الحكي بعين الأسطورة

طارق إمام في «مدينة الحوائط اللانهائية»

الحكي بعين الأسطورة
TT

الحكي بعين الأسطورة

الحكي بعين الأسطورة

يبني طارق إمام عالمه الفني في مجموعته القصصية «مدينة الحوائط اللانهائية» بالأسطورة، ويدفعها إلى تخوم الخرافة، متخذاً من الحلم الدائم بها عيناً سحرية للكتابة. فثمة شخوص دفنوا أحلامهم في الماضي، وتركوها قسراً، لم يبقَ لهم سوى كهولتهم يحتفون بها، كي يتذكروا أنهم كانوا هنا، وشعب معلق في سقف الزمن، قرر أن يجعل مدينته نافذة مشرعة على السماء، بلا أسقف أو أبواب للبيوت، مجرد حوائط متراصة، حتى شوارعها ودروبها أمعنوا في تضييقها، فبدت تتلوى كالثعبان، بالكاد تسع لشخص واحد كي يمر.
هذا الاتساع في الأعلى والتضييق في الأسفل، يحمل ضمنياً إشارة فارقة ما بين زماني السماء والأرض، وأن الكتلة فوق مسطح السرد تبلغ حيويتها حين تشارف خط الأفق في أعلى اللوحة، كاسرة صلادة الإطار، بينما تتناهي في الصغر كلما اقتربت من خط الأرض.
لا يكترث إمام بالعلاقة المنطقية بين الأشياء والعناصر، فدائماً يسعى إلى تفتيتها وبعثرتها، وإعادة بنائها عبر نوافذ إدراك جديدة مباغتة، مدركاً أنه يمارس اللعب ما بين وعيين؛ وعي الواقع، ووعي الأسطورة. وحتى تظل اللعبة طازجة ولصيقة بهذه العين السحرية، اختار فعل الحكي لفصول كتابه لما ينطوي عليه من مذاق شعبي حريف، حيث تجري الحكاية مجرى الأمثال والحكم الشعبية.
في الخلفية أيضاً، يضع طارق إمام «ألف ليلة وليلة»، يخايلها، ويشم روائحها من بعيد، لكنه في لحظة الكتابة يتركها قابعة فوق الرّف. مقسماً كتابه إلى ثلاثة أقسام هي: نساء مدينة الحوائط، ورجال مدينة الحوائط، ثم غرباء مدينة الحوائط. ويتحرك فضاء الحكايات عبر كتلتين نصيتين؛ إحداهما سردية والأخرى بصرية، يتجاوران ويتقاطعان، ويتبادلان الأدوار والأقنعة، ويُسهِمان معاً في تنويع مناخات الحكي، وطرائق تشكله، وتذويب حركة الضمائر، في فضاء الزمن والأسطورة، لنصبح إزاء سبيكة سردية مغوية، تنفرط وتلتئم خيوطها وتتنامى درامياً برشاقة أسلوبية تشارف تخوم الشعر والموسيقى معاً.
لا تتكون هاتان الكتلتان من تلقاء نفسهما، فدائماً هناك رأس حربة، يشكِّل محورَ إيقاعها من الداخل، ويضبط علاقتها بالخارج، رأس الحربة هو بطل أو بطلة الحكاية، علاقته بالكتلة مرنة، فهو يستطيع أن يدخل ويخرج منها بحرية، بل يقلبها رأساً على عقب، ويمسخها، لتستحيل إلى عالم خرافي، يعلو فوق حدود العقل والحواس والخيال.
يرفد ذلك الفضاء الطباعي للكتاب، فثمة صورةٌ تتصدر كل حكاية، يعقبها العنوان، وبينما تعتمد الصورة على رسوم هيكلية ذات ملمح رمزي تعبيري، وتهشيرات الأبيض والأسود، مشربة بروح من الكولاج، لالتقاط مناخ الحكاية، يعتمد العنوان في أغلب الحكايات على علاقة الوصل أو صلة الموصول من قبيل «حكاية المرأة التي تغني»، «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية العجوز الذي يحلم بالمستقبل»... وغيرها. ما يعني أننا تحت مظلة حكايات تكمل بعضها بعضا، وأن كل حكاية تشكل جسراً شفيفاً لما بعدها، وفي فضاء مكاني واحد، لم يبرح مدينة الحوائط.
