«داعش خراسان»... تنظيم إرهابي جديد يترسخ في أفغانستان

الشريط الحدودي مع باكستان بيئة خصبة وجاذبة للمتطرفين

عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
TT

«داعش خراسان»... تنظيم إرهابي جديد يترسخ في أفغانستان

عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)
عناصر متطرفة من «داعش خراسان» عقب استسلامهم وتسليم أسلحتهم إلى القوات الأفغانية في مقاطعة جوزجان (شبرغان) الشهر الماضي (رويترز)

ما الذي يجري في أفغانستان هذه الأيام وهل ستضحى منطقة خراسان الموقع والموضع لنشوء وارتقاء النسخة الثانية من تنظيم داعش، وفي منطقة لا يزال المد الأصولي فيها فاعلاً من جهة ممثلة في «طالبان»، ومن ناحية أخرى الصراع بين موسكو وواشنطن يتفاعل على الأرض من جديد؟
الشاهد، أننا أمام تصريحات وتحليلات عدة، شواهد وأحداث، تجعل المخاوف تتصاعد بشأن ما يحدث في تلك المنطقة الملتهبة تاريخياً، والتي لم تخلُ من الحرب والإرهاب طوال عقود... ماذا عن ذلك؟
في الثالث من سبتمبر (أيلول) الحالي أطلقت السلطات البريطانية تحذيراً مفاده، أن الإرهابيين يجمعون شتاتهم في أفغانستان، ولا سيما بعد الاندحار الذي حدث لهم في العراق وسوريا.
التصريحات أطلقها وزير الدفاع، غافين ويليامسون، في حديثه لصحيفة «التايمز» البريطانية وقد جاءت في سياق تعليل إرسال بريطانيا لمئات عدة من جنودها إلى أفغانستان.
ولعل القارئ للتقرير الذي نشرته «التايمز» يوقن بأن الاستخبارات الخارجية البريطانية تتوافر لديها معلومات عن الحضور الداعشي الجديد في الداخل الأفغاني، باعتبار أفغانستان على رأس الدول المرشحة لاستضافة عناصر التنظيم؛ لأنها تتسم بتصاعد التيارات الدينية فيها، فضلاً عن الغياب الكامل لمفهوم سيادة الدولة لديها، ومن ثم يمكن أن يكون الشريط الحدودي بين باكستان وأفغانستان، مرشحاً لأن يصبح بيئة خصبة وجاذبة لتنظيم داعش لإعادة ترتيب صفوفه، ومن ثم استعادة قوته. والمؤكد، أنه منذ عام 2015 والصراع جارٍ في أفغانستان بين الدواعش و«طالبان» في محاولة للسيطرة على ساحة التطرف هناك، ووصل الأمر إلى مواجهات مسلحة بين الجانبين. وفي 26 يناير (كانون الثاني) 2015، أعلن أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش «قيام ولاية خراسان» فرع لتنظيم داعش «يتخذ من باكستان وأفغانستان محل نشاطه، حيث يتشكل فرع التنظيم من مجموعات مقاتلة، منها مجموعة منفصلة عن حركة طالبان، وأخرى من حركة أوزبكستان الإسلامية، وضمت مقاتلين من آسيا الوسطى والقوقاز وإقليم الايجور، وقد صنفت ولاية خراسان منظمة إرهابية من قبل الولايات لمتحدة الأميركية في يناير 2016».

تنظيم «داعشي» مختلف
هل نحن أمام تنظيم داعش القديم نفسه، أم أننا إزاء «داعش» جديد بلمحات ولمسات، بل توجهات أصولية مختلفة؟
قبل التنظير الفكري للجواب ربما يتوجب علينا الإشارة إلى الأحداث التي وقعت الأيام القليلة الماضية هناك، التي تكشف لنا أبعاد المشهد الداعشي الجديد أو جزءاً منه على الأقل. في 25 أغسطس (آب) الماضي أكدت القوات الأميركية في أفغانستان، أن قائد تنظيم داعش الإرهابي في البلاد قد قُتل في هجوم وقع في المنطقة الشرقية من محافظة ننغارهار، ومعه نحو عشرة مقاتلين آخرين.
المفاجأة هنا، أن القائد الذي قتل ليس أبو بكر البغدادي، الزعيم المعروف لـ«داعش» في العراق والشام، بل أبو سيد أوركزاي، والاسم يدلل على أنه ليس عربياً أو شرق أوسطي، بل آسيوي بدرجة أو بأخرى.
قبل هذا الهجوم الأميركي وبعده كان «داعش» هناك يوجه سهام نيرانه لقوات «طالبان» التقليدية؛ ففي منتصف أغسطس عينه اندلعت اشتباكات بين مسلحي حركة طالبان وتنظيم ولاية خراسان في الإقليم عينه؛ مما أسفر عن مقتل بعض عناصر تنظيم داعش في نسخته الأفغانية.
لم ينتظر «الدواعش الأفغان» أو العرب والأفغان وبقية الجنسيات طويلاً، فبعد شهر تقريباً، أي في منتصف سبتمبر الحالي كان عنصران من عناصر «داعش» يقتحمان منزلاً لأحد قادة «طالبان» يدعى قاري غضنفر، في ولاية سريبول، شمالي أفغانستان ويفتحان نيران أسلحتهما الرشاشة ليوقعا نحو خمسة عشر فرداً من «طالبان» الموجودين في حفل إقامة مراسم الفاتحة، وكان من بين القتلى عدد من أقارب غضنفر، في مقدمتهم شقيقه الذي فارق الحياة إثر تعرضه لوابل من الرصاص، في حين تمكن المهاجمان من الهرب.
وقبل بضعة أسابيع كان الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية المكلف الإشراف على الحرب في أفغانستان، يحذر من أن هناك علامات تنذر بأن تجمعات جديدة للإرهابيين باتت تعيد تنظيم صفوفها، وأنها تتهيأ لمهاجمة الغرب مرة جديدة، ملمحاً إلى أنها «داعش» ولو في ثوب مغاير عما سبق رؤيته في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أنه استخدم «ولاية خراسان» في تصريحاته بشكل لافت للنظر.
إلى أي مدى تتسق تصريحات الجنرال فوتيل مع بعض الأوراق الصادرة عن المراكز البحثية الأميركية في الفترة الماضية؟
يبدو أن هناك تطابقاً كبيراً جداً يؤكد وجود «داعش خراسان» في ثوب إرهابي جديد، ومن تلك الدراسات ما جاد به مركز «الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب» من أن تنظيم داعش في ولاية خراسان يصنف على أنه جماعة إرهابية منفصلة عن «داعش» في سوريا والعراق، ولهذا تم إدراجه واحداً من أكثر عشر مجموعات إرهابية فتكاً في العالم، بعد أن نفذ 197 هجوماً في 2017 أدت إلى مقتل 1302 شخص.

«خراسان»... صراع أميركي - باكستاني
من المفيد للقارئ في تحليل مشهد «داعش الخراسانية» الجديدة الإشارة إلى إقليم خراسان ولو في عجالة، تلك المنطقة الجغرافية الواسعة التي من الناحية التاريخية يشمل إقليم خراسان شمال غربي أفغانستان وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة إلى مقاطعة خراسان الحالية في إيران ومن مدنه التاريخية «هيرات، ونيسابور وطوس التي تعرف باسم مشهد اليوم».
هذا الموقع الجغرافي يجعل إقليم خراسان مركزاً لتجاذب القوى السياسية المختلفة في المنطقة وبخاصة باكستان المرتبطة تاريخيا بـ«طالبان»؛ الأمر الذي دعا بعضاً من وسائل الإعلام الأميركية الأيام الماضية إلى الإشارة إلى وجود إشكالية حقيقية عميقة بين واشنطن وإسلام آباد، حيث تصر أميركا على أن تقطع باكستان علاقاتها بالإرهابيين الذين تأويهم لاستخدامهم أوراق ضغط في صراعاتها في المنطقة، ولكي تحافظ على حضورها رمانةَ ميزانٍ في منطقة آسيوية متفجرة. يعضد الحديث السابق ما أعلنته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بداية سبتمبر الحالي عن إلغاء المساعدات إلى إسلام آباد بسبب عدم اتخاذها إجراءً حاسماً ضد المتشددين، حيث توفر لهم ملاذات آمنة وبخاصة للمسلمين منهم الذين يشنون حرباً منذ 17 عاماً بينما تنفي باكستان الادعاءات الأميركية في هذا الشأن.
وتطالب واشنطن إسلام آباد باتخاذ إجراءات ضد حركة طالبان الأفغانية وشبكة حقاني، ومعروف أن الولايات المتحدة قد دعمت باكستان طويلاً لمواجهة حركة طالبان في أفغانستان، ولتعزيز التعاون لمواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، ومن بينها «داعش» الإرهابي.
من يدعم «داعش خراسان» و«طالبان»؟
ضمن الفوضى التي ستولد، ولا شك، كوارث إرهابية عالمية في قادم الأيام، فكرة وجود دعم دولي مزدوج لكل جماعة إرهابية، وبات وكأن هناك من يقدم دعمه لـ«طالبان»، في حين «داعش خراسان» يجد مدداً من جانب آخر وبينهما يقف الجيش الأفغاني حائراً في المنتصف على الرغم من الدعم الذي تقدمه له الولايات المتحدة الأميركية... ما هو وضع «طالبان» حالياً، وهل هي قادرة بالفعل على صد ورد هجمات «دواعش خراسان»؟ لكن يبقى السؤال محل البحث «من الذي يقوم بتزويد الدواعش الخراسانية بالأسلحة؟
الجواب غير واضح والبحث عنه شاق ومضنٍ؛ إذ يبدو أننا في معركة أقطاب كبرى بالوكالة على الأراضي الأفغانية وفي خراسان من جديد. لكن يلفت النظر في البحث عن رد مقنع للسؤال سابق الذكر ما أعلنته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الأيام الماضية من أننا «نود التأكيد مجدداً على تحليقات تقوم بها مروحيات مجهولة الهوية شمالي أفغانستان لنقل أسلحة وعتاد لمقاتلي تنظيم داعش المحليين»، كناية عن «دواعش أفغانستان وخراسان» وعناصر «طالبان» الذين يتعاونون مع هذه المجموعات الإرهابية.
ذكرت زاخاروفا أيضاً، أن هناك تقارير إعلامية أفغانية محلية وإفادات لشهود عيان تؤكد رصد هذه التحليقات في ولاية سيربول شمالي أفغانستان مؤخراً، وأن التحليقات تجري بالقرب من حدود دول آسيا الوسطى والكثير من مسلحي «داعش» ينحدرون من هذه البلدان. شيء ما يجعلنا نكاد نشك في أن طرفاً قطبياً بعينه (الولايات لمتحدة الأميركية)، هو من يقوم بذلك، والسبب ما أضافته زاخاروفا في تصريحاتها؛ إذ أشارت إلى أن تحليقات المروحيات المشبوهة لا تلقى أي رد فعل من قبل أجهزة الأمن الأفغانية وقيادات القوات الأميركية والأطلسية المتواجدة في البلاد. التصريحات المتقدمة تستدعي تساؤلات عميقة وجذرية، فمن الذي يقف وراء هذه التحليقات ويسلح «دواعش خراسان» ويعمل سراً على إنشاء معاقل لهم بالقرب من حدود رابطة الدول المستقلة (الجمهوريات السوفياتية السابقة) الجنوبية، ولماذا يحدث ذلك في ظل بقاء أجواء أفغانستان تحت السيطرة الفعلية لقيادة الناتو؟

هل يدعم الروس «طالبان»؟
في مقابل الشكوك الدائرة تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وإمكانية دعمها المستتر لـ«داعش خراسان» بدا وكأن هناك مؤخراً اتجاهاً لتحميل روسيا فكرة دعم «طالبان» من أجل وقف المد الداعشي في أفغانستان أولاً، وتجاه روسيا والصين ثانية.
في هذا الإطار، يمكننا استحضار استراتيجية الاستدارة نحو آسيا الصادرة في واشنطن في 2010، وجل ما فيها محاولة وقف النمو الروسي والصيني عن التمدد عالمياً، وغير خافٍ على أحد علاقة الولايات المتحدة الأميركية بجماعات الإسلام السياسي والتيارات الأصولية المختلفة في آسيا، وإمكانية اعتبارها خنجراً في الخاصرتين الروسية والصينية، وهذه قصة أخرى تحتاج إلى حديث مفصل.
مهما يكن من أمر، فإن السفير الأفغاني لدى موسكو، عبد القيوم كوتشاي، هو من أشعل نيران تلك التخمينات السياسية والاستخباراتية دفعة واحدة، وذلك حين أعلن عن «نية روسيا استخدام حركة طالبان في قتال تنظم داعش في أفغانستان»؛ الأمر الذي جعل وزارة الخارجية الروسية تصدر بياناً جاء فيه «نود أن نؤكد بكل وضوح أن تصريحات رئيس البعثة الأفغانية في موسكو غير صحيحة؛ إذ لا تتوافق مع الواقع، بل تشوه تماماً فحوى سياسة روسيا في المسار الأفغاني كما أكدنا ذلك مراراً لمفبركي تلك التلفيقات». لكن صراع الأقطاب الدولية يفتح الأبواب واسعة أمام جميع السيناريوهات، ولا سيما أن إجراءً أميركياً بعينه جعل كل المهتمين بشأن أفغانستان والدواعش يتساءلون، ما الذي تنتويه إدارة الرئيس ترمب تحديداً بالنسبة لهذا الملف الذي يكاد الغموض يلفه بشكل كبير؟

أميركا... قوات خاصة لا حكومية
يكاد الناظر للقرارات والتوجهات التي يدرسها الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذه الأيام، يقطع بأن اشتعال المشهد الأفغاني قادم لا محالة، وأن قصة «داعش خراسان» في أولى فصولها وربما الأسوأ لم يأتِ بعد؛ إذ يمضي الرئيس ترمب في سحب القوات الأميركية كافة من الداخل الأفغاني، والاستعاضة عنها بمجموعات مقاتلة من الشركات الأمنية الخاصة. خطة ترمب كما تسربت أخبارها الأولية للإعلام الغربي، تقوم على سحب نحو 15000 ألف جندي من القوات الأميركية واستبدالهم بثمانية آلاف من المتعاقدين، ويبدو أن شركة «بلاك ووتر» لها نصيب الأسد في هذه الخطة القادمة، ولعل ذلك هو السبب الرئيسي في استبدال ترمب الجنرال جون نيكسون، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، بالجنرال سكوت ميلر، المحارب المخضرم المتخصص بالعمليات الخاصة.
هنا، فإن أمرين يمكنهما أن يجعلا من هذه القصة حقيقية، الأول أنها ستخفض نحو 70 مليار دولار التي تشكل تكلفة الحرب في أفغانستان سنوياً؛ الأمر الذي يخدم أهداف ترمب الاقتصادية في الداخل.
والآخر، هو توفير الدم الأميركي الرسمي؛ ما يعني أن مخططات الحروب الجديدة، وضمنها الإرهاب في طبعته الداعشية المختلفة، ماضية قدماً من دون أن توجه اتهامات لترمب كتلك التي تواجهها إلى بوش الابن رسمياً وتاريخياً.
والخلاصة... «داعش خراسان» فصل جديد من فصول الإرهاب الأصولي لم تتكشف أبعاده بعد بالمطلق، وإن كان المتوقع أكثر ظلامية وسوداوية ربما من «داعش الشرق الأوسط».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.