«حسم» تناور تفادياً للهزائم

خيمة تدريب لعناصر «حسم» في منطقة صحراوية («الشرق الأوسط»)
خيمة تدريب لعناصر «حسم» في منطقة صحراوية («الشرق الأوسط»)
TT

«حسم» تناور تفادياً للهزائم

خيمة تدريب لعناصر «حسم» في منطقة صحراوية («الشرق الأوسط»)
خيمة تدريب لعناصر «حسم» في منطقة صحراوية («الشرق الأوسط»)

بورقة التبرؤ من جماعة «الإخوان»، تناور حركة «سواعد مصر... حسم» من جديد لتفادي هزائم تلقتها من قبل الأجهزة الأمنية في مصر خلال الأشهر الماضية، أفقدتها مواردها وعناصرها. لكن تبرؤ الحركة التي صُنّفت ضمن قوائم الإرهاب الدولية بعد عملياتها الإرهابية بمصر، لم يكن وليد اللحظة؛ بل نتيجة لخفوت وانحسار نجم الجماعة الأم (الإخوان). الأمر الذي فتح الباب لتساؤلات شائكة وملتبسة حول علاقة «حسم» بالجماعة الأم، عززه إعلان «الإخوان» في وقت سابق، عبر القيادي رضا فهمي، المقيم في تركيا، أن «حسم» هي إحدى حركات لـ«الإخوان» ضد النظام السياسي بمصر.
يقول خبراء ومختصون في الحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط»، إن «إعلان (حسم) الآن التبرؤ من الجماعة، يكشف عن انقسام داخل (الإخوان) حول فكرة العنف نفسها». لافتين إلى أن «ما قامت به (حسم) أخيراً محاولة لجذب شباب (الإخوان) الذين فقدوا الثقة في قيادات الجماعة، وبخاصة في الخارج، وهم من وجهة نظر هؤلاء الشباب سبب ضياع التنظيم».
متحدث لـ«حسم» يدعى خالد سيف الدين، حاول خلال حوار معه أخيراً في مجلة تدعى «كلمة حق» على الإنترنت، وبكل الطرق نفي أي علاقة تربط حركته بجماعة «الإخوان»؛ لكن متحدث الحركة وقع في خطأ كشف عن انتمائه للجماعة، عندما تحدث عن اعتصام «رابعة» بعبارات فخر.
وسبق أن رفع شعار «حسم» (كف طويت أبهمه) مجموعات تابعة للجان نوعية تشكلت من شباب «الإخوان» بعد فض اعتصامين لأنصار الجماعة في ميداني «رابعة» بضاحية مدينة نصر شرق القاهرة، و«النهضة» بالجيزة في أغسطس (آب) عام 2013. من جهته، قال عمرو عبد المنعم، الخبير المتخصص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «إعلان «حسم» التبرؤ من الجماعة، يكشف عن انقسام داخل «الإخوان» حول فكرة العنف وتبني حركة «حسم» نفسها بين القيادات، ففريق يؤيد الحركة، وفريق آخر لا يتبنى «حسم»، ويحاول أن يجد بدائل أخرى غير العنف، وبخاصة بعد الحالة التي وصل إليها التنظيم، الذي يقبع قادته في السجون، وبعضهم هاربون في الخارج. وأكد عبد المنعم، أن إعلان «حسم» أنها ليست إخوانية، يضمر محاولة لجذب عناصر جديدة وقديمة من شباب «الإخوان»، ولضخ دماء وأفكار جديدة تستطيع من خلالها أن تتعامل الحركة مع الوضع الراهن حالياً. لافتاً إلى أن أي تنظيم مسلح معروف أنه يحاول أن ينفي صلته بالجماعة الأم التي كان ينتمي إليها، أو كانت تعبر عن بعض أفكاره في بعض المراحل، وكذلك «الإخوان» على مدار تاريخها لم تعترف بأي عمل عنف أو عسكري... وتقول، إن «هذه الأفعال خارجة عنها، وأن من يقوم بالعنف هي حركات منشقة عنها».
ويعتقد مراقبون، أن نزعة العنف المتوافرة لدى «الإخوان» وجدت دائماً مسارات للتعبير عن نفسها عبر خلايا وتشكيلات اتخذت لنفسها أسماء مختلفة، و«حسم» كانت تمثل إحدى النسخ «الإرهابية» التي طورتها طاقة العنف في الجماعة.

