كوبنهاغن... مدينة السعادة

أيام معدودات تكفي للتعرف على مكامن سحرها وجاذبيتها

أغلب الدنماركيين يتنقلون بالدراجات حماية للبيئة
أغلب الدنماركيين يتنقلون بالدراجات حماية للبيئة
TT

كوبنهاغن... مدينة السعادة

أغلب الدنماركيين يتنقلون بالدراجات حماية للبيئة
أغلب الدنماركيين يتنقلون بالدراجات حماية للبيئة

منذ سنوات لم ينازعها أحد اللقب الذي تفتخر به أكثر من أي شيء آخر: المدينة الأكثر سعادة في العالم. تعرف أن العراقة والتاريخ والمعمار البديع والمتاحف الغنية والمأكولات الشهية، لا تكفي وحدها لتوفير العيش الرغيد والهناء للمواطن الذي تدفعه وتيرة الحياة كل يوم إلى دوامة من السعي المحموم والسباق الذي لا يهدأ مع الوقت.
تكفي نهاية أسبوع لزيارة كوبنهاغن قبل أن ينسدل عليها معطف شتاء الشمال القاسي، للتمتع بمفاتنها الهادئة، والوقوف على نمط الحياة الاسكندنافي الذي يستحوذ على إعجاب الذين أتخمهم السائد من بذخ وصخب في الحواضر السياحية.
صغيرة هي «عروس الشمال» التي تحرسها حورية صغيرة تجلس عند خليج مينائها على أبواب بحر البلطيق. تودع الراحلين وتستقبل الوافدين منذ نيف ومائة عام عندما أراد أحد أثرياء المدينة تكريم راقصة باليه شهيرة وقع في هواها عندما شاهدها في العرض المستوحى من قصة «الحورية الصغيرة» لهانز كريستيان آندرسين. طلب من النحات الشهير إدوارد أريكسين أن يصنع له تمثالاً من البرونز على صورتها. لكن الراقصة رفضت التجاوب مع طلب النحات للوقوف أمامه، فطلب من زوجته أن تقوم بهذه المهمة واكتفى بنسخ وجه الراقصة ورأسها.

قناة «نيهافن»
«الحورية الصغيرة» هي اليوم نصب وطني ذائع الصيت، ورمز المدينة السعيدة الذي نبدأ منه جولتنا في اتجاه قناة «نيهافن» التي تتعرج مياهها بسكينة بين الأحياء الجميلة والمقاهي، التي تتمدد على الأرصفة النظيفة في مثل هذه الأيام التي ما زالت المدينة تنعم خلالها بنعومة المناخ الصيفي. غيوم شفافة واطئة تظلل المباني المطلية بألوان زاهية تنعكس عليها أشعة الشمس الرفيعة التي يتسنى لها أن تتسلل عبر غلالة الغيم الرقيق، وهدوء يكاد يكون ريفياً تنساب فيه الحركة بين الشوارع المقصورة على المشاة والزاخرة بالحوانيت الصغيرة، إلى جانب متاجر الموضة والتصاميم الدنماركية التي باتت تنافس الإبداعات الإيطالية والفرنسية، ويتزايد المقبلون عليها في شتى أنحاء العالم.

القصر الملكي
نتابع جولتنا مبتعدين عن مجرى المياه في القناة التي تتهادى القوارب على صفحتها، ونقترب من القصر الملكي الذي تزنره حدائق مشهورة بأشجارها المعمرة التي بدأت أوراقها تتلون وتتساقط على أبواب الخريف. وعلى مقربة من القصر الملكي، تقوم دار الأوبرا التي صممها مؤسس المدرسة المعمارية الدنماركية هينينغ لارسن، إلى جانب قلعة «كاستيليت» التي تتوسط مساحات خضراء شاسعة تضفي على كوبنهاغن مسحة طبيعية قلما نجدها في المدن الكبرى.
عند الطرف الشرقي لهذا الامتداد الأخضر في قلب المدينة يطالعك مدخل واسع يفضي لواحدة من أجمل مدن الملاهي وأعرقها في العالم: تيفولي، التي لست في حاجة إلى أن تكون برفقة الصغار للتمتع بألعابها وأجوائها المرحة.

جزيرة كريستيانهافن الاصطناعية
قبل مواصلة الجولة على أحياء المدينة ومعالمها التراثية والسياحية، نقترح التوقف عند جزيرة كريستيانهافن الاصطناعية التي تتمتع بحكمها الذاتي وإدارتها الحرة داخل كوبنهاغن. فهي ليست دنماركية ولا أوروبية، تطالعك عند مدخلها لافتة كُتب عليها «أنت تغادر الاتحاد الأوروبي». التصوير ممنوع في هذه الجزيرة الصغيرة التي يُسمح بزيارتها وارتياد مقاهيها ومطاعمها.
عودة إلى كوبنهاغن، ومن المحطات التي تستحق التوقف عندها، متحف التصميم الحديث الذي يفتخر به الدنماركيون ويُقبل عليه فنانون أيضاً من كل أنحاء العالم يجذبهم الأسلوب الاسكندنافي الذي يشكل مدرسة قائمة بذاتها.
بعد زيارة المتحف ندعوك إلى جولة على متن زورق سياحي فخم في الأقنية التي تتعرج بين أحياء المدينة. فهي السبيل الأفضل لمشاهدة معالمها في جو من الاسترخاء والراحة. خلال هذه الجولة الهادئة سوف يتاح لك مراقبة الأناقة الهادئة التي يتميز بها الدنماركيون في كل أنماط عيشهم: من المأكل إلى الملبس، ومن أسلوب التعاطي مع الآخرين إلى الحرص على الطبيعة واحترام التنوع.
عند النزول من الزورق بإمكانك استخدام الدراجة الهوائية لمتابعة تجوالك في المدينة التي يزيد عدد الدراجات فيها على عدد السكان، والتوجه إلى منطقة «ستروغيت» التي توجد فيها أكبر مساحة مخصصة للمشاة في أوروبا، وحيث توجد المتاجر للعلامات الدنماركية الذائعة الصيت في التصميم والموضة والديكور والأدوات المنزلية.
هنا، يتبدى لك لماذا يقال عن المرأة الدنماركية إنها «الفرنسية الجديدة» من حيث أناقتها وتفردها بشخصية مميزة. ثمة أسلوب دنماركي نسيج وحده يفرض ذاته في معادلة الأناقة العالمية.
من الأدلة الساطعة على هذا الأسلوب مجموعة فنادق تجسد بهندستها وأثاثها وديكورها الذوق الدنماركي الرفيع. لكن القدرة الإبداعية في هذه المدينة التي لم تُعرف يوماً بمأكولاتها الشهية، نجدها في مطعم Noma الذي فاز لأربع سنوات متتالية بجائزة أفضل مطعم في العالم، وقرر صاحبه رينيه ريدزيبي إغلاقه لفترة والانتقال إلى موقع آخر في حي كريستيانيا، محاطاً بحديقته الخاصة، حيث ينتج خضراواته ويربي دواجنه على مدار العام. وهو يضم طهاة من جنسيات وثقافات عدة، يتنافسون على ابتكار أشهى الأطباق من المنتجات المحلية بأسعار ليست في متناول السواد الأعظم من البشر.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».