«الشباب الصومالية»... تمدد تنظيمي وجغرافي تحت الهجمات

تتصدر المشهد الإرهابي في القرن الأفريقي

حجم الدمار الذي خلفته إحدى الهجمات الانتحارية في يوليو الماضي (أ.ب)
حجم الدمار الذي خلفته إحدى الهجمات الانتحارية في يوليو الماضي (أ.ب)
TT

«الشباب الصومالية»... تمدد تنظيمي وجغرافي تحت الهجمات

حجم الدمار الذي خلفته إحدى الهجمات الانتحارية في يوليو الماضي (أ.ب)
حجم الدمار الذي خلفته إحدى الهجمات الانتحارية في يوليو الماضي (أ.ب)

تسارعت في الأسابيع الأخيرة وتيرة الهجمات التي تشنها «حركة الشباب» الصومالية، كما توسعت مساحة تحرك هذا التنظيم الإرهابي، لتشمل مناطق واسعة من جغرافية البلد الذي يعيش أزمة استقرار، في غياب جيش وطني منظم. وبحسب تقارير لباحثين ومراكز مختصة في القرن الأفريقي والمنظمات الإرهابية في الصومال، فإن النشاط النوعي الحالي لـ«الشباب المجاهدين»، بزعامة أحمد ديري أبو عبيدة، يعود لعاملين أساسيين.
ويتعلق الأول بالمرونة التي اكتسبها التنظيم، والتي أهلته للتكيف مع الظروف الصعبة التي عاشها في الفترة الممتدة بين 2014 و2017. أما العامل الثاني، فيتمثل في قدرة التنظيم على إعادة بناء نفسه، مع استقطاب مناصرين جدد، خصوصاً في الجنوب وعلى الحدود الكينية.
وتفيد عدة دراسات أن «حركة الشباب» الإرهابية حدث لها نوع من «الصحوة» مع مجيء الرئيس الصومالي الحالي محمد عبد الله محمد، في فبراير (شباط) 2017. ومن تلك التقارير التي تناولت هذا الوضع الجديد ما نشر أخيراً في مجلة «الحرب الطويلة»، التابعة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). فقد أشارت المجلة إلى عودة «حركة الشباب» الصومالية المتطرفة لصدارة المشهد الإرهابي في القرن الأفريقي، وبالصومال تحديداً، مما يشكل تحدياً للسلطات الرسمية، ولجهود القوات الأفريقية، وقوات «أفريكوم».
وفي هذا السياق، تتبعت المجلة هجمات تنظيم أحمد ديري أبو عبيدة في الفترة بين أكتوبر (تشرين الأول) 2017 وأبريل (نيسان) 2018، مسجلة أن وتيرة هجماته الإرهابية تدل على نوعيتها، وازدياد عددها، وتوسيع الجغرافية المستهدفة من «حركة المجاهدين»، مما يؤشر إلى توسع تنظيمي، وقدرة فائقة على السيطرة والانتشار في جغرافية جديدة، لم يكن للتنظيم نفوذ قوي فيها.
فقد استطاعت «حركة الشباب» الإرهابية شن 418 هجوماً في ظرف 6 أشهر، وبالتحديد في الفترة ما بين أكتوبر 2017 وأبريل 2018، وتسارعت وتيرة هجماتها في شهر أغسطس (آب) الحالي، وأصبحت شبه يومية. وفي مؤشر على تصاعد قوة التنظيم الإرهابي، لم تعد هجماته تتركز على العاصمة مقديشو ونواحيها، التي شهدت 125 هجوماً في 6 أشهر، بل استطاع التنظيم الوصول إلى وسط وجنوب البلاد، وبلدات ومناطق بعيدة عن العاصمة، يسيطر عليها الجيش الصومالي والقوات الأفريقية، ونفذ فيها 277 هجوماً.
كما استطاعت هذه الحركة المتطرفة، المنبثقة عن اتحاد المحاكم الإسلامية الصومالية، أن تنفذ في الفترة المشار إليها أعلاه 16 هجوماً إرهابياً داخل التراب الكيني.

