ملحمة المثقفين الفرنسيين!

في مطلع كل عام دراسي جديد، وبعد انتهاء العطلة الصيفية مباشرة، تنهال علينا الكتب من كل حدب وصوب في الساحة الباريسية. لن أتحدث لكم هنا عن الروايات التي تصدر بالمئات دفعة واحدة، وإنما سأحصر حديثي فقط بالكتب الفكرية أو الفلسفية الجادة. وأعتقد دون مبالغة أن الباحث المعروف فرنسوا دوس حاز قصب السبق لهذا العام (2018)، وتفوق على من سواه. لماذا؟ لأنه أصدر كتابين ضخمين عن أشهر المثقفين الفرنسيين على مدار نصف قرن: من عام 1944 إلى عام 1989. الكتاب الأول تصدر غلافه كما هو متوقع جان بول سارتر، في حين تصدر غلاف الكتاب الثاني ميشال فوكو، وهما أشهر مثقفين أنجبتهما فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن قبل الدخول في التفاصيل، دعونا نطرح هذا السؤال: من هو فرنسوا دوس مؤلف هذين الكتابين الضخمين؟ إنه أستاذ في معهد العلوم السياسية، وبعض الجامعات الباريسية الأخرى، كما أنه واحد من أشهر كتاب السيرة للشخصيات الكبرى في فرنسا حالياً. فقد أتحفنا سابقاً بكتاب ضخم عن البنيوية في جزأين، ثم أتحفنا بعدئذ بكتاب عن الفيلسوف بول ريكور، بجزء واحد لكن ضخم جداً: نحو الثمانمائة صفحة من القطع الكبير. وقد رافقني هذا الكتاب على مدار السنوات الأخيرة، وقرأته أكثر من مرة، وعاشرته واستفدت منه كثيراً. واشتهر أيضاً بتأليف أول سيرة للفيلسوف الفرنسي من أصل يوناني: كورنيليوس كاستورياديس، وهو شخص خطير لم يحظ بالأهمية التي يستحقها. فهو لا يقل عظمة عن فوكو أو بارت أو ديلوز أو دريدا، وقد يتفوق عليهم جميعاً. والآن، يطلع علينا فرنسوا دوس بهذين الجزأين الضخمين اللذين يقوم فيهما بمسح شامل لكل المثقفين الكبار الذين سيطروا على الساحة: من سارتر إلى ألبير كامو، إلى ريمون آرون، إلى كلود ليفي ستروس، إلى فرنسوا مورياك، إلى جاك لاكان، إلى بيير بورديو، إلى عشرات غيرهم. وميزة هذا الباحث أنه لا يكتفي بعرض سيرهم بشكل بارد من بعيد، وإنما ينخرط شخصياً في الموضوع، ويكتب بكل أعصابه وعواطفه ومشاعره. هذا لا يعني أنه ليس موضوعياً متبحراً في العلم، ولكنها ليست موضوعية باردة ناشفة. والأهم من كل ذلك أنه يجري مقابلات مع عشرات، بل ومئات، الأشخاص الذين عرفوا هذه الشخصيات الكبرى عن كثب. إنه يقابل أقرباءهم وعائلاتهم وأصدقاءهم الخلص وتلامذتهم، وحتى جيرانهم... إلخ. وعلى هذا النحو، فإن السيرة التي كتبها عن بول ريكور أو سارتر أو فوكو أو كاستورياديس هي بمثابة ريبورتاجات مليئة بالمقابلات الشخصية والنوادر الممتعة التي تقرب لك هذه الشخصيات الكبرى التي تحولت إلى أساطير لاحقاً. بمعنى آخر، فإنه يؤنسنها، ويجعلها قريبة إلى القلب. فهم بشر، على الرغم من عبقريتهم، ولهم نقاط ضعفهم ونواقصهم أيضاً. وهكذا، لا تكل ولا تمل عندما تقرأ عنهم سيراً ضخمة تتجاوز مئات الصفحات. بصراحة، أنا مللت من أولئك الكتاب الذين يؤلفون كتباً ضخمة ولكن جافة لا ماء فيها ولا حياة. وكل ذلك بحجة الموضوعية والحيادية الفارغة.
