جلال الدين الرومي.. شاعر تمرد على الحياة المادية ودعا إلى القيم السامية

اهتمام عالمي يفوق اهتمام وطنه به

غلاف مختارات من قصائده مترجمة للعربية
غلاف مختارات من قصائده مترجمة للعربية
TT

جلال الدين الرومي.. شاعر تمرد على الحياة المادية ودعا إلى القيم السامية

غلاف مختارات من قصائده مترجمة للعربية
غلاف مختارات من قصائده مترجمة للعربية

«مولانا جلال الدین الرومي» (بالفارسي: جلال الدين محمد بلخي) هو شاعر وصوفي كبير. ويعتبر «مولانا» أحد أعظم الشعراء في إيران، وعرف أيضا بـ«مولانا الرومي»، و«مولوي»، و«مولى الروم». وصادفت يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) ذكرى وفاة جلال الدين الرومي، حيث تقام احتفالات كثيرة في مناطق مختلفة بهذه المناسبة.
وقد أجرينا حوارا مع مدير جمعية «الحكمة والفلسفة» في إيران الدكتور غلام رضا أعواني بهذه المناسبة تطرق فيه إلى بعض الأبعاد الفكرية والمعنوية في شخصية «مولانا جلال الدين الرومي».
> منذ سنوات وتقام احتفالات وحفلات لتكريم «مولانا جلال الدين الرومي»، هل تساهم أنشطة الأوساط العلمية والأكاديمية في إيران في مأسسة عملية إجراء الأبحاث والدراسات حول «مولانا»؟
- لا أظن ذلك، فلا أجد اهتماما إيرانيا حقيقيا يليق بمكانة «مولانا» الذي يستحق أكثر من ذلك بالتأكيد. يلقى «مولانا» اهتماما عالميا كبيرا، كما أن عدد الكتب التي يجري نشرها بلغة الإنجليزية ولغات أخرى حول «مولانا» هو الأكبر مقارنة مع النسخ الفارسية.
ينشر موقع «أمازون» الإلكتروني على سبيل المثال أكثر من 200 كتاب حول «مولانا»، كما تحتفظ المكتبات وبائعو الكتب بكثير من الكتب النادرة والمميزة التي لا تكون كلها على المستوى نفسه، غير أن بعضها تتسم بجودة عالية. لقد تصدرت ترجمة أشعار مولانا من قبل شاعر أميركي قائمة الكتب الأكثر مبيعا طوال عشرة أعوام. وسبقت هذه الترجمة، أخرى قام بها المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون، ويقال إن عدد مبيعات الترجمة الأميركية تجاوز أو بقي على مستوى الكتاب المقدس (الإنجيل). وهذا يدل على أن العالم المعاصر البعيد عن المعنويات يسعى لاستعادة هويته المعنوية.
قمنا بتنظيم «مهرجان مولانا الدولي» في طهران في 2007، إذ شارك فيه الكثير من أصحاب الفكر، والمثقفين الإيرانيين والأجانب، وقررنا حينها إنشاء سكرتارية دائمة تهتم بشأن «مولانا». ولم يبصر هذا المشروع النور وطواه النسيان بسبب إهمال المسؤولين الذين قاموا بإغلاق مقر السكرتارية. وما يشاهده الناس من أعمال ودراسات تتمحور حول «مولانا» هي أعمال واهتمامات فردية. وتنحصر غالبية التعليقات والدراسات حول مولانا في كتب الأدب الفارسي المدرسية.
> ما سر الاهتمام العالمي المميز بأشعار «مولانا»؟
- برأيي، يكمن السر في عولمة أفكار «مولانا» التي تتميز بـ«سموها الإنساني والإسلامي». تنسجم هذه الأفكار مع الفطرة البشرية التي تتجاوز الحدود الزمكانية. تتمحور أشعار «مولانا» حول المفاهيم الإنسانية الجوهرية، مثل الحب، والإيمان، والعدالة التي لا تختزل أبدا. للشيخ البهائي قصائد رائعة عن «مولانا»، منها:
لا أعلم ماذا أقول لأؤدي حق «مولانا»
فهو ليس من الأنبياء.. غير أنه لديه هذا الكتاب الرائع
«مولانا» لديه ديوان يدعى «المثنوي المعنوي» الذي قام فيه بتفسير القرآن الكريم وسر المعنويات، وجوهرها. يقدم الكتاب صورة عن الحق، ومعاناة الإنسان للوصول إلى حبه الأكمل وهو الله. لقد التقيت بأحد كبار شيوخ الصوفية في فترة شبابي، وكان أول سؤال قد وجهه إلي عما إذا قرأت ديوان «المثنوي المعنوي»، فقلت له: نعم قرأت بعضا منه. وبدأ يشجعني على إكمال القراءة، وقال لي إنني لا أتقن اللغة الفارسية ولكني كنت أتمنى إتقانها لأتمكن من قراءة أشعار «مولانا»، واستيعابها. وأضاف: «لو كنت ملما باللغة الفارسية، لكان يكفيني أن أقرأ قصائد (مولانا)، وهذا ليس كلاما مبالغا فيه».