هجمات مكثفة
ويبدو أن تنظيم «حركة الشباب» استعاد قوته، وأصبحت تحركاته أكثر انسيابية، مع ربح حاضنة اجتماعية جديدة، في رقعة جغرافية شاسعة. وتدل على ذلك وتيرة الهجمات التي أخذت في الشهر الماضي طابعاً تصاعدياً ونوعياً، حيث تجاوزت في بعض الأحيان 3 هجمات في الأسبوع الواحد. فقد شن «شباب المجاهدين» هجوماً إرهابياً يوم 12 سبتمبر (أيلول) الحالي على مدينة مركا، مركز بإقليم شبيلي السفلى، التي تبعد بنحو 90 كيلومتراً عن العاصمة مقديشو، حيث اقتحم مقاتلو التنظيم بعض أحياء المدينة قبل أن ينسحبوا منها.
من جهتها، أشارت السلطات الكينية، الأسبوع الماضي، إلى أن تنظيم «حركة الشباب» استطاع رفع وتيرة الهجمات، وكذلك وسع من استقطابه للشباب في المحافظات الشمالية في كينيا، المتاخمة للحدود الصومالية. وأكد علي روبا، حاكم منديرا، أن مقاتلي التنظيم يقومون حالياً بعملية تجنيد واسعة على الحدود، وفي عمق التراب الكيني، مما يشكل تهديداً حقيقياً لبلده. كما أشار إلى أنه «لم يتغير أداء الحكومة الوطنية في مجال الأمن؛ نحن بحاجة إلى تحسين نهجنا لمعالجة التطرف والإرهاب».
ومن العمليات النوعية التي تشير إلى قدرة تنظيم الشباب على المس بالاستقرار، وإرباك الدولة الصومالية الهشة، الهجوم الذي نفذه التنظيم الإرهابي يوم 23 يوليو (تموز) الماضي على إحدى القواعد العسكرية جنوب الصومال، والذي أسفر عن مقتل 27 جندياً. وقد تمكنت الحركة من السيطرة على القاعدة العسكرية البعيدة عن ميناء كيسمايو نحو 50 كيلومتراً.
وفي السياق نفسه، نفذ التنظيم المتطرف هجوماً على عدة قواعد عسكرية لقوات الحكومة الصومالية في مدينة دينسور، بإقليم باي بولاية جنوب غربي الصومال، بداية الشهر الحالي. وبحسب تصريحات رسمية، فإن الهجمات أسفرت عن مقتل جندي صومالي، وإصابة اثنين آخرين، كما قتل 4 من مقاتلي «حركة الشباب» الذين شنوا هجوماً من عدة محاور على القواعد العسكرية.
وبعد يوم واحد فقط من هذه العملية، شنت «حركة الشباب المجاهدين» هجوماً كبيراً في ولاية غلمدغ. وأوضح أحمد دعالي جيلي أن التنظيم الإرهابي تمكن في هذا الهجوم من اختطاف ما يقرب من 70 شيخاً من شيوخ القبائل في الولاية، وتوجه بهم الإرهابيون لقاعدة الحركة بمدينة عيل بور، التي تسيطر عليها الحركة المتطرفة، والواقعة في الأقاليم الوسطى في الصومال.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الهجوم يأتي بعد تصاعد الخلافات بين قبائل المنطقة مع التنظيم الإرهابي، إثر مطالب من هذا الأخير تتعلق بتجنيد المزيد من أبناء المنطقة في صفوف مقاتلي «حركة الشباب». وتحولت الخلافات لمواجهات متقطعة في مناطق قريبة من مدينة حررطيري، في إقليم مدغ بالولاية، في شهر سبتمبر الحالي، قبل أن يشن التنظيم المتطرف هجومه على المنطقة، ويختطف الشيوخ، الذين لا يزالون رهائن بيد التنظيم.
وفيما يخص العاصمة ونواحيها، شن التنظيم الإرهابي، بقيادة أحمد ديري أبو عبيدة، هجوماً واسعاً على مدينة أفجوي القريبة من العاصمة مقديشو الأسبوع الماضي، واستمر القتال بين مقاتلي التنظيم والقوات الصومالية، مدعومة بالقوات الأفريقية، لساعات، تمكن فيها مقاتلو التنظيم الإرهابي من السيطرة على عدة أحياء بالمنطقة. كما أسفرت المعركة، وفقاً لبيانات رسمية، عن مقتل 3 جنود صوماليين، وجرح 6 آخرين، فيما تمكن الإرهابيون من الانسحاب من المنطقة.
وفي الإطار نفسه، شنت «حركة الشباب»، الأسبوع الماضي، هجوماً كبيراً على مدينة مركا، مركز محافظة شبيلي السفلى، جنوب العاصمة مقديشو، شارك فيه العشرات من مقاتلي التنظيم، ووقع خلاله تبادل عنيف لإطلاق النار، قبل أن ينسحب المهاجمون من المنطقة. وأشار مدير مركا، حسن معلم، إلى أن الهجوم فشل بفضل العمل الاستخباراتي، وعلم السلطات بتوقيت الهجوم الإرهابي.

الغارات الأميركية
ووفقاً للمتغيرات الجديدة، التي أخذت بعين الاعتبار هشاشة الوضع الأمني والمؤسساتي الصومالي، تحاول الولايات المتحدة الأميركية تقديم مزيد من الدعم، عبر تكثيف الغارات على مواقع «حركة الشباب» الصومالية. ومن الغارات الأخيرة الحديثة المعلنة، من طرف الجيش الأميركي، على مواقع لتنظيم الشباب، ما أعلنته قيادة «أفريكوم»، الشهر الماضي، وهي التي أسفرت عن مقتل 3 من مقاتلي حركة الشباب، في منطقة تبعد 40 كم من العاصمة الصومالية مقديشو.
وفي مؤشر واضح على تصاعد الغارات الجوية ضد التنظيم المتطرف، شنت طائرة، يعتقد أنها أميركية، هجوماً يوم الفاتح من سبتمبر على قاعدة عسكرية لـ«حركة الشباب» بمدينة بؤالي، مركز إقليم جوبا الوسطى، جنوب الصومال. وبعد أسبوع من هذا الحدث، عادت طائرة مجهولة لتنفيذ هجوم ليلي في منطقة بمدينة جلب» في إقليم جوبا الوسطى، جنوب الصومال، أسفر عن قتل قيادي من «حركة الشباب».
ووفقاً لأحدث تقرير لمجلة «الحرب الطويلة»، التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، فإن السياسة الجديدة لتتبع الإرهابيين بالصومال تتركز على «حركة الشباب»، في سعي حثيث للحد من نفوذ التنظيم وتقويض قوته. فقد أشار الباحث المتخصص بيل روجيو، من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات والمحرر بمجلة «الحرب الطويلة» التابعة لوزارة الدفاع، والباحثة أليكساندرا جوتوسكي، محللة الشؤون العسكرية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، إلى أن وتيرة الغارات أظهرت ارتفاعاً في الغارات الجوية المستهدفة لتنظيم الشباب. ويبدو أن كثافة الهجمات الجوية تتجه لتجاوز الرقم القياسي المسجل لسنة 2017، حيث يشير الباحثان إلى أن «أفريكوم» شنت 21 ضربة ضد حركة الشباب في الصومال حتى الآن (مع غارتين غير معلنتين، مشار إليهما أعلاه).
هذا، ويلاحظ أن الهجمات الجوية سنة 2018 ضد حركة الشباب متفرقة، وأكثر توسعاً جغرافياً، من نظيرتها لسنة 2017، مما يدل على توسع نفوذ تنظيم «حركة الشباب» من الناحية الجغرافية. ويشير كل من الباحث بيل روجيو والباحثة أليكساندرا جوتوسكي في هذا الصدد إلى الغارتين الجويتين في يونيو (حزيران) 2018، اللتين شنتهما الولايات المتحدة ضد حركة الشباب في محيط بوساسو، شمال الصومال، وغارات شهر أغسطس 2018، حيث استؤنفت الهجمات في الجنوب، بعيداً عن العاصمة مقديشو.
ورغم كل هذه المجهودات، فإن «حركة الشباب» لا يزال قادراً على الضرب بقوة في أماكن عدة داخل العاصمة، وفي وسط البلاد وجنوبه. وتعترف التقارير الرسمية الأميركية بأن الجهد المبذول سنة 2017 لم يكن كافياً، وأن هناك صعوبات تعترض الانتصار على «الشباب المجاهدين»، خصوصاً أن الصومال دولة من دون جيش.
وبهذا، يفسر التقرير الأخير لمجلة «الحرب الطويلة» تركز «الهجمات الأميركية الجوية لعام 2017 ضد حركة الشباب بشكل كامل في جنوب الصومال، خصوصاً بمنطقة جيليب والمناطق المحيطة بها، التي تعتبرها ملاذاً آمناً ومعروفاً لشبكة القاعدة في شرق أفريقيا». ووفقاً للتقارير الأميركية الصادرة عن وزارة الخارجية حول الإرهاب لعام 2016، فإن حركة الشباب تحتفظ بملاذ آمن في وادي نهر جوبا، وتسيطر على «عدة قرى وبلدات في جميع أنحاء منطقة جوبالاند، بما في ذلك جانايل وجيليب وكونيو بارو».
وبكلمة، يمكن القول إن هناك عوامل داخلية تساعد على العودة القوية لحركة الشباب الإرهابية. ومن هذه العوامل المثارة في الأسبوعين الأولين من أغسطس 2018 ما يرتبط بالصراعات الدائمة الجارية وسط النخبة العسكرية والأمنية والسياسية الصومالية.
يشار إلى أن نشر وثيقة تتهم مدير الاستخبارات بالتعاون مع «الشباب»، جاء بعد إصدار الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو مرسوماً رئاسياً أعفى بموجبه عبد الله عبد الله من قيادة وكالة المخابرات الوطنية، كما جرده المرسوم من جميع الرتب العسكرية، واتهمه بخرق قانون القوات المسلحة، والقوانين الفرعية المنظمة لوكالة الاستخبارات والأمن القومي.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