تاريخ رائع لسينما بريطانية حملت هموماً وطموحات

على هامش مهرجان لندن السينمائي

مشهد من «انظر إلى الخلف بغضب»
مشهد من «انظر إلى الخلف بغضب»
TT

تاريخ رائع لسينما بريطانية حملت هموماً وطموحات

مشهد من «انظر إلى الخلف بغضب»
مشهد من «انظر إلى الخلف بغضب»

على أبواب الدورة الثانية والستين من مهرجان لندن السينمائي الدولي الذي ينطلق بعد غد (العاشر من أكتوبر/تشرين الأول)، تستعيد السينما البريطانية بعض تألقها للمناسبة.
بالطبع هناك أفلام بريطانية كثيرة مشاركة، كما مر معنا عندما استعرضنا أفلام المهرجان المقبل قبل أيام («الشرق الأوسط»، الرابع من أكتوبر)، لكن هذا الحضور بعضه نوستالجي متوفر في قسم خاص باسم Films in Treasures يتألف من 17 فيلماً طويلاً من أفلام الأمس المجيدة لجانب برنامج من الأفلام القصيرة الصامتة التي تم إنتاجها في بريطانيا ما بين 1897 و1901.
الحضور الآخر مشتق من الحياة السينمائية البريطانية ذاتها. كالكثير من الدول الأوروبية الأخرى، عرفت السينما البريطانية مراحل متعددة بدأت بالطبع بتلك المرحلة البكر التي تُوجت بأفلام قصيرة من مخرجين أسسوا الفن السابع في بريطانيا، مثل سيسيل هبوورث، وجورج ألبرت سميث، وبيرت أكرز، وروبرت و. بول.
بعدها دخلت السينما البريطانية مضماري السينما الطويلة والناطقة وانتقلت من تجاربها الأولى في هذا المجال إلى مضمار سينما تنضم، بالجيد منها والرديء، إلى الحقبة الكلاسيكية ذات المناهج التقليدية غالباً.
حتى مطلع الستينات، بقيت تلك السينما المتوفر الترفيهي الوحيد عارضة أعمالاً تنهل من التاريخ والدراما والمسرح بأساليب عرض تتوجه إلى القاعدة العريضة من الجمهور. لم تخل من الأعمال الجيدة بالطبع، لكنها كانت من سياق السينما إما كاستعراضات كبيرة أو ككوميديات عابرة أو دراميات أو بوليسيات تشويقية. كيفما نظرنا إليها اليوم، كانت - في غالبيتها - من سينما النوع المتماثل مع ما وفرته هوليوود في تاريخها.

