الشخصية العراقية... رافدينية؟ عربية ـ إسلامية؟ بدوية؟

الحيدري يواصل مشروعه في دراسة سماتها وتغيراتها

جانب من  المتحف العراقي  - غلاف الكتاب
جانب من المتحف العراقي - غلاف الكتاب
TT

الشخصية العراقية... رافدينية؟ عربية ـ إسلامية؟ بدوية؟

جانب من  المتحف العراقي  - غلاف الكتاب
جانب من المتحف العراقي - غلاف الكتاب

كثيرون هم الذين كتبوا عن «الشخصية العراقية»؛ أبرزهم علي الوردي، وحنّا بطاطو، وعبد الجليل الطاهر، وقيس النوري، وقاسم حسين صالح... وسواهم من المختصين بعلم الاجتماع وفروعه المتعددة، ولكن قليلون منهم مَنْ أكملوا هذا المشروع، ووضعوا اللمسات الأخيرة عليه.
ويبدو أن الدكتور إبراهيم الحيدري هو أول عالم اجتماع تُتاح له فرصة دراسة «الشخصية العراقية» وتتبّع سماتها الثابتة والمتغيّرة في جميع المراحل التاريخية حتى الوقت الحاضر. وإذا كان الراحل علي الوردي قد توقف عن دراسة هذا المشروع لأسباب سياسية قاهرة ولم يشبعه رصداً وبحثاً وتحليلاً، فإن إبراهيم الحيدري قد أخذ على عاتقه إكمال مشروع دراسة الشخصية العراقية، فبعد أن أصدر الجزء الأول من ثلاثية «الشخصية العراقية»، ها هو يصدر الجزء الثاني الذي يحمل عنوان: «الثابت والمتحوّل في الشخصية العراقية» الذي صدر عن «دار ومكتبة عدنان» ببغداد، وسوف يصدر في القريب العاجل الجزء الثالث الذي رصد فيه تشوّه الشخصية العراقية غِبّ الاحتلال الأميركي للعراق.
يتضمّن الكتاب مقدمة، وثلاثة فصول رئيسية، وخُلاصة، إضافة إلى ثبت بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية. يمكن تشخيص المهيمنة الفكرية التي يشتغل عليها الباحث بسهولة، وهي أنّ الشخصية العراقية منقسمة على ذاتها، «واحدة تسلّطية قامعة، والثانية نكوصية خاضعة» فكيف السبيل إلى بناء شخصية عراقية وطنية متوازنة تتخلّص من كل ترسبات الماضي السحيق، وتستشرف المستقبل، لتنفتح في خاتمة المطاف على الذات والآخر ما دام أنها تعيش في مجتمع فسيفسائي متعدد القوميات والأديان والمذاهب واللغات؟
يرصد الباحث في الفصل الأول إشكالية الثقافة وعلاقتها الجدلية بالشخصية، ثم يقدم لنا تعريفات متعددة للثقافة ودروها في التنشئة الاجتماعية، وتشكيل الذهنية العراقية بشقيها الفردي والجماعي. ثم يتوسع في دراسة العلاقة بين الثقافة والسلطة الشمولية التي تتلاشى فيها الحريات ومنظومة القيم الديمقراطية.
وفي ما يتعلق بمفهوم الشخصية، فقد قدّم الحيدري تعريفات متعددة لها مستعيناً بالنظريات الاجتماعية والنفسية الحديثة لسيغموند فرويد، ويونغ، وأدلر، وأدورنو، وأريش فروم... وغيرهم؛ حيث أكد فرويد على وجود نمطين للشخصية؛ هما «المُنبسِط» الذي ينفتح على الآخرين، و«المُنطوي» الذي يتقوقع على ذاته. أما ألفريد أدلر فقد حدّد الشخصية بثلاثة أنماط؛ هي «العُدوانية» و«الانطوائية» و«المُنبسطة»، وركز في أبحاثه على عقدتي النقص والتفوق والكمال، فيما ذهب أريش فروم إلى تقسيم الشخصية إلى نمطين؛ هما «الشخصية السوية» و«الشخصية غير السوية»، وانتقد فرويد باعتباره سجيناً لأخلاقيته البرجوازية، وقيمه الأبوية.
تتبع الحيدري آراء عدد من المختصين العراقيين والعرب بالشخصية العراقية؛ وأولهم علي الوردي بفرضياته الثلاث المعروفة، وهي «ازدواجية الشخصية، والصراع بين قيم البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي». أما المؤرخ الفلسطيني حنّا بطاطو فقد وصف الشخصية العراقية «بالمراهقة السياسية، والفرديّة، وحُب الذات، والانفعال، وعدم تحمّل المسؤولية». كما عدّها الدكتور عبد الجليل الطاهر «قلقة ومتقوقعة» ولم تستطع توحيد نفسها وصهرها بالآخر الذي يتعايش معها منذ آلاف السنين. فيما وصف الدكتور قيس النوري المواطن العراقي بأنه «عفيف من الخارج، وماجِن من الداخل».
يتمحور الفصل الثاني حول سمات وخصائص الشخصية العراقية، ويعتقد الحيدري أن الإنسان العراقي يحمل في أعماقه ترسبات ماضيه البعيد والقريب؛ فهو يحمل بقايا خصائص رافدينية، وسمات عربية - إسلامية، ورواسب من القيم البدوية، إضافة إلى مظاهر الشخصية العراقية الحديثة. وعلى الرغم من موروثه الحضاري السومري والبابلي والآشوري والأكدي، فإن العراق يقع على حافة منبع فيّاض للبداوة يجتاحه بين حين وآخر ليرسّخ فيه قيم الغزو، والتغالب، والعصبية القبلية.
يؤكد الحيدري أنّ علاقة الفرد العراقي بالسلطة علاقة مُلتبِسة دائماً، لأن الأفراد ينظرون إلى السلطة كأخطبوط يحاول ابتلاعهم. فالحكومات العراقية الاستبدادية على مرّ التاريخ كانت تمارس العنف والإذلال ضد أبنائها؛ بحيث بات القهر كأنه حق للسلطة، والخضوع كأنه واجب على الرعايا، وهذا هو منشأ كراهية العراقيين لكل حكومة. ونتيجة لذلك، فإن الشخصية المتسلطة كثيراً ما تظهر في المجتمعات الشمولية التي تفتقر كلياً إلى الفضاء الديمقراطي.
ويستعين الباحث برأي فروم القائل إن «الساديّة تدفع إلى التسلّط، والمازوشية تدفع إلى الخضوع». إنّ شيوع ظاهرة القهر هو الذي دفع الإنسان العراقي إلى التعلّق بالبطل الشعبي أو الإيمان المُفرط بالأئمة والشيوخ والأولياء الصالحين ذلك لأنه يتطلع إلى منقذ يخلّصه من المحن والرزايا التي تحاصره من كل حدب وصوب.
يناقش الحيدري فكرة «تأليه القائد» ويرى أنّ الحرب العراقية - الإيرانية قد ساعدت على تكريس «عبادة الشخصية»، فقد وُصِف الديكتاتور بشجاعة الإمام علي، وبعدالة الخليفة عمر، وبحكمة النبي سليمان، كما شُبِّه بشخصية الملك نبوخذ نصر، وهي صورة مماثلة لما قام به الروس أيام ستالين، والألمان أيام هتلر، آخذين بنظر الاعتبار أن طريق الديمقراطية التي نتغنّى بها دائماً طريق مختلفة تماماً لأنها تقف ضد الأبوية والتأليهية.
يدعو الحيدري إلى محاكمة أنفسنا ومجتمعنا وثقافتنا التي أنتجت هذه الظاهرة الصدامية غير الفريدة التي يمكن أن تُعيد إنتاج نفسها بوصفها أحد التمخّضات الشاذة للشخصية العراقية. ويتوصل الباحث إلى نتيجة مهمة مفادها أن الشخصية العراقية تعوزها الفردانية، والاستقلالية الذاتية، وينبغي عليها أن تتحرر من أسْر الذات، وأسْر النظام الأبوي الذكوري، وأسْر السلطة الاستبدادية.
وبما أن الشخصية تنهل من عقلية العراقي، فقد حدّد الباحث هذه العقلية بخمس خصائص، وهي كالتالي: «منكمشة، تغالبية، جدالية، انفعالية، ومُغتربة». ومن الآراء الطريفة التي استشهد بها الباحث رأي الكاتب الإنجليزي فريد هوليداي الذي يقول: «إن العراقي حتى لو تتفق معه، فهو يعارضك».
ويخلص الباحث إلى القول إنّ الشخصية العراقية «انبساطية لها قدرة على التكيّف والانسجام مع البيئة والمحيط الاجتماعي والطبيعي، ولكنها سرعان ما تُصبح انفعالية حين تحركها الدوافع وتثيرها العوامل الداخلية والخارجية». وقد يكون تشبيه الشخصية العراقية بـ«الحلفاء» هو الأدق، لأنها «سريعة الاشتعال وسريعة الانطفاء» في الوقت ذاته.
أما الفصل الثالث والأخير، فقد ناقش فيه الحيدري التغيرات البنيوية التي طرأت على الشخصية العراقية، ففي منتصف السبعينات من القرن الماضي كانت على وشك التكامل من حيث الاستقرار والثبات والتوازن في مكوناتها وعناصرها بسبب التقدم والتحديث الاجتماعي النسبي الذي واكب الطبقة المتوسطة؛ حيث أخذ الولاء العشائري والطائفي والمناطقي بالانكماش أمام الانتماء للهوية الوطنية الشاملة، لكن دولة «البعث» سرعان ما هيمنت على السلطة والثروة والمعرفة، وساهمت في عسكرة المجتمع، وزجّت به في حروب داخلية وخارجية طحنت الإنسان العراقي، ومزقت نسيجه الاجتماعي الذي كان متماسكاً، وتركته نهباً للاحتلال الأنغلو - أميركي الأخير الذي ألقى حجراً كبيراً في بِركة العراق، وهيّجت كل رواسبه المطمورة على مدى قرون كثيرة.
وإذا كانت الشخصية العراقية قد انقسمت على ذاتها؛ واحدة متسلطة قمعية، والثانية خاضعة نكوصية، فإنها أصبحت الآن مشوّهة لأنها فقدت كل صفاتها الأصلية.
وقد خلص الحيدري إلى أن بناء الشخصية النموذجية المتوازنة، في العراق وفي غيره من بلدان العالم، لا يمكن أن يتمّ إلا بإقامة دولة القانون والمجتمع المدني الذي تتحقق فيه فكرة المواطنة التي تتيح لنا القول بشكل صريح إن «الدين لله والوطن للجميع».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