تحالف المصالح بين الصفوتين الاقتصادية والأكاديمية

TT

تحالف المصالح بين الصفوتين الاقتصادية والأكاديمية

كما هو واضح من عنوانه، ينتقد كتاب «الفائزون يكسبون كل شيء» ما سمَّاها «أكاذيب الصفوة التي تقول إنها تريد تغيير العالم»، وهو يقصد الصفوتين: الاقتصادية والأكاديمية، اللتين عقدتا «حلفاً مقدساً» خصوصاً في الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة.
ومؤلف الكتاب هو أنان جيرذاراداش، صحافي أميركي هندي كان يعمل مراسلاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، ثم تقاعد، وصار أستاذاً في كلية الصحافة بجامعة نيويورك، وهو، أيضاً، خبير في معهد أسبن (ولاية كولورادو). هذه العلاقة المزدوجة مع الشرق والغرب، ساعدت المؤلف على جمع معلومات كثيرة استفاد منها في كتابه، كما ساعدته على فحص الثقافة الغربية من وجهة نظر غير غربية، بالإضافة إلى مقابلات كثيرة أجراها بحكم عمله الصحافي مع الذين وصفهم بأنهم يعيشون إما في «أبراج العاج»، وهم المثقفون، أو في «بنتهاوسس» (أعلى الطوابق، الأثرياء).
يقول في الكتاب: «يناضل الأثرياء والأقوياء من أجل المساواة والعدالة بأي طريقة ممكنة، باستثناء الطرق التي تهدد النظام الاجتماعي ومواقعهم في قمته، فهم يصنفون أنفسهم رياءً (منقذين للفقراء)، ويحتكرون تعريف (التغيير) - دون وضع اعتبار لتعريفات غيرهم - ويقولون إنهم يفعلون الخير (لكنهم يتهربون من دفع الضرائب».
ويرى المؤلف أن كثيراً من الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، تكاد تفضل الصفوة الغنية (الأثرياء) والصفوة الأكاديمية (الخبراء) على ممثلي الشعب. وهو يتساءل هنا: «لماذا نتوقع من غير الذين يمثلون الشعب أن يحلوا مشكلات الشعب؟ الصفوة لا تخدم غير نفسها، والغني يعتقد أنه يعلو على غير الغني، والأكاديمي يحسب أنه أكثر ذكاء من غيره».
ويروي المؤلف قصته عندما عُيِّن في عام 2011 خبيرا في معهد أسبن (ولاية كولورادو)، فوجد أن المعهد، مثل غيره من معاهد أميركية كثيرة، تدعمه شركات أو أصحاب شركات، وأنه، في نهاية المطاف، إن لم يخدم مصالح هؤلاء، فهو لا يسبب لها ضرراً، ويقول عن هذه التجربة: «بدأتُ أشعر وكأنني مشارك، ومشارك خجول، ومشارك جبان في كذبة عملاقة حلوة المذاق».
ولأن المؤلف بدأ بانتقاد نفسه، لم يتردد في انتقاد آخرين أجرى معهم مقابلات صحافية، مثل إيمي كودي، اختصاصية علم النفس الاجتماعي في كلية هارفارد للأعمال. يقول عنها: «قضت أكثر من عشر سنوات في نشر أبحاث حول تمييز المجتمع ضد المرأة. ولكن، عندما صرفت عليها مؤسسة (عالم السوق) لتتحدث في مناسبات ومؤتمرات، لم تتحدث عن تهميش المرأة، بل تحدثت عن قدرة المرأة على التصرف تصرفات شجاعة (أمام الرجال). هكذا، خدمت فلسفة (عالم السوق): التنازل عن بعض المزايا (مثل ترضية النساء) دون نزع هذه المزايا».
شخصية أخرى قابلها مؤلف الكتاب، وانتقدها، وهو أندرو كاسوي، مؤسس شركة «بي» (أول حرف في كلمة «بيزنس»؛ التجارة) التي تنسِّق بين شركات كثيرة بهدف «تسخير التجارة لخدمة الخير».
منذ أكثر من قرن، لخص أوسكار وايلد، الكاتب الآيرلندي، الخطر الذي يمثله أعضاء الصفوة الذين يحاولون جاهدين تحسين المجتمع، دون أن يحسنوا أنفسهم، فكتب: «كان أسوأ مالكي العبيد هم الذين أحسنوا معاملة عبيدهم. وذلك لأنهم عرقلوا نشر الصورة الكبيرة الكريهة. لهذا، في بريطانيا اليوم، الصفوة (التجارية والأكاديمية) التي تحاول أن تفعل الخير هي الأقل خيراً». هذا ما حاول أنان جيرذاراداش أن يكشفه في كتابه.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».