نغم واحد
فجأة، وفي سنة 1959، العام ذاته الذي انبثقت فيه سينما الموجة الجديدة في فرنسا بفيلم فرنسوا تروفو «النفخات الأربعة»، قدم جاك كلايتون «غرفة علوية» (Room at the Top) وقدّم توني رتشردسون فيلمه «انظر للخلف بغضب» (Look Back in Anger). وبينما لحق جان - لوك غودار بزميله تروفو في العام التالي بفيلمه الأول «نفس لاهث»، قام كارل رايز (وهو تشيكي الأصل عاش وعمل في لندن لمعظم حياته) بتقديم «مساء السبت وصباح الأحد». رتشردسون عاد في العام 1960 بفيلم «المرفّه» (The Entertainer) وتبعه سنة 1961 بفيلم «طعم العسل» ثم بفيلم «وحدة عداء المسافة الطويلة» (The Loneliness of the Long Distance Runner) في العام التالي. الأفلام بعد ذلك تتابعت مع مخرجين بديعين جدد، من بينهم دزموند ديفيز، ولندساي أندرسن، وبيتر ياتس، ورتشاردلستر.
يبدو الأمر الآن كما لو أن السينماتين، البريطانية والفرنسية، رقصتا على نغمة واحدة في ليلة وحيدة امتدت لبضع سنوات. وهو كذلك إلى حد بعيد كون الدوافع التي حذت برتشردسون ورايز وياتس وأندرسن وسواهم في إنجلترا هي ذاتها التي دفعت بتروفو وغودار وكلود شابرول وجاك ريفيت وإريك رومير إلى اعتناق السينما الجديدة في أسلوبها وقضاياها وكيفية معالجة تلك القضايا.
لكن بعض التشابهات تنتهي عند هذا الحد. السينما التي أمّـتها النخبة الفرنسية المذكورة كانت تبتدع خطاً من الأعمال السينمائية مستقلاً عن التأثيرات المسرحية أو الأدبية أو حتى السينمائية ذات المعالجات الفنية كتلك التي حققها رنيه كلير وجان رنوار أو جوليان دوڤڤييه ومارسيل كارنيه. لكن تلك الإنجليزية لم تمتنع عن الاعتماد على النصوص الأدبية والمسرحية لمعالجتها بطريقتها الخاصة والمختلفة عما كان سائداً.
أربعة من أفلام نهضة «السينما البريطانية الجديدة»، كما سُـميت رسمياً، كانت اقتباسات مسرحية أساساً من بينها «النظر للخلف بغضب» الذي حققه توني رتشردسون سنة 1959 عن مسرحية وضعها جون أوزبورن وتم تقديمها في منتصف الخمسينات. كانت النجاح الأول للكاتب الشاب الذي كابد المشقات سابقاً إلى أن أنجزت مسرحيته، التي تم تقديمها أولاً لأربعة أسابيع سنة 1965، النجاح الكبير.
في سنة 1960 عاد رتشردسون إلى مسرحيات أوزبورن واستوحى منها «المرفِّـه». ولعل اهتمام رتشردسون بالاقتباس المسرحي يعود إلى أنه كان مخرجاً مسرحياً في الأساس؛ ما يجعل بعض المؤرخين يربطون موجة السينما البريطانية الجديدة بانبثاق مسرح بريطاني في الخمسينات قوامه تلك المسرحيات التي تم اقتباسها للسينما لاحقاً.
لمسات المسرح واضحة في فيلمي رتشردسون وفوقهما «طعم العسل» الذي وضعته كمسرحية كاتبة شابة اسمها شيلا ديلاني التي كانت في التاسعة عشرة عندما كتبت مسرحيتها وتم تقديمها على «مسرح ستراتفورد الملكي» سنة 1958 قبل عامين من تحويلها إلى فيلم. إذا كان الموقع المسرحي محدود الأطراف والأبعاد بالخشبة، فإن أفلام رتشردسون في تلك الآونة اهتمت بأماكن التصوير الداخلية حتى ولو انتقلت من موقع لآخر.

عمق مسرحي
سينما الموجة البريطانية الجديدة لم تكن مجرد محاولة لطرح مواضيع اجتماعية تعبّـر عن الجيل الجديد من الرجال والنساء والقضايا العاطفية المغطاة بالهم الاقتصادي والاجتماعي. هذه كانت مهمّـة لتمييز أفلام تلك الموجة بالأعمال، لكن أيضاً - ومما يميزها كذلك - حقيقة أنها قدّمت نخبة من الممثلين الرائعين في تلك الحقبة تحوّلوا إلى النجومية لاحقاً لكن تأسيسهم تم في تلك الزمرة من الأفلام.
أحد هؤلاء، مثلاً، ألبرت فيناي الذي بدأ التمثيل بدور صغير في فيلم «المرفِّه» ذاته ثم انتقل إلى فيلمين من النوع، هما «ليلة السبت وصباح الأحد» (دور صغير) ثم «توم جونز» (دور أول) وكلاهما لكارل رايز.
ريتا توشينغهام كانت بدورها أحد وجوه تلك السينما المنبثقة في تلك الآونة. موهبة جميلة ومختلفة تولّـت بطولة «طعم العسل» ثم انتقلت منه إلى «الفتاة ذات العينين الخضراوتين» لدزموند ديفيز وبقيت في جوار تلك السينما وصولاً إلى «الموهبة… وكيف تحصل عليها» (The Knack‪…‬ and How to Get it) أحد أفلام رتشارد لستر الأولى. هذا قبل أن تنتقل إلى صرح إنتاجات أكبر بدءاً من «دكتوز زيفاغو» (1965) لمخرج لم ينتمِ إلى تلك المدرسة هو ديفيد لين.
قاد بطولة «المرفِّه» (The Entertainer) الممثل لورنس أوليفييه الذي كان بدأ التمثيل في المسرح والسينما في الثلاثينات غالباً في الأعمال البريطانية و- أحياناً - في أفلام أميركية ازدادت عدداً في السبعينات وما بعد. رتشردسون استعان به لتقديم واحد من أبرع أدواره السينمائية في «المرفِّه».
هذا الفيلم الذي قلّـما يستوقف نقاد اليوم عمل بارع من أعمال المخرج وممثله. هو أقل تعلقاً بموقع الحدث الواحد كونه اقتباساً مسرحياً في الأصل من أعمال أخرى لرتشردسون، لكنه ما زال ينبض بعالم الفن المسرحي من حيث موضوعه. أوليفييه، الذي قام ببطولة المسرحية أساساً، في دور كوميدي مسرحي يقدّم عروض الـ«ون مان شو» على المسرح لكنه يدرك أن نجمه قد أفل رغم تمسكه بالعمل عليه. هو ابن «إنترتينر» سابق وأب لولدين يعملان بقربه جين (جوان بلورايت) وفرانك (ألان بايتس). الأولى تميل لوضع مسافة بين مستقبلها وماضي أبيها، والثاني يريد البقاء بالقرب من أبيه. في الصورة العائلية أيضاً أمهما (برندا ديبنزي) التي تدرك تمام الإدراك أنها باتت أشبه بديكور المنزل بالنسبة لزوجها. تعلم أنه كاذب ويعيش في الوهم محاولاً إقناع نفسه بأنه ما زال الفنان الطموح القادر على استعانة مكانته السابقة. في أكثر من مشهد يجمعهما تكشف عن إحباطها (الذي دفعها لمعاقرة الخمر) ويكشف هو عن ازدرائه لها.
تمثيل أوليفييه (الذي كان أوحى لأزبورن بالفكرة) احتفاء الممثل بنفسه كفنان. لجوؤه إلى دراما تشي بوله الفنان بنفسه وهيامه بطموحاته وبعده عن الواقع. لورنس أوليفييه لم يكن - في كل أعماله - ممثلاً ينخرط في الدور وصولاً لدواخل الشخصية، بل كان يبقى أوليفييه الذي يؤدي الشخصية عوض أن تسيطر عليه الشخصية فينسى المشاهد الممثل ويقبل بما يقوم به. لكن المعادلة هنا لا تزال لصالح الفيلم من حيث إن المشاهد يصدق الشخصية والممثل معاً.
في ذلك استمد أوليفييه من خبرته المسرحية لا الفكرة وحدها، بل مخاوفها الشخصية، وهذا ما فعله ألبرت فيني عندما قام ببطولة «ليل السبت وصباح الأحد» إنما من معين مختلف. فالدور هناك ينص على شخصية رجل يكابد مشاق الحياة كأحد أبناء الطبقة الأقل من الوسطى. هنا استعار الممثل من حياته الشخصية بعض ما يصبغ هذه الشخصية في هذه الدراما الاجتماعية. فيني يدخل شخصيته بلا حدود ما ينتج عنه تلقائية ذات تأثير جيد على الفيلم بكل عناصره. يضع الممثل غضبه على الوضع في ثلاجة لكن المشاهد لا ينسى وضعه الطبقي ممتزجاً بعمله وأحلامه وحياته العاطفية.

