«الدعابة اللامتناهية»... تشريح النزعة الاستهلاكية في المجتمع الأميركي

اعتبرها النقاد منعطفاً تاريخياً في أدب القرن العشرين باللغة الإنجليزية

والاس
والاس
TT

«الدعابة اللامتناهية»... تشريح النزعة الاستهلاكية في المجتمع الأميركي

والاس
والاس

طوال سنوات ترسّخ لديك الاعتقاد بأن «أوليس» جيمس جويس هي صخرة سيزيف الروايات العالمية. تقرأ الكثير عنها ومن مقتطفاتها، تُقبِل على مطالعتها... وتتراجع مهزوماً كما لو أنك أمام حصن منيع. ثم تعاود الكَرّة، مراراً، فيتسرّب اليأس إليك ويكاد يستقرّ، إلى أن يأتيك العزم مجدداً حتى تصل إلى الضفّة الأخرى وقد أنهكك الإبحار في هذا اليمّ العاتي، وأثكلك الاندهاش من هذه القدرة الخارقة في اللعب على حبال الكلِم لرفع هذا الصرح من الصور المجرّدة والمعجونة بالألغاز، والخالية من نفح المشاعر وبريق الألوان.
لكن تكرّ الأيام، ويقع بين يديك ما هو أشدّ وطأة وأعصى على الإحاطة والاستيعاب من حياة أولئك الآيرلنديين الثلاثة في دبلن مطالع القرن الماضي. إنها «الدعابة اللامتناهية» (Infinite Jest) للأميركي ديفيد فوستر والاس، التي تقع في 1250 صفحة، ويجمع النقّاد على اعتبارها منعطفاً تاريخياً في أدب القرن العشرين باللغة الإنجليزية، وتحفة أدبية فريدة تتميّز بأسلوب إبداعي مذهل وعذوبة نادرة. الرواية كناية عن ملحمة كوميدية تدور حول شريط سينمائي خيالي يستحوذ على عقول المشاهدين، ويدمنون على معاودة مشاهدته مرة تلو الأخرى، حتى أن بعضهم يموت سعيداً لمجرّد أنه شاهده حتى النهاية. وتسرد كيف تحاول طوائف من الأفراد والمنظمات والحكومات الحصول على النسخة الأصلية من الشريط لتسخيرها في تحقيق أهداف ماكيافيلية، وكيف تجهد مجموعة من المدمنين على الكحول للاحتفاظ بتلك النسخة، بمساعدة لاعب كرة مضرب محترف (مارس والاس هذه الرياضة سنوات على مستوى الاحتراف).
ويسهب والاس في هذه الرواية، التي نشرها وهو بعد في الثالثة والثلاثين من عمره، في تشريح النزعة الاستهلاكية المتحكّمة في المجتمع الأميركي وما تولّده من إدمان يدفع الفرد نحو العزلة والحزن المتأصل في المجتمعات الرأسمالية. ويتألق في استشرافه لما ينتظر العالم مع التطور التكنولوجي السريع والهائل، خصوصاً في مجال الاتصالات والواقع الافتراضي، الذي يهدد بقلب كل المعادلات والمقاييس السائدة والموروثة في المجتمعات البشرية. ويتخيّل والاس الولايات المتحدة وكندا والمكسيك تحت حكم منظمة تشرف على «دولة الشمال الكبرى»، حيث الاستهلاكية الرأسمالية، وليس الوقت، هي مقياس الزمن. وحيث العالم لا يتحرّك على وقع السنين، بل على حركة العلامات والمنتوجات التجارية. كما يتصوّر تمثال الحرية على مدخل ميناء نيويورك يرفع لوحة إعلانية ضخمة تحمل الهامبرغر عوضاً عن الشعلة.
عندما صدرت رواية «الدعابة اللامتناهية»، كان والاس في أوج شهرته، ومصنفّاً عند الكثير من النقّاد كأهمّ أديب أميركي في جيله. وكانت الحملة التي نظّمتها دار النشر لترويج الكتاب أشبه بحملة مرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية، حتى إن الناقدة الأدبية الأشهر في الولايات المتحدة، ميتشيكو كاكوتاني، المعروفة بشراسة نقدها، كتبت عنه بزاويتها في «نيويورك تايمز» تقول: «رواية كأنها تمثال لمايكل أنجلو... كائن يحاول الإفلات من المرمر، نصفه في الداخل والنصف الآخر في الخارج، لكنه يعجز عن الإفلات والتحرر كليّاً». ثمّة شخصيات أدبية، مثل هاملت أو كيخوتي والسندباد، تملك القدرة على التحرر من القارئ، وتقفز من الخيال إلى الواقع، فتتحرك في دائرة شفويّة تساعدنا في الكشف عن المخابئ الكامنة في أنفسنا. لكن ثمّة حالات نادرة يتحوّل فيها الكاتب ذاته إلى هذه الشخصية، كما حصل مع ديفيد فوستر والاس عندما قرر وضع حد لحياته في العام 2008 عندما كان في السادسة والأربعين من عمره. أقدم والاس على الانتحار شنقاً في منزله بكاليفورنيا، بعد أن ودّع زوجته، وضرب موعداً لجلسة علاج فيزيائي كان يواظب عليه منذ فترة. كان يقول إن «الموت ليس نهاية»، ويعتبر أن «الانتحار يمكن أن يكون هديّة»، ويتذمّر من اهتمام النقّاد والباحثين بتفاصيل السِيَر الذاتية للكتّاب في سعيهم لفهم أعمالهم وتفسيرها «لأن الكتب العظيمة تتجاوز مسوّغاتها، وتنتفي معها قيمة تفاصيل الحياة الخاصة».
لكن هذا لم يمنع تهافت النقّاد على محاولة معرفة الأسباب التي دفعته إلى الانتحار، خصوصاً أنه لم يسع أبداً إلى التستّر وراء أعماله وشخصيات رواياته، بل كانت حياته وأعماله امتداداً لبعضهما البعض.
قال والاس، في إحدى المقابلات، إنه يتذكّر دائماً ما سمعه من أحد الأساتذة الذي كان يرتاح إليه كثيراً، بأن «سرّ الكتابة الجيّدة يكمن في تهدئة خواطر القلقين وإثارة القلق عند الهادئين». ويقول عنه أحد طلابه في جامعة إيلينوي: «عندما تقع عيناك عليه وتستمع إلى حديثه، تصيبك حالة من ذهول المعرفة. حالة من الاضطراب الذي ينتابك عندما تشعر بأنك تعرف هذا الشخص، وأنه هو أيضاً يعرفك».
تسارع النقّاد لنبش خبايا حياته الخاصة، لكن أحداً منهم لم يتجرّأ على تحليل شخصيته المعقّدة، أو تحديد أسلوبه النثري الرفيع الذي صقلته تعاليم والدته أستاذة الأدب الإنجليزي ووالده أستاذ الفلسفة. وعندما سمع صديقه جوناتان فرازين، الذي رافقه في السنوات الأخيرة، بخبر انتحاره قال: «انتحر كي لا يضطر للعيش وحيداً مع أفكاره»، هو الذي كان يردد بأنه يريد للرأس أن يخفق كما يخفق الفؤاد.كان والاس يعرف أن ذكاءه خارق للعادة، لكنه كان يقول «إن هذا التفوّق ليس مريحاً ولا يحملك بعيداً. وعوارض الذكاء الظاهرة، مثل التبحّر والثقافة العامة والبلاغة والشغف بالنقاش للنقاش، غالباً ما تولّد شعوراً بالفراغ والحيرة».
وكان يعتبر أن الهاجس الأكبر الذي تملّك كبار الكتّاب في القرن العشرين، هو كسر حلقة الوصل مع أدباء القرن التاسع عشر، بحيث تحوّل تاريخ الأدب الحديث إلى تاريخ الأساليب السردية، وراح النقّاد يركّزون اهتمامهم على مبنى الكتابة أكثر من مضمونها. واعتبر أن «كل الروايات الكبيرة بعد جويس صارت تقيّم وتُدَّرَس من حيث ابتكارها في المبنى والأسلوب».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.