يبني طارق إمام عالمه الفني في مجموعته القصصية «مدينة الحوائط اللانهائية» بالأسطورة، ويدفعها إلى تخوم الخرافة، متخذاً من الحلم الدائم بها عيناً سحرية للكتابة. فثمة شخوص دفنوا أحلامهم في الماضي، وتركوها قسراً، لم يبقَ لهم سوى كهولتهم يحتفون بها، كي يتذكروا أنهم كانوا هنا، وشعب معلق في سقف الزمن، قرر أن يجعل مدينته نافذة مشرعة على السماء، بلا أسقف أو أبواب للبيوت، مجرد حوائط متراصة، حتى شوارعها ودروبها أمعنوا في تضييقها، فبدت تتلوى كالثعبان، بالكاد تسع لشخص واحد كي يمر.
هذا الاتساع في الأعلى والتضييق في الأسفل، يحمل ضمنياً إشارة فارقة ما بين زماني السماء والأرض، وأن الكتلة فوق مسطح السرد تبلغ حيويتها حين تشارف خط الأفق في أعلى اللوحة، كاسرة صلادة الإطار، بينما تتناهي في الصغر كلما اقتربت من خط الأرض.
لا يكترث إمام بالعلاقة المنطقية بين الأشياء والعناصر، فدائماً يسعى إلى تفتيتها وبعثرتها، وإعادة بنائها عبر نوافذ إدراك جديدة مباغتة، مدركاً أنه يمارس اللعب ما بين وعيين؛ وعي الواقع، ووعي الأسطورة. وحتى تظل اللعبة طازجة ولصيقة بهذه العين السحرية، اختار فعل الحكي لفصول كتابه لما ينطوي عليه من مذاق شعبي حريف، حيث تجري الحكاية مجرى الأمثال والحكم الشعبية.
في الخلفية أيضاً، يضع طارق إمام «ألف ليلة وليلة»، يخايلها، ويشم روائحها من بعيد، لكنه في لحظة الكتابة يتركها قابعة فوق الرّف. مقسماً كتابه إلى ثلاثة أقسام هي: نساء مدينة الحوائط، ورجال مدينة الحوائط، ثم غرباء مدينة الحوائط. ويتحرك فضاء الحكايات عبر كتلتين نصيتين؛ إحداهما سردية والأخرى بصرية، يتجاوران ويتقاطعان، ويتبادلان الأدوار والأقنعة، ويُسهِمان معاً في تنويع مناخات الحكي، وطرائق تشكله، وتذويب حركة الضمائر، في فضاء الزمن والأسطورة، لنصبح إزاء سبيكة سردية مغوية، تنفرط وتلتئم خيوطها وتتنامى درامياً برشاقة أسلوبية تشارف تخوم الشعر والموسيقى معاً.
لا تتكون هاتان الكتلتان من تلقاء نفسهما، فدائماً هناك رأس حربة، يشكِّل محورَ إيقاعها من الداخل، ويضبط علاقتها بالخارج، رأس الحربة هو بطل أو بطلة الحكاية، علاقته بالكتلة مرنة، فهو يستطيع أن يدخل ويخرج منها بحرية، بل يقلبها رأساً على عقب، ويمسخها، لتستحيل إلى عالم خرافي، يعلو فوق حدود العقل والحواس والخيال.
يرفد ذلك الفضاء الطباعي للكتاب، فثمة صورةٌ تتصدر كل حكاية، يعقبها العنوان، وبينما تعتمد الصورة على رسوم هيكلية ذات ملمح رمزي تعبيري، وتهشيرات الأبيض والأسود، مشربة بروح من الكولاج، لالتقاط مناخ الحكاية، يعتمد العنوان في أغلب الحكايات على علاقة الوصل أو صلة الموصول من قبيل «حكاية المرأة التي تغني»، «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية العجوز الذي يحلم بالمستقبل»... وغيرها. ما يعني أننا تحت مظلة حكايات تكمل بعضها بعضا، وأن كل حكاية تشكل جسراً شفيفاً لما بعدها، وفي فضاء مكاني واحد، لم يبرح مدينة الحوائط.