يضاف إلى ذلك سبب آخر للاهتمام بهذا الكتاب الضخم. ما هو؟ سوف أفاجئكم إذا قلت لكم إنه ضروري لكتابة «ملحمة المثقفين العرب» يوماً ما. وذلك لأن الساحة الثقافية العربية مرتبطة بشكل وثيق بالساحة الثقافية الفرنسية! من ينكر أن جان بول سارتر كان قد شغلنا في الخمسينات والستينات، بل وحتى السبعينات من القرن الماضي؟ لقد ترجم إلى العربية، وأثرت مؤلفاته على المثقفين العرب. وقل الأمر ذاته عن ميشال فوكو وجاك دريدا وبيير بورديو وجيل ديلوز ورولان بارت. وقل الأمر ذاته عن الموجة البنيوية التي انتقلت مباشرة من الساحة الفرنسية إلى الساحة العربية، وأثرت على النقد الأدبي عندنا، سلباً أو إيجاباً. وقل الأمر ذاته عن موجة العلوم الإنسانية. وقل.. وقل..
لكن لنعد إلى هذا الكتاب الضخم الذي يشغلنا هنا: الجزء الأول بعنوان «ملحمة المثقفين الفرنسيين: على محك التاريخ»، منشورات «غاليمار»، 624 صفحة. والجزء الثاني بعنوان «ملحمة المثقفين الفرنسيين: المستقبل محطماً ومتناثراً كالشظايا»، 704 صفحات؛ بمعنى أن مجموع الكتاب بجزأيه يتجاوز الألف وثلاثمائة صفحة! ولكن هذا ليس كثيراً على استعراض حياة وأعمال كبار مثقفي فرنسا على مدار نصف قرن. على أي حال، فإنه مشروع ضخم، يستحق صاحبه كل الشكر على كل هذا المجهود الهائل الذي بذله.
الجزء الأول من الكتاب يغطي مرحلة سارتر وسيمون دو بوفوار (1944 - 1968). وأما الجزء الثاني فيغطي مرحلة فوكو والبنيويين (1968 - 1989). في المرحلة الأولى، كان المثقفون الفرنسيون، من كتاب وأدباء وشعراء وفلاسفة، يشعرون بأنهم محمولون على أجنحة التاريخ، وأن المستقبل واعد بالآمال العراض. والسبب هو أنهم كانوا خارجين للتو من مرحلة الاحتلال النازي الذي خنق أنفاسهم لمدة أربع سنوات متتالية. وبالتالي، فقد تنفسوا الصعداء لأول مرة عندما حررها ديغول من براثنهم عام 1944. وكان معظم مثقفي فرنسا آنذاك من الاتجاه اليساري، بل وحتى الشيوعي، ما عدا فرنسوا مورياك وريمون آرون (عدو سارتر اللدود). ولكن في نهاية المطاف، أي عام 1989، انهارت كل أحلامهم اليسارية، إن لم نقل اليسارية المتطرفة. فلم تحصل الثورة البروليتارية التي كانوا يحلمون بها، ولم تسقط الرأسمالية، وإنما حصل العكس تماماً. ولذلك كفروا بماركس والماركسية التي كانوا قد اعتنقوها ديناً حتمياً، ولم يعد أحد يجرؤ على القول إنه شيوعي، بل أصبحوا يخجلون من ذلك كل الخجل؛ لشدما تغيرت الدنيا! أصبحت الشيوعية اليسارية وصمة عار بعد أن كانت مفخرة على مدار ثلاثين سنة متتالية. ولهذا السبب، فإن عنوان الجزء الثاني هو «المستقبل محطماً كالشظايا». كل أحلامهم اليسارية تحطمت على رصيف الواقع المر، بل وتحطمت الشيوعية ذاتها، وانهارت بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1989. ولكن بين هذين التاريخين (1944 - 1989)، حصلت أحداث وأحداث. وربما كان أهمها وأخطرها حرب الجزائر الاستعمارية التي أدانها جان بول سارتر بكل قوة، بل ووقف ضد بلاده لصالح استقلال الجزائر، وخاطر آنذاك بنفسه، هو وكثير من المثقفين اليساريين الفرنسيين، عندما هاجم ديغول والسياسة الفرنسية كلها بعنف. وعندئذ، طالب بعض الوزراء بسجنه، ولكن ديغول رد عليهم قائلاً: لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلاً. وهي دليل على عظمة ديغول بقدر ما هي دليل على عظمة سارتر، وربما أكثر.
