جلال طالباني... من التكية إلى رئاسة العراق

ترجمة عربية لمذكرات الرئيس العراقي الراحل

جلال طالباني مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في البيت الأبيض عام 2007
جلال طالباني مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في البيت الأبيض عام 2007
TT

جلال طالباني... من التكية إلى رئاسة العراق

جلال طالباني مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في البيت الأبيض عام 2007
جلال طالباني مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في البيت الأبيض عام 2007

صدرت أخيراً النسخة العربية من مذكرات الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت، وهي من إعداد صلاح رشيد، وترجمها إلى العربية شيرزاد شيخاني. وتعكس المذكرات حصيلة نضال سياسي لما يزيد على نصف قرن، لشخصية قيادية كردية كبيرة ومثيرة للجدل، وتعكس الأحداث التي وقعت في العراق خلال الخمسين سنة الأخيرة، وساهمت في رسم مستقبل العراق السياسي والاجتماعي من حلف بغداد إلى تشكيل الأحزاب السياسية الكردية والعربية، إلى الانقلاب على الملكية والصراع الكردي مع الحكومة المركزية في بغداد، وكذلك المواقف المتناقضة من قبل الأحزاب الكردية تجاه الحكم الذاتي لشمال العراق، وصولاً إلى مرحلة البعثيين الأولى والثانية وخروج قطارهم عن السكة السياسية نهائياً في عام 2003.

- البدايات
جلال طالباني أو من يُعرف بـ«مام جلال»، أي «العم جلال»، هو ابن الشيخ حسام الدين الشيخ نوري، ابن الشيخ غفور طالباني. وُلِدَ عام 1933 في بلدة كلكان قرب سد دوكان، وانتقل إلى مدينة كويسنجق للدراسة الابتدائية والثانوية. وهناك كان الشاب جلال طالباني يرتاد حلقات الدراويش ويشاركهم أذكارهم (ص 25). وهو يذكر أنه حتى اليهود كانوا من زوار التكية الطالبانية (ص 28). وبدأ اهتمام جلال طالباني بالسياسة مبكراً منذ أن كان طالباً في الصف الخامس الابتدائي (ص 26). وشكلت 1947 بداية للعمل السياسي المنظم لديه حين أصبح عضواً فعالاً في الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، برئاسة الملاّ مصطفى البارزاني، وفي العام 1951 انتخب عضواً في اللجنة المركزية. ودخل عام 1953 إلى كلية الحقوق في بغداد، وبعدها عاد إلى السليمانية، ممارساً مهماته الحزبية والسياسية.
وبعد استيلاء البعثيين على السلطة عبر انقلاب عسكري أطاح بحكم عبد الكريم قاسم 1963، قاد طالباني بنفسه المباحثات مع عبد السلام عارف الرئيس العراقي آنذاك. وعن علاقته مع الملا مصطفى البارزاني يقول طالباني: «بناءً على طلب الملا مصطفى البارزاني قررنا أن نشرع بإقامة علاقات مع إيران» (ص 530). لكنه يذكر بعد ذلك، أن الملا مصطفى عَمِلَ على إنهاء علاقات الاتحاد الوطني مع إيران أثناء لقائه مع رئيس جهاز الاستخبارات الإيرانية (السافاك) حسن باكروان. وأخبره البارزاني، حسب الكتاب، أنّه مستعد للتعاون مع الإيرانيين مقابل تخلي إيران وقطع علاقتها مع جلال وجماعته. وكان جلال طالباني قد انشق عن حزب البارزاني احتجاجاً على دعوة البارزاني جميع المقاتلين الأكراد إلى إلقاء السلاح بعد تخلّي إيران عنه عام 1974. وحينها عبر طالباني الحدود مع 700 من مرافقيه إلى إيران عبر نقطة همدان. وبعد ذلك، وحين استقر في سوريا، ألف حزباً جديد، باسم الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975، وأصدر بياناً في يونيو (حزيران) 1975، وزّع على الصحافة السورية حينها وأذيع من إذاعة دمشق. وكان هناك، كما يذكر، دعم معنوي وسياسي من سوريا لحزبه.. وقد منحت سوريا جلال طالباني جواز سفر دبلوماسيا، إلا أنه سُحِبَ منه عام 2002 على خلفية تصريحات لقناة «سي إن إن» الأميركية.
أمَّا عن علاقاته مع الولايات المحتّدة الأميركية فيقول: كان موقفهم متوازناً من الحكومة العراقية والأكراد. وهنا يتحدث طالباني عن حقبة السبعينات والثمانينات (ص 183). وكانت لجلال طالباني أيضاً علاقات قوية مع الفرنسيين وخصوصاً الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك مع الرئيس الراحل فرنسوا ميتران. وعن علاقته وحزبه بالإسرائيليين، ينفي طالباني إجراءه أي لقاء مع الإسرائيليين (ص 195)، رداً على بعض التقارير الصحافية التي نشرت أنباء عن لقائه بشيمعون بيريز، وحلوله ضيفاً على منتدى «صبان» اليهودي. وعن موقفه من لقاءات المسؤولين الإسرائيليين بالأكراد عموماً يقول: «أعتقد أن التعاون بين إسرائيل والحركة الكردية خطأ كبير».

- العلاقة مع صدّام
كانت علاقات طالباني مع صدّام حسين تتراوح بين الاستقطاب والمعارضة. وعن لقائه الأول به يقول: «رأيته لأول مرة في صالون أحمد حسن البكر، وكان إلى جانبه عبد الخالق السامرائي وعبد الله سلوم السامرائي، وكانوا شباباً جيدين وقد تعرفنا عليهم عن طريق طيب برواري. وكانت علاقتنا تأسست عن طريق عبد الله سلوم ومحمد المشاط، السفير العراقي في لندن آنذاك، حيث كانت مواقف عبد الخالق السامرائي أفضل تجاه الأكراد» (ص 258).
وبعد وصول البعثيين إلى السلطة أشركوا وزيرين من جماعة البارزاني في حكومة عبد الرزاق النايف، وهم، محسن دزةيي وإحسان شيرزاد، واستبعدوا طالباني وحزبه. وبعد ذلك، نصحه حازم جواد البعثي العراقي والشخصية المهمة في القيادة العراقية، بالتقرب من صدّام حسين (باعتباره شخصية مهمة وقوية في الحزب.. حاولوا أن تتقربوا منه) والكلام لحازم جواد (260). وبعد لقاء الاثنين، طلب طالباني توسيع بعض مناطق الحكم الذاتي، فأجابه صدام: «تدلل كاكه جلال... صار» صدّام حسين مخاطبا جلال طالباني في بغداد، مستجيباً لمطالب جلال بتوسيع بعض مناطق الحكم الذاتي للمنطقة الكردية (ص 416). وكان طالباني قد قال لصدّام في لقاء جمعهما في بغداد عام 1991: «نحن الحزام الذي تلفه على خاصرتك».
وعن سقوط صدّام عام 2003، يقول جلال طالباني: «في نيسان عام 2002، دُعينا أنا ومسعود البارزاني إلى أميركا والتقينا هناك بوفد أميركي عالي المستوى، ضم ممثلين عن الإدارة الأميركية... وأبدينا المشاركة في انتفاضة العراقيين... وهيأنا لهم الاتصال ببعض القادة من الجيش العراقي، ثم ساعدناهم في تحرير كركوك وخانقين ومناطق أخرى». (ص 551).
وربما لم يدر في ذهن جلال طالباني آنذاك بأنه سينتخب أول رئيس غير عربي لجمهورية العراق من 2005 إلى 2014.
وكان الرئيس العراقي الراحل قد قال مرة عن مذكراته، الواقعة في 571 صفحة بأنها «لا يمكن أن تنشر في حياته لأنها ستثير موجة من الاعتراضات من شتى الفرقاء والشخصيات السياسية».
- صحافي وكاتب سوري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم