ماكس فيبر.. ونزع السحر عن العالم

ماكس فيبر
ماكس فيبر
TT

ماكس فيبر.. ونزع السحر عن العالم

ماكس فيبر
ماكس فيبر

في 21 أبريل (نيسان) من سنة 1864 ولد في مدينة أرفورت الفيلسوف الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي الألماني ماكس فيبر، الذي تمتد جذوره إلى أجداد لهم باع في الصناعة وهم من البروتستانت. عاش في وسط بيت سياسي، فوالده مستشار في مجلس مدينة برلين، ثم غدا عضوا في مجلس النواب البروسي، وصولا إلى عضويته بمجلس نواب ألمانيا (الرايشستاج).
تأثر بصرعات عصره، وتقلب بين ماركس ونيتشه، ولكنه فيما بعد أسس منهجا في التحليل والنقد والفحص والمساءلة لم يسبق إليه، وهي الآلية «الفيبرية» التي اختص بها، على النحو الذي نراه جليا في كتبه الكثيرة والتي تعتبر مرجعا عالميا في علم الاجتماع بشتى مجالاته، في التعليم والقانون، والعنف، والدولة، والسياسة، والاقتصاد، والموسيقى. بدأ التأليف في 1891 حيث أصدر أول كتاب له وهو أطروحة بعنوان: «أهمية التاريخ الروماني بالنسبة إلى القانون العام والخاص». ليصدر له من بعد عن وضع العمال الزراعيين في شرق الألب بألمانيا سنة 1892 وله من البحوث المبكرة كتاب يبحث في مجال منهج البحث بالاقتصاد وعنوانه: «روشر وكنيس والمشكلات المنطقية للاقتصاد التاريخي».
ارتبط منجز فيبر بأساس يقوم على الربط المتين بين الغرب الحداثي ونشوء العقلانية، وهي الفكرة التي سيجعل منها يورغن هابرماس خلفيته الفكرية التي تمكنه من الدفاع عن الحداثة بوصفها مشروعا لم يكتمل بعد، وآية ذلك أطروحاته التي كتبها في موضوع الفلسفة والمجتمع والحداثة، وأبرز ما يوضح هذا الترابط كتاب: «الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية»، وففي نص له يقول: «كل السياسات الآسيوية كانت تفتقر إلى طريقة منهجية يمكن مقارنتها بطريقة أرسطو، وكانت تعوزهم بشكل خاص المفاهيم العقلانية، إن الأشكال الفكرية الدقيقة في منهجيتها الضرورة لكل عقيدة شرعية عقلانية، الخاصة بالقانون الروماني وخلفه، القانون الغربي، هي أشكال غير موجودة أبدا خارج أوروبا» هذا النص يحلله فيليب راينو في كتابه المهم: «ماكس فيبر ومفارقات العصر الحديث، وفيه ترجمة ورؤية مهمة لمحمد جديدي».
القارئ لفلسفة فيبر لن يجد الطمأنينة التامة للأجوبة التي يطرحها، ومعظم كتبه كانت عبارة عن أبحاث ومحاضرات ودراسات، فهو حافر في أرض الأسئلة، لا ليبحث عن إجابة مريحة، بل ليكتشف توترا داخل تلك الأنماط التي سادت من دون مساءلة أو تشريح. وهذا ما وصف به جوليان فرويند فلسفة فيبر حين قال: «كل فلسفته تتركز على وجود منازعات وتوترات، وتصادمات في الحياة والمجتمع، فالإنسان في صراع دائم مع الأطراف، ومع البدائل، ومع المتقابلات». فلسفة فيبر ضد أي تسوية وضد أي توفيقية». بل يعلن أن: «علينا أن نشعر، من جديد، بهذه التمزقات التي أفلح في تمويهها طوال ألف سنة توجيه حياتنا وفقا للوجدان الهائل المنبعث من الأخلاق المسيحية».
من هنا كان الموقف الحاد من الديالكتيك بالمعنى الفلسفي الخاص، وقد رصد هذا النقد عبد الرحمن بدوي في مواضع من أبحاثه عن هيغل أو تعريجه على فيبر، ذلك أن الديالكتيك بالمعنى الهيغلي أو الماركسي يدعي أنه قادر على التغلب ضد المتناقضات والمنازعات المرتبطة بحال الإنسان، وذلك بواسطة مصالحة نهائية في مستوى التصورات. من عمق التوتير نشأت رؤيته في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، والذي ينتهي في محصلته إلى أن ثمة توترات بين سلوك رجال الأعمال البروتستانتي، غير أن زهده وخلقه ودينه لا تعترض على أن يستخدم أمواله للاستمتاع الشخصي، بالإضافة إلى أن (الرسالة) تدعوه إلى مضاعفة أمواله، وخلاصة قوله أن الرأسمالية وليدة (الأخلاق) البروتستانتية ضمن الأدوار المناطة في فحوى الرسالة البروتستانتية وأخلاقيتها ومحفزات الفاعل الاقتصادي من خلال رسالتها ضمن التاريخ الطويل. كانت هذه مهمته كسوسيولوجي وقد قالها: «إن السوسيولوجي مهمته أن يعثر داخل الأفعال الاجتماعية على ما هو عام من جهة، وعما هو خاص من جهة أخرى» وذلك من خلال التعمق في رصد الروابط والعلاقات.
اعتنى فيبر بتأسيس علم للفهم، ويبدأ هذا عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي، من هنا فإن السوسيولوجيا لا تضع نفسها دفعة واحدة من وجهة النظر الشمولية، ولكن انطلاقا من مسألة تتعلق في الفرد، الذي هو بالنسبة إليه «الوحيد الحامل لسلوك دال» ورأى أن وظيفة العلم أن تفصل العلم الوضعي عن مناقشة القيم، والعلم سبب في إزالة السحر عن العالم كما هو عنوان كتابه الصادر سنة 1985.
في مجال الموسيقى طبع لفيبر عام 1921 - بعد وفاته رؤيته الذكية حول: «سوسيولوجيا الموسيقى - الأسس العقلانية والاجتماعية للموسيقى» وفيه سعى من خلال دراسة معمقة إلى فتح أسئلة في مجال العلاقة بين الموسيقى والمجتمع، بل: «علينا أن نتذكر الحقائق الاجتماعية، بأن الموسيقى البدائية في مرحلة مبكرة جدا، وفي قسم كبير منها قد ابتعدت عن الاستمتاع الجمالي المحض، ووضعت نفسها في خدمة أهداف عملية، في البداية وقبل كل شيء أهداف سحرية، ومن ثم حركية وتعبدية وطقسية».
تحدث عن رؤيته عن الدولة والعنف، وله رؤيته الشهيرة حول حق الدولة في «احتكار العنف» وفي محاضرته عن السياسة يشير إلى أن: «الدولة هي الجماعة الإنسانية التي تدعي داخل أرض محددة وبنجاح حقها باحتكار العنف الطبيعي المشروع، علما أن مفهوم الأرض هو معلم من معالم الدولة. الدولة وحدها مصدر الحق في استعمال العنف».
عاش توترا نفسيا وألمت به أمراض تعددت، وكان صارما في حياته وكتابته، رغم استخدامه لمفردات فيها شيء من الشعر والعذوبة، غير أنه وقبل رحيله قال في إحدى محاضراته: «مرت آلاف السنين قبل أن نرى الحياة، وثمة آلاف سنين أخرى تنتظر بصمت»، رحل في 14 يونيو (حزيران) 1920.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.