حقا إن الكتاب يقدم صورة بانورامية متكاملة عن تلك المغامرة التاريخية الخلاقة للمثقفين الفرنسيين على مدار أكثر من نصف قرن، ويصورهم على هيئة أبطال لملحمة حقيقية. فسارتر كان بطلاً للفكر والمسرحيات، وأراغون بطلاً للشعر، وألبير كامو بطلاً للرواية، وفوكو بطلاً للفلسفة الأركيولوجية العميقة على الطريقة النيتشوية، وقس على ذلك. ونلاحظ أن المؤلف يقدم عن كل واحد منهم صورة شخصية أو بورتريه، بالإضافة إلى نبذة معمقة عن أهم مؤلفاته. وبالتالي، يختلط لديه الخاص بالعام، ويمتلئ سرده السلس الممتع بالنوادر والحكايات الشخصية غير المعروفة حتى الآن، وهي تشكل ملح الكتاب. من هنا، جاذبية هذه السير الذاتية التي يقدمها فرنسوا دوس عن أهم المثقفين الفرنسيين في القرن العشرين؛ إنها سير تضج بالحياة والفكر العميق على حد سواء، إنها سير حية وليست جامدة ميتة.
وينبغي أن نضيف أن فرنان بروديل كان بطلاً لعلم التاريخ، بعد أن جدد مناهجه بشكل غير مسبوق، فهو الذي اخترع مصطلح المدة الطويلة والقصيرة والمتوسطة للتاريخ، وقال لنا إن هناك ظواهر ضخمة لا تُفهم على حقيقتها إذا لم نموضعها ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ التي قد تتجاوز الألف سنة. نضرب على ذلك مثلاً مشكلة الطائفية والمذهبية المشتعلة في العالم العربي حالياً، فلا يمكن فهمها إلا إذا عدنا إلى جذورها الأولى أيام الفتنة الكبرى قبل ألف وثلاثمائة سنة أو يزيد. وقل الأمر ذاته عن الانقسام بين المذاهب المسيحية، من كاثوليكية وأرثوذكسية، فهو أيضاً قديم جداً يتجاوز الألف سنة. أما الانقسام الحاد بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، الذي أسال الدماء أنهاراً في أوروبا، فلا يتجاوز الخمسمائة سنة.
ونضيف أن بيير بورديو كان بطلاً لعلم الاجتماع أو السوسيولوجيا عندما بلور مصطلحات من نوع «الرأسمال الرمزي» مثلاً، مقابلة له بـ«الرأسمال المادي»، بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، وتحليلات ثاقبة مضيئة فعلاً.
وأما ميشال فوكو فكان بطلاً للمنهجية الأركيولوجية على الطريقة النيتشوية، وهي ما ندعوه بمنهجية الحفر الأركيولوجي في الأعماق بغية فهم الجذور العميقة للظواهر والمشكلات. وهنا، نلتقي ببروديل مرة أخرى، ومصطلح المدة الطويلة للتاريخ.
وأما جاك دريدا فكان بطل المنهجية التفكيكية على طريقة هيدغر، والمقصود بها تفكيك العرقية المركزية الأوروبية والعقلية الميتافيزيقية الكلاسيكية، وهي المنهجية ذاتها التي طبقها بعض الرواد على تراثنا عندما فككوا الدوغمائيات المتحجرة والانغلاقات اللاهوتية التكفيرية المهيمنة علينا منذ الدخول في عصر الانحطاط، وإغلاق باب الاجتهاد، قبل ألف سنة، أي منذ انهيار العقل في أرض الإسلام، وانتقال مشعل الحضارة إلى أوروبا. بهذا المعنى، فالمنهجية التفكيكية ذات طاقة تحريرية هائلة؛ إنها إيجابية وليست سلبية، على عكس ما يوحي الاسم. فلا تجديد من دون تفكيك للقديم المنخور المهترئ!