«داعش خراسان»... تنظيم إرهابي جديد يترسخ في أفغانستان

الشريط الحدودي مع باكستان بيئة خصبة وجاذبة للمتطرفين

عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
TT

«داعش خراسان»... تنظيم إرهابي جديد يترسخ في أفغانستان

عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)

ما الذي يجري في أفغانستان هذه الأيام وهل ستضحى منطقة خراسان الموقع والموضع لنشوء وارتقاء النسخة الثانية من تنظيم داعش، وفي منطقة لا يزال المد الأصولي فيها فاعلاً من جهة ممثلة في «طالبان»، ومن ناحية أخرى الصراع بين موسكو وواشنطن يتفاعل على الأرض من جديد؟
الشاهد، أننا أمام تصريحات وتحليلات عدة، شواهد وأحداث، تجعل المخاوف تتصاعد بشأن ما يحدث في تلك المنطقة الملتهبة تاريخياً، والتي لم تخلُ من الحرب والإرهاب طوال عقود... ماذا عن ذلك؟
في الثالث من سبتمبر (أيلول) الحالي أطلقت السلطات البريطانية تحذيراً مفاده، أن الإرهابيين يجمعون شتاتهم في أفغانستان، ولا سيما بعد الاندحار الذي حدث لهم في العراق وسوريا.
التصريحات أطلقها وزير الدفاع، غافين ويليامسون، في حديثه لصحيفة «التايمز» البريطانية وقد جاءت في سياق تعليل إرسال بريطانيا لمئات عدة من جنودها إلى أفغانستان.
ولعل القارئ للتقرير الذي نشرته «التايمز» يوقن بأن الاستخبارات الخارجية البريطانية تتوافر لديها معلومات عن الحضور الداعشي الجديد في الداخل الأفغاني، باعتبار أفغانستان على رأس الدول المرشحة لاستضافة عناصر التنظيم؛ لأنها تتسم بتصاعد التيارات الدينية فيها، فضلاً عن الغياب الكامل لمفهوم سيادة الدولة لديها، ومن ثم يمكن أن يكون الشريط الحدودي بين باكستان وأفغانستان، مرشحاً لأن يصبح بيئة خصبة وجاذبة لتنظيم داعش لإعادة ترتيب صفوفه، ومن ثم استعادة قوته. والمؤكد، أنه منذ عام 2015 والصراع جارٍ في أفغانستان بين الدواعش و«طالبان» في محاولة للسيطرة على ساحة التطرف هناك، ووصل الأمر إلى مواجهات مسلحة بين الجانبين. وفي 26 يناير (كانون الثاني) 2015، أعلن أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش «قيام ولاية خراسان» فرع لتنظيم داعش «يتخذ من باكستان وأفغانستان محل نشاطه، حيث يتشكل فرع التنظيم من مجموعات مقاتلة، منها مجموعة منفصلة عن حركة طالبان، وأخرى من حركة أوزبكستان الإسلامية، وضمت مقاتلين من آسيا الوسطى والقوقاز وإقليم الايجور، وقد صنفت ولاية خراسان منظمة إرهابية من قبل الولايات لمتحدة الأميركية في يناير 2016».

تنظيم «داعشي» مختلف
هل نحن أمام تنظيم داعش القديم نفسه، أم أننا إزاء «داعش» جديد بلمحات ولمسات، بل توجهات أصولية مختلفة؟
قبل التنظير الفكري للجواب ربما يتوجب علينا الإشارة إلى الأحداث التي وقعت الأيام القليلة الماضية هناك، التي تكشف لنا أبعاد المشهد الداعشي الجديد أو جزءاً منه على الأقل. في 25 أغسطس (آب) الماضي أكدت القوات الأميركية في أفغانستان، أن قائد تنظيم داعش الإرهابي في البلاد قد قُتل في هجوم وقع في المنطقة الشرقية من محافظة ننغارهار، ومعه نحو عشرة مقاتلين آخرين.
المفاجأة هنا، أن القائد الذي قتل ليس أبو بكر البغدادي، الزعيم المعروف لـ«داعش» في العراق والشام، بل أبو سيد أوركزاي، والاسم يدلل على أنه ليس عربياً أو شرق أوسطي، بل آسيوي بدرجة أو بأخرى.
قبل هذا الهجوم الأميركي وبعده كان «داعش» هناك يوجه سهام نيرانه لقوات «طالبان» التقليدية؛ ففي منتصف أغسطس عينه اندلعت اشتباكات بين مسلحي حركة طالبان وتنظيم ولاية خراسان في الإقليم عينه؛ مما أسفر عن مقتل بعض عناصر تنظيم داعش في نسخته الأفغانية.
لم ينتظر «الدواعش الأفغان» أو العرب والأفغان وبقية الجنسيات طويلاً، فبعد شهر تقريباً، أي في منتصف سبتمبر الحالي كان عنصران من عناصر «داعش» يقتحمان منزلاً لأحد قادة «طالبان» يدعى قاري غضنفر، في ولاية سريبول، شمالي أفغانستان ويفتحان نيران أسلحتهما الرشاشة ليوقعا نحو خمسة عشر فرداً من «طالبان» الموجودين في حفل إقامة مراسم الفاتحة، وكان من بين القتلى عدد من أقارب غضنفر، في مقدمتهم شقيقه الذي فارق الحياة إثر تعرضه لوابل من الرصاص، في حين تمكن المهاجمان من الهرب.
وقبل بضعة أسابيع كان الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية المكلف الإشراف على الحرب في أفغانستان، يحذر من أن هناك علامات تنذر بأن تجمعات جديدة للإرهابيين باتت تعيد تنظيم صفوفها، وأنها تتهيأ لمهاجمة الغرب مرة جديدة، ملمحاً إلى أنها «داعش» ولو في ثوب مغاير عما سبق رؤيته في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أنه استخدم «ولاية خراسان» في تصريحاته بشكل لافت للنظر.
إلى أي مدى تتسق تصريحات الجنرال فوتيل مع بعض الأوراق الصادرة عن المراكز البحثية الأميركية في الفترة الماضية؟
يبدو أن هناك تطابقاً كبيراً جداً يؤكد وجود «داعش خراسان» في ثوب إرهابي جديد، ومن تلك الدراسات ما جاد به مركز «الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب» من أن تنظيم داعش في ولاية خراسان يصنف على أنه جماعة إرهابية منفصلة عن «داعش» في سوريا والعراق، ولهذا تم إدراجه واحداً من أكثر عشر مجموعات إرهابية فتكاً في العالم، بعد أن نفذ 197 هجوماً في 2017 أدت إلى مقتل 1302 شخص.

«خراسان»... صراع أميركي - باكستاني
من المفيد للقارئ في تحليل مشهد «داعش الخراسانية» الجديدة الإشارة إلى إقليم خراسان ولو في عجالة، تلك المنطقة الجغرافية الواسعة التي من الناحية التاريخية يشمل إقليم خراسان شمال غربي أفغانستان وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة إلى مقاطعة خراسان الحالية في إيران ومن مدنه التاريخية «هيرات، ونيسابور وطوس التي تعرف باسم مشهد اليوم».
هذا الموقع الجغرافي يجعل إقليم خراسان مركزاً لتجاذب القوى السياسية المختلفة في المنطقة وبخاصة باكستان المرتبطة تاريخيا بـ«طالبان»؛ الأمر الذي دعا بعضاً من وسائل الإعلام الأميركية الأيام الماضية إلى الإشارة إلى وجود إشكالية حقيقية عميقة بين واشنطن وإسلام آباد، حيث تصر أميركا على أن تقطع باكستان علاقاتها بالإرهابيين الذين تأويهم لاستخدامهم أوراق ضغط في صراعاتها في المنطقة، ولكي تحافظ على حضورها رمانةَ ميزانٍ في منطقة آسيوية متفجرة. يعضد الحديث السابق ما أعلنته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بداية سبتمبر الحالي عن إلغاء المساعدات إلى إسلام آباد بسبب عدم اتخاذها إجراءً حاسماً ضد المتشددين، حيث توفر لهم ملاذات آمنة وبخاصة للمسلمين منهم الذين يشنون حرباً منذ 17 عاماً بينما تنفي باكستان الادعاءات الأميركية في هذا الشأن.
وتطالب واشنطن إسلام آباد باتخاذ إجراءات ضد حركة طالبان الأفغانية وشبكة حقاني، ومعروف أن الولايات المتحدة قد دعمت باكستان طويلاً لمواجهة حركة طالبان في أفغانستان، ولتعزيز التعاون لمواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، ومن بينها «داعش» الإرهابي.
من يدعم «داعش خراسان» و«طالبان»؟
ضمن الفوضى التي ستولد، ولا شك، كوارث إرهابية عالمية في قادم الأيام، فكرة وجود دعم دولي مزدوج لكل جماعة إرهابية، وبات وكأن هناك من يقدم دعمه لـ«طالبان»، في حين «داعش خراسان» يجد مدداً من جانب آخر وبينهما يقف الجيش الأفغاني حائراً في المنتصف على الرغم من الدعم الذي تقدمه له الولايات المتحدة الأميركية... ما هو وضع «طالبان» حالياً، وهل هي قادرة بالفعل على صد ورد هجمات «دواعش خراسان»؟ لكن يبقى السؤال محل البحث «من الذي يقوم بتزويد الدواعش الخراسانية بالأسلحة؟
الجواب غير واضح والبحث عنه شاق ومضنٍ؛ إذ يبدو أننا في معركة أقطاب كبرى بالوكالة على الأراضي الأفغانية وفي خراسان من جديد. لكن يلفت النظر في البحث عن رد مقنع للسؤال سابق الذكر ما أعلنته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الأيام الماضية من أننا «نود التأكيد مجدداً على تحليقات تقوم بها مروحيات مجهولة الهوية شمالي أفغانستان لنقل أسلحة وعتاد لمقاتلي تنظيم داعش المحليين»، كناية عن «دواعش أفغانستان وخراسان» وعناصر «طالبان» الذين يتعاونون مع هذه المجموعات الإرهابية.
ذكرت زاخاروفا أيضاً، أن هناك تقارير إعلامية أفغانية محلية وإفادات لشهود عيان تؤكد رصد هذه التحليقات في ولاية سيربول شمالي أفغانستان مؤخراً، وأن التحليقات تجري بالقرب من حدود دول آسيا الوسطى والكثير من مسلحي «داعش» ينحدرون من هذه البلدان. شيء ما يجعلنا نكاد نشك في أن طرفاً قطبياً بعينه (الولايات لمتحدة الأميركية)، هو من يقوم بذلك، والسبب ما أضافته زاخاروفا في تصريحاتها؛ إذ أشارت إلى أن تحليقات المروحيات المشبوهة لا تلقى أي رد فعل من قبل أجهزة الأمن الأفغانية وقيادات القوات الأميركية والأطلسية المتواجدة في البلاد. التصريحات المتقدمة تستدعي تساؤلات عميقة وجذرية، فمن الذي يقف وراء هذه التحليقات ويسلح «دواعش خراسان» ويعمل سراً على إنشاء معاقل لهم بالقرب من حدود رابطة الدول المستقلة (الجمهوريات السوفياتية السابقة) الجنوبية، ولماذا يحدث ذلك في ظل بقاء أجواء أفغانستان تحت السيطرة الفعلية لقيادة الناتو؟

هل يدعم الروس «طالبان»؟
في مقابل الشكوك الدائرة تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وإمكانية دعمها المستتر لـ«داعش خراسان» بدا وكأن هناك مؤخراً اتجاهاً لتحميل روسيا فكرة دعم «طالبان» من أجل وقف المد الداعشي في أفغانستان أولاً، وتجاه روسيا والصين ثانية.
في هذا الإطار، يمكننا استحضار استراتيجية الاستدارة نحو آسيا الصادرة في واشنطن في 2010، وجل ما فيها محاولة وقف النمو الروسي والصيني عن التمدد عالمياً، وغير خافٍ على أحد علاقة الولايات المتحدة الأميركية بجماعات الإسلام السياسي والتيارات الأصولية المختلفة في آسيا، وإمكانية اعتبارها خنجراً في الخاصرتين الروسية والصينية، وهذه قصة أخرى تحتاج إلى حديث مفصل.
مهما يكن من أمر، فإن السفير الأفغاني لدى موسكو، عبد القيوم كوتشاي، هو من أشعل نيران تلك التخمينات السياسية والاستخباراتية دفعة واحدة، وذلك حين أعلن عن «نية روسيا استخدام حركة طالبان في قتال تنظم داعش في أفغانستان»؛ الأمر الذي جعل وزارة الخارجية الروسية تصدر بياناً جاء فيه «نود أن نؤكد بكل وضوح أن تصريحات رئيس البعثة الأفغانية في موسكو غير صحيحة؛ إذ لا تتوافق مع الواقع، بل تشوه تماماً فحوى سياسة روسيا في المسار الأفغاني كما أكدنا ذلك مراراً لمفبركي تلك التلفيقات». لكن صراع الأقطاب الدولية يفتح الأبواب واسعة أمام جميع السيناريوهات، ولا سيما أن إجراءً أميركياً بعينه جعل كل المهتمين بشأن أفغانستان والدواعش يتساءلون، ما الذي تنتويه إدارة الرئيس ترمب تحديداً بالنسبة لهذا الملف الذي يكاد الغموض يلفه بشكل كبير؟

أميركا... قوات خاصة لا حكومية
يكاد الناظر للقرارات والتوجهات التي يدرسها الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذه الأيام، يقطع بأن اشتعال المشهد الأفغاني قادم لا محالة، وأن قصة «داعش خراسان» في أولى فصولها وربما الأسوأ لم يأتِ بعد؛ إذ يمضي الرئيس ترمب في سحب القوات الأميركية كافة من الداخل الأفغاني، والاستعاضة عنها بمجموعات مقاتلة من الشركات الأمنية الخاصة. خطة ترمب كما تسربت أخبارها الأولية للإعلام الغربي، تقوم على سحب نحو 15000 ألف جندي من القوات الأميركية واستبدالهم بثمانية آلاف من المتعاقدين، ويبدو أن شركة «بلاك ووتر» لها نصيب الأسد في هذه الخطة القادمة، ولعل ذلك هو السبب الرئيسي في استبدال ترمب الجنرال جون نيكسون، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، بالجنرال سكوت ميلر، المحارب المخضرم المتخصص بالعمليات الخاصة.
هنا، فإن أمرين يمكنهما أن يجعلا من هذه القصة حقيقية، الأول أنها ستخفض نحو 70 مليار دولار التي تشكل تكلفة الحرب في أفغانستان سنوياً؛ الأمر الذي يخدم أهداف ترمب الاقتصادية في الداخل.
والآخر، هو توفير الدم الأميركي الرسمي؛ ما يعني أن مخططات الحروب الجديدة، وضمنها الإرهاب في طبعته الداعشية المختلفة، ماضية قدماً من دون أن توجه اتهامات لترمب كتلك التي تواجهها إلى بوش الابن رسمياً وتاريخياً.
والخلاصة... «داعش خراسان» فصل جديد من فصول الإرهاب الأصولي لم تتكشف أبعاده بعد بالمطلق، وإن كان المتوقع أكثر ظلامية وسوداوية ربما من «داعش الشرق الأوسط».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.