تحظى أشعار «مولانا»، وكتابه «المثنوي المعنوي»، و«ديوان شمس التبريزي» الذي يرتكز حول الحب، والمعرفة، والقيم الإنسانية والإلهية، بقيمة كبيرة، وجديرة بالقراءة باللغة الفارسية. قد أصبحنا اليوم بحاجة إلى «مولانا» أكثر من أي وقت، ونحتاج إلى القيم المعنوية التي يتحدث عنها «مولانا» أكثر من العالم التقني الحديث في الغرب. أنا لا أقول إننا باستغناء عن التقنيات الحديثة في الغرب، ولكننا بحاجة ماسة إلى القيم المعنوية التي تروج لها الصوفية في إيران، و«مولانا» هو أكبر ممثل لهذه الحركة.
> كيف تصف قصائد «مولانا»؟ وإلى أي مدى تمكنت هذه الأشعار من التواصل مع القيم المعرفية للإنسان؟
- نلمس في قصائد «مولانا» نبرة من الجنون، والتمرد على ما يقيد الإنسان ويحرمه من القيم السامية. «مولانا» متمرد لا يريد الحياة في إطار القيود المعروفة، فهو، وفي قصائده، يتمرد على ما يربط الإنسان بالحياة المادية، ويقيده بأطر الحياة الاعتيادية. يطمح «مولانا» إلى تخلص الإنسان، وهو الذي نحتاج إليه في العالم الحديث. يسعى الأسير في قوة الانتظام التي يفرضها العالم الحديث إلى عصيان يتجلى في قصائد «مولانا».
إن عدد شعراء الصوفية الذين أبهروا العالم قليل جدا. لا أقول إننا لم نشهد شعراء عظماء خلال التاريخ بين البوذيين، والهنود، والمسيحيين، واليهود، غير أن عدد الذين أتقنوا هذا الأسلوب ووصلوا إلى شهرة عالمية ليس بكثير. ولا أظن أن لا ابن عربي ولا شانكارا يبلغان مستوى «مولانا» في التعبير عن سر المعرفة، والحقيقة. قال «مولانا»: «معنى العالم والوجود هو الحق تعالى», وتتجلى الصوفية الإيرانية في أشعار «مولانا» التي تعلمها من «شمس التبريزي»، إذ تعد العالم يقتصر على القيم المعنوية التي تتمثل في الذات الإلهية. فما أروع «شمس التبريزي» الذي تتلمذ «مولانا» على يديه، وتحول إلى عالم في المعنى والذات الإلهية. لن نتمكن من إيفاء حق مولانا كما يجب، بسبب عظمته التي لا يدركها إلا رب العالمين. إذ يقول «مولانا»:
إذا لم تستطع أن تسحب مياه البحر
فتذوقها لترفع عطشك
> كيف ينظر «مولانا» إلى الحب المادي الذي لم تتطرق إليه في القصائد الصوفية التي نقلتها عنه؟
- يقتصر الحب عند «مولانا» على الله تعالى. والحب في رأيه درّ نادر، بينما الحب المادي مصطنع. يقول «مولانا»: «إن لون النار أحمر بينما شرارتها بيضاء، والدخان الصادر عنها ناتج عن الخشب الذي يحترق». وهو يعتقد أن الحب المادي كالدخان، فيما حب الله هو حب نزيه. ويرى «مولانا» أن جوهر الإنسان يحمل صبغة إلهية، وحب الإنسان حب مصطنع، والجوهر هو الله تعالى. يكشف «مولانا» الحقائق والأسرار البشرية، لأن رب العالمين علم الأسرار للإنسان، فتجلت الأسرار الإلهية في ذات البشر. ولذا يمثل البشر، الذات الإلهية.
وهو يعتقد أنه لا ينبغي لنا أن نتعلق بهذا الوجود الفاني، بل علينا التعلق بالله تعالى، فهو أبدي. ويتكون العقل البشري في رأي «مولانا» من قسمين: العقل الكلي الذي يمثل الحب الذي يمكن أن يكون مكتسبا. وأما العقل الجزئي أو الدنيوي فهو ما يتعارض مع الحب.
> إلى أي مدى تمكنت أشعار «مولانا» من الوصول إلى جمهورها؟
- تقوم العلاقة بين أشعار «مولانا» والجمهور على أساس الحب والتقارب، لأن القارئ لأشعار «مولانا» يشعر بالدفء والتقارب عندما يقرأها. تتكون أشعار «مولانا» من قصص كل منها لديها أبطالها الذين تربطهم بالجمهور علاقة عاطفية. ولكن هذا لا يعني أن العلاقة بين الأبطال في أشعار «مولانا» تقوم على أساس الغراميات البحتة. كما تتضمن العلاقة بين الأبطال في أشعار «مولانا» مفاهيم أخرى مثل الغضب، والحقد، والصراع. وما یحسم أمر العلاقة بين أبطال أشعار «مولانا» هو مكونات ناتجة عن ذات البشر، وليس عوامل قائمة على الأسس العلمية. تحظى القواعد العلمية في أشعار «مولانا» والعلاقة بين «أبطالها» بأهميتها الطبيعية ولا أكثر. إن خصائص البشر الجوهرية تساهم في تكوين هذه العلاقات. وفيما يتجاهل العالم المعاصر هذا الأمر، يظل الإنسان الذي يعيش في هذا العالم يبحث عنه، وعن أشعار «مولانا» التي تتمحور حول هذه الخصائص البشرية الجوهرية.
* صحافي إيراني



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».