صراعات
في «النظر إلى الخلف بغضب» نجد رتشارد بيرتون في الدور الأول. بيرتون نوع من الممثلين الذين يسطون على العمل الذي يشتركون فيه. يتميز بصوت هادر وبلكنة مثقفة وغير شعبية وبحضور جاثم. هذه كلها جعلت الفيلم محدود الانتماء إلى أي فنان آخر فيه بمن في ذلك مخرجه رتشردسون نفسه.
الدور صعب، لكن سواه كان يمكن له أن يؤديه جيداً. هو رجل حانق على المجتمع، كما يشير العنوان، محبط في زواجه وفي عمله ويعزف ليلاً في فرقة صغيرة داخل أحد الحانات. بعض غضبه ناتج عن أن زواجه (من ماري أور) لم يكن من الطبقة العمالية ذاتها. هي في الأساس من طبقة أثرى نزلت عن مستواها الاجتماعي عندما وقعا في الحب. لكنها الآن تعاني من ثروة زوجها وعدم قدرته نسيان واقعهما المادي المختلف. يزيد ذلك إدراكه بأن والديها ما زالا غير راضيين عن زوج ابنتها منه.
الأفلام الأخرى جميعاً تبحث في معضلات الحياة الاجتماعية وانعكاساتها على الفرد بما في ذلك «توم جونز» و«وحدة راكض المسافة الطويلة» و«غرفة علوية» و«ملك الحب» و«هذه الحياة الرياضية».
«غرفة علوية» (الذي منح بطله لورنس هارفي وجوده الفعلي في المشهد السينمائي البريطاني آنذاك كما منح بطلته سيمون سينيوريه أوسكارها الوحيد) لا يبتعد عن هذا الصراع بين موقع الفرد وطموحاته على أرضية معيشية أو اقتصادية بحتة. يدور حول الشاب الذي يترك مله في أحد المصانع ليعمل في وظيفة رسمية في بلدة أخرى. الراتب محدود لكن تطلعاته تسبقه وهذه تتعرض لالتواءات عاطفية إذ يقع في حب امرأة بينما كانت صديقته في رحلة بعيدة.
هذا الفيلم مأخوذ عن رواية لجون برَين كحال فيلم ليندساي أندرسن «هذه الحياة الرياضية» المستوحاة من رواية ديفيد ستوري. مثل كلايتون، لم يكن أندرسن سبق له، وأن حقق فيلماً طويلاً من قبل، لكن موهبته كانت حاضرة وبرهن عليها في هذا الفيلم الذي كان تمهيداً لمهنة ناجحة (ولو لسنوات غير بعيدة) للمخرج الذي لاحقاً ما اشتهر بفيلمين أساسيين هما «إذا…» و«أو لاكي مان».
أندرسن هو أكثر المخرجين المذكورين في هذا التحقيق غضباً و«هذه الحياة الرياضية» لم يكن سوى البداية. بطله رتشارد هاريس (نال جائزة مهرجان «كان» كأفضل ممثل عن دوره هنا) هو شخص غاضب كذلك، لكن لا يكترث أندرسن (ولا سواه في أفلامهم المذكورة) لتقديم دراما نفسية تعكس مبررات ذلك الغضب بل تمر الأفلام عليها بصفة واقعية كما يحدث هنا. فرانك (هاريس) لاعب كرة يبث فيها من دون وعي حنقه الاجتماعي، وهذا يجذب إليه الاهتمام، لكن حياته الاجتماعية والعاطفية أقل نجاحاً من تلك المهنية والفيلم يغزل ما بين إحباطاته وإحباطات الأرملة التي يتعرف عليها ويرتبط معها بعلاقة (راتشل روبرتس).
مما سبق، ندرك الخطوط المشتركة بين كل أفلام تلك الموجة التي ما زالت تثير اهتمام الباحثين. هناك خيط المواضيع المُثارة وخيط الشخصيات المحبطة والمثقلة بأوضاعها، كذلك الخيط الواقعي الذي يهيمن على مستوى التفعيل الدرامي لمعظم الوقت (أي باستثناء «المرفِّه» مثلاً).
على عكس أفلام الآخرين، قبل الموجة، اهتمت بأبطال يعيشون للعمل ولحل ألغاز العاطفة شديدة الصلة بألغاز الحياة الاجتماعية.
وإذا كانت تلك الموجة وُلدت في الفترة ذاتها مع الموجة الفرنسية، إلا أن الشبه (في الموضوعات) اختلف كثيراً. أقرب رواد الموجة الفرنسية إلى نطاق الاهتمامات البريطانية كان جان - لوك غودار، لكن سينماه اختلفت بدورها عن تلك البريطانية.
ما يجب أن نلاحظه أنه في الوقت الذي تحول فيه نقاد مجلة «كاييه دو سينما» إلى مخرجين، وقفت مجلة إنجليزية اسمها «سيكوانس» وراء موجة المخرجين المتحوّلين أمثال كارل رايش ولندساي أندرسون. مصادفة أخرى ذات دلالات بالغة الأهمية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)