يبرز «الماوراء»، دائماً في حكايات ناقصة مبتورة، أشبه بأسطورة مجروحة، بوجود منزوع منه غلافُ الحياة، وذلك بفعل طاقة السحر والكائنات الشريرة، إنه وجود مؤجل ينتظر عملاً خارقاً يشبه المعجزة، تماماً كذيل الثعبان المفصول عن رأسه، في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، الذي يفتش عنها ليكتمل تجسّده في حبيبته بشراً سويّاً، ولكي يتم ذلك لا بد أن يكون برفقة شخص يبحث عن الحب... كذلك في الشَّعرة السوداء الوحيدة التي صمدت ضد الشيب في رأس المرأة الغانية، وكيف تعود شابة بشعر أسود، بعد مصادفة لقائها بالرجل الكهل، وتكتشف أنه حبيبها الذي سقط منها في بئر الماضي. وفي حكاية «طباخة السم» الفتاة الماهرة صاحبة القدرات الخاصة في الطبخ لا سيما في صناعة الحساء، حيث يتكشف ما وراء السم، بقوة المصادفة، ويصبح صكّ براءتها، وطوقَ نجاة للوصول إلى حبيبها الفتي الأعمى الحكيم... وغيرها من الحكايات.
وفي «حكاية المرأة ذات العين الواحدة»، يمثل جبل الكحل بروائحه النفاذة وظلاله الداكنة، وهيكله الضخم المنتصب بشموخ في سفح الجبل بمدينة الحوائط، كتلةً بصرية بامتياز، كأننا إزاء نصب تذكاري، له قوامه الصرحي، بينما تمثل المرأة البطلة ذات العين الواحدة محور إيقاع الكتلة ورأس حربتها، التي تحركها صعوداً وهبوطاً، من أعلى لأسفل، وفي زوايا خاصة، تشع فيها تحولات المكان فوق قماشه الحكي، حتى تصيب لعنة الكحل وفتنته كل نساء المدينة فيذُبْنَ في صورة البطلة، ويتحولن إلى نساء بعين واحدة... بينما يبرز عمل الكتلة السردية، في وصف شديد الدقة والمتعة، يتجاوز بؤرة التوثيق للحدث، ويصبح شكلاً من أشكال معايشته على ألسنة الناس وانفعالاتهم وردود فعلهم حياله، ويتحول الكحل إلى سلاح للمقاومة الشرسة ضد غارات الأعداء على المدينة.
الأمر نفسه يطالعنا في «حكاية كتاب الحياة المفقودة»، فمشهد الهيكل العظمي المتيبس المطمور في التراب، «منكفئاً في وضع جلوس، وقد أمسك بين كفيه كتاباً مفتوحاً»، يشد العين إلى الصورة كأثر لأسطورة ما محفورة في طوايا الزمن والتاريخ.
تتحرك الصورة بقوة الأسطورة، وتستعيد دورتها في الحياة حين يتم كشف محتوى الكتاب، وتكمن المفاجأة أن صفحاته خالية من أي كلمات، عدا الصفحة الأولى فقط، التي احتلتها عبارة واحدة مكتوبة بخط اليد «من يعثر علي ستصيبه اللعنة إن لم يخرجني»... امتثالاً لهذه الوصية وبعد نقاش كثير، يقرر الأهالي أن يخرجوه، ويسندوه إلى أقرب حائط، بعد أن يعيدوا الكتاب إلى كفيه كما كان حين عثروا عليه، لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد... هنا تبرز خصيصة مهمة في هذا الكتاب، حيث القدرة على صُنْع نهايات لا تنتهي، وفي الوقت نفسه القدرة على خلق المأزق الحكائي، وتنميتها فنياً ونفسياً ودفعه إلى أقصى نقطة، لم تكن تخطر على البال، ومن أبسط الأشياء والثقوب، ما يعني ضمنياً إننا إزاء ما يمكن أن أسميه «تناسل الأسطورة»، حيث النهايات المفتوحة على كل شيء.
تتابع النهايات في حكاية «كتاب الحياة المفقودة» كأنها سلسلة معلَّقة في رقاب الزمن، فالهيكل البشري يتمكن من ستر عورته بقماشة بيضاء، ثم يستعيد وجهه الذي أُحِيط بهالة شعر سوداء طويلة وناعمة، وارتدى جلباباً واسعاً، ثم يكتشفون أن الهيكل العظمي كان لأنثى جميلة وليس لرجل... ثم تصل التوقعات لذروتها غير المتوقعة، فمع كل صفحة تسطرها في كتابها هذه الأنثى الجميلة التي عادة للحياة من الموت، يستيقظ الرجال كل صباح، على هياكل عظمية جديدة في أسِرَّتِهم، لنسائهم وفي غرف بناتهم، ولا يبقى في المدينة سواها امرأةً وحيدة عشيقة يشتهيها كل الرجال، وزوجةً غيرَ معلنة للجميع، وأمّا وحيدة لجيل جديد، «بزغ بملامح متشابهة حد التطابق... هكذا أعادت الجميع إخوة»... تطالعنا هذه النهايات أيضاً في حكاية «الحطاب وذيل الثعبان»، فحين يعثر على حبيبة الحلم، يهديها فأسه، وفي نشوة القبلات، تفاجئه بضربة قاصمة بالفأس، تشطر جسده نصفين لجسد ثعبان، تختبئ حبيبته في النصف الذي يحمل الرأس، ويختبئ هو في النصف الذي يحمل الذيل... وفي حكاية «زوجة الصائغ الذي تكره الذهب»، يتحول عشق الذهب وكراهيته إلى لعنة تودي بحياة الزوجين، على يد كائناتهما الأليفة، دجاجات الزوجة وكلب الزوج، بفعل إدمانها رائحة الذهب وغباره المتطاير، فيسقطان صرعى معركة لم يخططا لها، وأرادا لحياتهما أن تتحول في ظلالها إلى لعبة محببة.
رغم ذلك، في رحم الأسطورة يتم التصالح مع أشياء يبدو التصالح معها مستحيلاً واقعياً، ويحتاج إلى معجزة... يتم التصالح مع الموت والحياة، مع الحب والماضي، مع النور والعتمة، بل يصبح العمى بصيرة كاشفة، لما وراء الصورة... يطالعنا ذلك في كثير من الحكايات، منها على سبيل المثال «حكاية الخادم الذي يعيش في لونين»، الأبيض والأسود، لا يرى غيرهما كأنهما صدى لحلم قديم، لكنه يصبح قادراً على رؤية العالم كما يريد، بعد أن فقد لوناً منهما وكُفّ عن البصر، مكتفياً بلون واحد هو الأبيض. كذلك في حكاية «العجوز الذي أغضب الموت»، والذي نجا منه بعد أشهر من ولادته، وقبل أن يواروا جسده التراب، ينطق مبتسماً للحياة من جديد. لكنه يقع في خصام مع الموت، بعد أن تجاوز عمرة المائة عام، وأصبح مجرد هيكل عظمي لم يعد في جسده سوى حزمة أنفاس مضطربة.
على هذا النحو، تتقافز الأسطورة في الحكايات، ما بين الثقل والخفة، وفي قبضة ضمير واحد، هو صوت الراوي السارد، الكاتب، صانع اللعبة، لعبة ما أسميه «ملاذات الأسطورة»، فهي أحياناً ملاذ عاطفي للحب والحلم والحرية، ما يطالعنا في كثير من الحكايات، منها: «حكاية الرجل الذي لم يحلم أبداً»، «حكاية الشيطان وصندوق الدنيا»، «حكاية رجل عجوز من الورق المقوى». وهي ملاذ للفكاهة والدعابة والمرح، مثلما في «حكاية الإسكافي المجنح والحذاء الذي يتكلم»، و«حكاية ساعي البريد وجبل الخطابات الخالية»... تتخفف هذه الملاذات من ثقل الكتلة وكثافتها بصرياً وسردياً، وتمرق كضوء شارد وحميم، في ذاكرة الكتابة، لكن هاجسها الأساس يظل الحلم بالأسطورة.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!