حمد بن لعبون... شيخ المؤرخين ومؤرخ الدولتين

يعود إلى الواجهة بعد 174 عاماً من رحيله

غلاف الطبعة الثالثة من «تاريخ ابن لعبون»
غلاف الطبعة الثالثة من «تاريخ ابن لعبون»
TT

حمد بن لعبون... شيخ المؤرخين ومؤرخ الدولتين

غلاف الطبعة الثالثة من «تاريخ ابن لعبون»
غلاف الطبعة الثالثة من «تاريخ ابن لعبون»

سجل العلامة المؤرخ النسابة الشاعر حمد بن محمد بن لعبون، الذي توفي عام 1844م، وعاش وأسرته في كنف الدولة السعودية الأولى والثانية، اسمه كأحد أبرز المؤرخين المحليين، بعد أن نجح في تسجيل أحداث مهمة في تلك الفترة، وكان مصدراً لمعلومات لم يشر إليها من سبقه من المؤرخين، وأخذها عنه من عاصره، ومن لحقه منهم، وذلك في عمله الجبار الذي عرف بـ«تاريخ ابن لعبون»، وتتجلى فيه علامات بارزة ولفتات غير مسبوقة، وتميز بأسلوبه العلمي، ولغته البسيطة المتزنة البعيدة عن التعصب والتزمت والتطرف. كما تميز تاريخه باتساع رقعة التغطية الجغرافية، وتجاوزه المحلي ليغطي العربي والإسلامي، من تخوم الصين إلى الأندلس، كما طعم تاريخه بذكر الأنساب، وتضمينه مختارات من الشعر والأدب. وهذه المكانة للمؤرخ ابن لعبون دفعت النقاد إلى وصفه بـ«شيخ المؤرخين النجديين» و«مؤرخ الدولتين»، حيث عاصر الدولة السعودية الأولى والثانية.
عاد المؤرخ الشهير إلى الواجهة بعد رحيله قبل 174 عاماً من خلال كتاب حمل اسم «تاريخ ابن لعبون»، حققه وعلق عليه حفيد المؤرخ الدكتور عبد العزيز بن عبد الله بن لعبون، الذي كشف عن أن المؤرخ سجل عنه أنه أول من أطلق مصطلح «الدولة السعودية الحنفية»، حيث أدرك المؤرخ أن من بين القوى المتصارعة التي برزت في وسط جزيرة العرب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، هناك قوة لها من العناصر والمقومات والكيان ما يجعلها ذات شأن، واستنتج أن ما تمتلكه هذه القوة من العمق الفكري، والتنظيم الإداري، والكيان السياسي، والتخطيط الاستراتيجي، يؤهلها لتكتسب صفة الدولة، وتنبأ لها بالعزة والتمكين والسيادة، لذا عرفها بالدولة. وشدد المحقق على أن تلك القوة هي التي حمل ألويتها أئمة آل سعود. وعليه، فقد بادر ابن لعبون في تاريخه، وأطلق عليها اسم الدولة، ونسبها إلى نسب حملة ألويتها (آل سعود)، فصاغ من ذلك تسمية «الدولة السعودية الحنفية»؛ وهذا ما لم يسبقه أحد إليه.
وأورد المحقق ما ذهب إليه المؤرخ الراحل الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر، من أن تسمية الدولة السعودية، وربطها بالحنفية، ربما قصد به «نسبتها إلى وادي حنيفة، أو نسبتها إلى بني حنيفة، أو نسبتها إلى الشرع الحنفي السمح».
وعد الدكتور عبد العزيز ابن لعبون أن هذا الاستشراف المستقبلي غير المسبوق لابن لعبون، قبل نحو قرنين من الزمان، يجعل منه مؤرخاً سياسياً، ومن جهة أخرى يعكس مستوى عقليته التي كتب بها تاريخه، فلم يكن ابن لعبون مجرد مسجل أحداث وناقل أخبار وحسب.
وقد سرد ابن لعبون أسماء 31 مرجعاً، وأسماء مصنفيها من أمهات الكتب في التاريخ والأنساب والسير والآداب، كما ذكر أسماء عشرات من المصادر غيرها، وذكر أصحابها في متن تاريخه. ومن تلك المصادر وأصحابها: كتاب «عيون المعارف» للقضاعي، وابن اسحق، والبيهقي، والتوزري، وابن مسعود، وأبو عبيد، والحمداني، وكتاب «مسالك الأبصار»، والحافظ البزار، و«مسند الإمام أحمد»، والدارقطني، وأبو بكر الخرائطي، و«تاريخ ابن الورد»، وصاحب حماة، والحرمازي، وأبو عثمان، وشارح الحماسة، والسهيلي، وأبو كبير، والسيد أحمد بن عبد الله بن حمزة شارح «ذات الفروع»، ومحمد حيدر الموسوي. كما ذكر ابن لعبون عدد مصادره من التواريخ المحلية، فقد ذكر منها تواريخ للبسام، والمنقور، وابن ربيعة، وتاريخ أهل أشيفر (ابن يوسف)، والعصامي. وقد أشار ابن لعبون إلى مصادره ورواة معلوماته بشكل واضح، ومن ذلك قوله: قال فلان، أو أخبرني فلان، أو اطلعت على كذا وكذا.
ولخص ابن لعبون سبب كتابته لتاريخه، ومنهجه فيه، من خلال مقدمته في كتابه، بقوله: «أما بعد، فقد سألني من طاعته عليّ واجبة، ووصلاته إليّ واصلة واصبة، هو ضاحي بن محمد بن إبراهيم بن عون المدلجي الوائلي، التاجر المشهور ببلاد الهند، أن أجمع له نبذة من التاريخ تطلعه على ما حدث بعد الألف من الهجرة من الولايات، والوقائع المشهورة من الحروب والملاحم والجدوب وملوك الأوطان ووفيات الأعيان، وغير ذلك مما حدث في هذه الأزمان، خصوصاً في الدولة السعودية الحنفية، فأجبته إلى ذلك، ورأيت أن أكمل له الفائدة، ولغيره من بعده، بمقدمة تكون الأساس للبنيان، ملخصة من لدن آدم أبي البشر إلى أثناء القرن الثالث عشر من الهجرة النبوية الشريفة، وأودعه من شوارد الفوايد وفرائد القلائد ما لا يحتوي عليه تاريخ واحد، ولا يكاد يجده المجد الجاهد إلا من تواريخ عدايد. وراعيت فيه الإيجاز والاختصار، وعدم الحشو الذي يضيع الأفكار، فخيار الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل».
يشار إلى أن المؤرخ حمد بن لعبون هو والد الشاعر الشهير محمد بن لعبون، الذي وعده النقاد «أمير شعراء النبط»، وتميز شعره بالجزالة، وتضمينه طروحات فلسفية تعبر عن وعي من الشاعر، وقدرة على خلق المنظر والخيال الرحب، وسلاسة المعنى وتوظيف المفردة، واطلاعه على شعراء العربية الأوائل، وتأثره بهم، حيث تبدأ أكثر قصائده بالوقوف على الإطلال وذكر الحبيبة، مما جعل قصائده تجري على الألسنة، وتغنى فيما يعرف بـ«فن اللعبونيات».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.