يبرز «الماوراء»، دائماً في حكايات ناقصة مبتورة، أشبه بأسطورة مجروحة، بوجود منزوع منه غلافُ الحياة، وذلك بفعل طاقة السحر والكائنات الشريرة، إنه وجود مؤجل ينتظر عملاً خارقاً يشبه المعجزة، تماماً كذيل الثعبان المفصول عن رأسه، في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، الذي يفتش عنها ليكتمل تجسّده في حبيبته بشراً سويّاً، ولكي يتم ذلك لا بد أن يكون برفقة شخص يبحث عن الحب... كذلك في الشَّعرة السوداء الوحيدة التي صمدت ضد الشيب في رأس المرأة الغانية، وكيف تعود شابة بشعر أسود، بعد مصادفة لقائها بالرجل الكهل، وتكتشف أنه حبيبها الذي سقط منها في بئر الماضي. وفي حكاية «طباخة السم» الفتاة الماهرة صاحبة القدرات الخاصة في الطبخ لا سيما في صناعة الحساء، حيث يتكشف ما وراء السم، بقوة المصادفة، ويصبح صكّ براءتها، وطوقَ نجاة للوصول إلى حبيبها الفتي الأعمى الحكيم... وغيرها من الحكايات.
وفي «حكاية المرأة ذات العين الواحدة»، يمثل جبل الكحل بروائحه النفاذة وظلاله الداكنة، وهيكله الضخم المنتصب بشموخ في سفح الجبل بمدينة الحوائط، كتلةً بصرية بامتياز، كأننا إزاء نصب تذكاري، له قوامه الصرحي، بينما تمثل المرأة البطلة ذات العين الواحدة محور إيقاع الكتلة ورأس حربتها، التي تحركها صعوداً وهبوطاً، من أعلى لأسفل، وفي زوايا خاصة، تشع فيها تحولات المكان فوق قماشه الحكي، حتى تصيب لعنة الكحل وفتنته كل نساء المدينة فيذُبْنَ في صورة البطلة، ويتحولن إلى نساء بعين واحدة... بينما يبرز عمل الكتلة السردية، في وصف شديد الدقة والمتعة، يتجاوز بؤرة التوثيق للحدث، ويصبح شكلاً من أشكال معايشته على ألسنة الناس وانفعالاتهم وردود فعلهم حياله، ويتحول الكحل إلى سلاح للمقاومة الشرسة ضد غارات الأعداء على المدينة.
الأمر نفسه يطالعنا في «حكاية كتاب الحياة المفقودة»، فمشهد الهيكل العظمي المتيبس المطمور في التراب، «منكفئاً في وضع جلوس، وقد أمسك بين كفيه كتاباً مفتوحاً»، يشد العين إلى الصورة كأثر لأسطورة ما محفورة في طوايا الزمن والتاريخ.
تتحرك الصورة بقوة الأسطورة، وتستعيد دورتها في الحياة حين يتم كشف محتوى الكتاب، وتكمن المفاجأة أن صفحاته خالية من أي كلمات، عدا الصفحة الأولى فقط، التي احتلتها عبارة واحدة مكتوبة بخط اليد «من يعثر علي ستصيبه اللعنة إن لم يخرجني»... امتثالاً لهذه الوصية وبعد نقاش كثير، يقرر الأهالي أن يخرجوه، ويسندوه إلى أقرب حائط، بعد أن يعيدوا الكتاب إلى كفيه كما كان حين عثروا عليه، لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد... هنا تبرز خصيصة مهمة في هذا الكتاب، حيث القدرة على صُنْع نهايات لا تنتهي، وفي الوقت نفسه القدرة على خلق المأزق الحكائي، وتنميتها فنياً ونفسياً ودفعه إلى أقصى نقطة، لم تكن تخطر على البال، ومن أبسط الأشياء والثقوب، ما يعني ضمنياً إننا إزاء ما يمكن أن أسميه «تناسل الأسطورة»، حيث النهايات المفتوحة على كل شيء.
تتابع النهايات في حكاية «كتاب الحياة المفقودة» كأنها سلسلة معلَّقة في رقاب الزمن، فالهيكل البشري يتمكن من ستر عورته بقماشة بيضاء، ثم يستعيد وجهه الذي أُحِيط بهالة شعر سوداء طويلة وناعمة، وارتدى جلباباً واسعاً، ثم يكتشفون أن الهيكل العظمي كان لأنثى جميلة وليس لرجل... ثم تصل التوقعات لذروتها غير المتوقعة، فمع كل صفحة تسطرها في كتابها هذه الأنثى الجميلة التي عادة للحياة من الموت، يستيقظ الرجال كل صباح، على هياكل عظمية جديدة في أسِرَّتِهم، لنسائهم وفي غرف بناتهم، ولا يبقى في المدينة سواها امرأةً وحيدة عشيقة يشتهيها كل الرجال، وزوجةً غيرَ معلنة للجميع، وأمّا وحيدة لجيل جديد، «بزغ بملامح متشابهة حد التطابق... هكذا أعادت الجميع إخوة»... تطالعنا هذه النهايات أيضاً في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، فحين يعثر على حبيبة الحلم، يهديها فأسه، وفي نشوة القبلات، تفاجئه بضربة قاصمة بالفأس، تشطر جسده نصفين لجسد ثعبان، تختبئ حبيبته في النصف الذي يحمل الرأس، ويختبئ هو في النصف الذي يحمل الذيل... وفي حكاية «زوجة الصائغ الذي تكره الذهب»، يتحول عشق الذهب وكراهيته إلى لعنة تودي بحياة الزوجين، على يد كائناتهما الأليفة، دجاجات الزوجة وكلب الزوج، بفعل إدمانها رائحة الذهب وغباره المتطاير، فيسقطان صرعى معركة لم يخططا لها، وأرادا لحياتهما أن تتحول في ظلالها إلى لعبة محببة.
رغم ذلك، في رحم الأسطورة يتم التصالح مع أشياء يبدو التصالح معها مستحيلاً واقعياً، ويحتاج إلى معجزة... يتم التصالح مع الموت والحياة، مع الحب والماضي، مع النور والعتمة، بل يصبح العمى بصيرة كاشفة، لما وراء الصورة... يطالعنا ذلك في كثير من الحكايات، منها على سبيل المثال «حكاية الخادم الذي يعيش في لونين»، الأبيض والأسود، لا يرى غيرهما كأنهما صدى لحلم قديم، لكنه يصبح قادراً على رؤية العالم كما يريد، بعد أن فقد لوناً منهما وكُفّ عن البصر، مكتفياً بلون واحد هو الأبيض. كذلك في حكاية «العجوز الذي أغضب الموت»، والذي نجا منه بعد أشهر من ولادته، وقبل أن يواروا جسده التراب، ينطق مبتسماً للحياة من جديد. لكنه يقع في خصام مع الموت، بعد أن تجاوز عمرة المائة عام، وأصبح مجرد هيكل عظمي لم يعد في جسده سوى حزمة أنفاس مضطربة.
على هذا النحو، تتقافز الأسطورة في الحكايات، ما بين الثقل والخفة، وفي قبضة ضمير واحد، هو صوت الراوي السارد، الكاتب، صانع اللعبة، لعبة ما أسميه «ملاذات الأسطورة»، فهي أحياناً ملاذ عاطفي للحب والحلم والحرية، ما يطالعنا في كثير من الحكايات، منها: «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية الشيطان وصندوق الدنيا»، «حكاية رجل عجوز من الورق المقوى». وهي ملاذ للفكاهة والدعابة والمرح، مثلما في «حكاية الإسكافي المجنح والحذاء الذي يتكلم»، و«حكاية ساعي البريد وجبل الخطابات الخالية»... تتخفف هذه الملاذات من ثقل الكتلة وكثافتها بصرياً وسردياً، وتمرق كضوء شارد وحميم، في ذاكرة الكتابة، لكن هاجسها الأساس يظل الحلم بالأسطورة.
الحكي بعين الأسطورة
طارق إمام في «مدينة الحوائط اللانهائية»
الحكي بعين الأسطورة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة