) عن الهجمات غير التقليدية/ العمليات الانتحارية حيال قوى عظمى وضمن سياقها وما تفرضه من سيطرة كلية، من أقوى الدلائل على ضعف اهتمام أصحاب القرار السياسي بكتابات المفكر: «لقد تحدّثت عن احتمال قوي للالتفاف على الردع النووي من خلال (هجمات غير تقليدية) تحت سيطرة غير مباشرة من أي قوة عظمى، وبالتالي فمن الصعب التحايل عليها عبر الدبلوماسية، إذ إن منطقها ليس منطقنا، والسبب أنه بمجرد أن يصير الموت أمراً مرغوباً وتعويضياً، فليس من أضرار غير مقبولة. كان على بن لادن أن يدلي بهذا التأمل، لكن لا، أدقّق القول، بعد هذه التنبؤات، فإن مجال تأثيري لم يتجاوز جدران مكتبي».
ولا ينقصه الظرف في الاستنتاج إذ ينصح ابنه خصوصاً بتجنب أن توكل إليه السلطة كتابة تقرير، «لأن ثمة احتمالاً (9/ 10) بأن يكون كحشرجة الموت المخصصة لتهدئة عطشنا للشعور بالأهمية». ويلخص عملاً مماثلاً بالقول: «أن ترغب في تمرير الأفكار ضمن مهنة يتنازل فيها منطق الأفكار عاجلاً أم آجلاً لصالح منطق القوى، يبدو لي أمراً مازوشياً».
ومقابل تلك النصيحة/ الوصية بالابتعاد بقوة عن السياسة، يميل دوبريه إلى تفضيل خيارات أخرى، قد تبدو متناقضة مع معرفتنا بمسيرته الفكرية، إذ يطرب لاختيار ابنه للعلوم الدقيقة، والبحث العلمي في التكنولوجيا، لأن الجهد الفكري المستثمر فيهما أكثر جدوى برأيه، من حيث المنفعة العامة. ويفصح عن إعجابه بـ«بساطة العلماء» وافتتانه بطبعهم الخاص في ألا يبحثوا عن إثارة الإعجاب.
وفي كلام آخر، ينتصر دوبريه للتقدّم العلمي مقابل عالم السياسة القائم على المصالح والقوّة. وليس في الأمر مفاجأة حقاً، إذ إن الفكرة القوية التي كانت سائدة في فترة شبابه وصقلته كما صقلت غيره من المفكرين والفلاسفة، قالت ببساطة إن التقدم العلمي هو الأساس والسبيل لتقدّم المجتمع، لكن دوبريه اعترف لاحقاً بأنه تم تضخيمه على حساب الدين العائد بقوة في المجتمعات (العربية والغربية) كما لاحظ في أكثر من كتاب له. مع ذلك، أطلَّت تلك الفكرة «الصحيحة» من ثنيات طريق الوصية الجميلة: التقدم العلمي مقابل دهاليز السياسة.
صحيح أن الأدب هو الخاسر الأكبر في جعبة النصائح تلك، لكن العزاء في أسلوب دوبريه الذكي المليء بالإحالات والإشارات، التي تبطن ثقافة واسعة وإدراكاً حقيقياً للحظة «نهاية عصر» التي نعيشها اليوم.
إن كتاباً/ وصية كهذا، يصبح نوعاً من المتعة الخالصة، وللقارئ أن يغبط أنطونان على ما يقول له أبوه دوبريه: «أتمنى لك أن تؤمن بشيء ما، وألا تُراكم المعارف فحسب... وحافظ على حصتك من النار. إنها الوقود الذي نحتاج إليه للخروج عن العادي المألوف، بكل لا مسؤولية».
- كاتبة سوريا


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»