272 متهماً على قوائم الإرهاب
ويسترجع المراقبون سنوات حكم «الإخوان» في مصر، بقولهم: إنه عقب وصول الجماعة للحكم وخروجها منه، كانت هناك أجنحة لم تقبل هذا الخروج، وبدأ في عام 2013 ظهور مجموعة «العمليات النوعية» بقيادة محمد كمال (مؤسس الجناح المسلح للجماعة، الذي قتل خلال مقاومته للشرطة المصرية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016)، وظهرت حينها «حسم».
ووفق معلومات سلطات تحقيق مصرية، كان من أبرز المسؤولين عن «حسم» في بدايتها، قيادات «الإخوان» في الخارج، ومن بينهم يحيى السيد موسى، وعلي السيد أحمد بطيخ.
في السياق نفسه، شهد حوار متحدث «حسم» أيضاً دعماً واضحاً لحركة «لواء الثورة»، التي تعتبرها السلطات المصرية الكيان المسلح لـ«الإخوان»، حيث قال عنها نصاً: إن «(لواء الثورة) حركة مقاومة منضبطة وواعدة، ولا نكاد نجد اختلافاً معنا في المنهج والرؤية العامة؛ لكن ربما في بعض الأساليب والتكتيكات».
ويشار إلى أنه في يوليو (تموز) الماضي، أدرجت محكمة جنايات القاهرة 272 متهماً من «حسم» و«لواء الثورة» على قوائم الإرهاب.
وأشار عبد المنعم إلى أن «حسم» و«لواء الثورة» أو الكيانات التي تقترب أو تبتعد من «الإخوان» تحمل الأدبيات والتصورات نفسها؛ لكن بعضها يرفض تصورات وأفكار الجماعة الأم وقيادتها، ويعتبرون أن ما وصلت إليه الجماعة الآن هو بفعل هذه الأشخاص؛ لذلك بالفعل حدث انشقاق خلال السنوات الأربع الأخيرة داخل «الإخوان» نتيجة الخلاف حول العنف المسلح، وأفكار منظّر الجماعة سيد قطب.
وتساءل عبد المنعم، هل «الإخوان» تبرأت من هذه التنظيمات المسلحة (أي «حسم» و«لواء الثورة» وغيرهما) من قبل؟، مجيباً، الحقيقة لا، ولم تعلن الجماعة موقفاً واضحاً من هذه الحركات، ولم تقدم إلى السلطة المصرية أوراق هذه التنظيمات حتى تنفي عنها صفة الإرهاب والعنف، لافتاً أن هناك تناقضاً كبيراً في «الإخوان»، ورغم أنها أسست «حسم» مع ثورة يناير (كانون الثاني) عام 2011 برضا وموافقة قادتها في الداخل والخارج؛ فإنها تبرأت منها بعد ذلك من خلال تصريحات متعددة.
ويشار إلى أنه من واقع اعترافات عناصر «حسم» في سجلات النيابة العامة بمصر، تم الكشف عن أن عناصر الحركة اتفقوا مع قيادات من «الإخوان» في الخارج، لإخضاعهم لتدريبات عسكرية متقدمة على استعمال الأسلحة النارية المتطورة وتصنيع العبوات المتفجرة شديدة الانفجار.

حسم» و«لواء الثورة» على قائمة المنظمات الإرهابية
وسبق أن كشفت السلطات المصرية في يوليو الماضي، عن تفاصيل مثيرة تتم داخل معسكرات «حسم» في المناطق الصحراوية، عقب توقيف قيادي في الحركة يحمل اسماً حركياً هو هاني جمال داخل مسكنه في الجيزة؛ إذ اعترف بأنه انضم إلى «الإخوان» عام 2011، وكان يحضر لقاءات الجماعة، وعقب فض اعتصامي «رابعة والنهضة»، شارك بقوة في المظاهرات وأعمال الشغب التي نظمتها الجماعة. ثم انضم إلى مجموعة يطلق عليها «مجموعات طلائع»، التي كانت جزءاً أصيلاً من «حسم»، وتم تدريب عناصرها في المعسكرات بالمناطق الصحراوية على التكتيكات العسكرية، والقنص عن بُعد، والتفخيخ، واستخدام القنابل، وتصنيع المتفجرات.
وتعد أبرز عمليات «حسم» الإرهابية، محاولة اغتيال مفتي مصر السابق علي جمعة بمدينة 6 أكتوبر غرب القاهرة أغسطس 2016، ومحاولة استهداف النائب العام المساعد زكريا عبد العزيز بزرع متفجرات داخل سيارة خاصة كانت متوقفة على مقربة من مسكنه سبتمبر (أيلول) 2016، وقتل 6 من أفراد الشرطة باستهداف مرتكزين أمنيين في شارع الهرم السياحي غرب العاصمة المصرية في ديسمبر (كانون الأول) 2016، وقتل إبراهيم عزازي، الضابط بقطاع الأمن الوطني، أمام منزله بمحافظة القليوبية المتاخمة للعاصمة القاهرة في يونيو (حزيران) 2017.
وأعلنت الحركة في بيان مقتضب على «إنستغرام» مسؤوليتها عن حادث منطقة الواحات الغربية، الذي أسفر عن مقتل 16 من قوات الشرطة في أكتوبر الماضي.
من جانبه، قال العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني والاستراتيجي بمصر، إن «حسم» استطاعت أن تزعج السلطات عبر عمليات خاطفة؛ لكنها لم تكن قادرة على إحداث تغيير استراتيجي كما كانت تتمنى «الإخوان». مضيفاً أن «الضربات الاستباقية لعناصر الحركة وقيادتها قضت عليها، فضلاً عن تجفيف مصادر تمويلها»، مشيراً إلى النجاحات الأمنية في استهداف بؤر «حسم» بمناطق تمركزها، وبخاصة في الجيزة، التي أفقدتها أي قدرة على الاستمرار.
وكانت دار الإفتاء المصرية، قد قالت في يوليو 2017، إن حركة «حسم» أثبتت أن العنف في تاريخ «الإخوان» لم يكن وليد اللحظة؛ بل هو استراتيجية وضعها مؤسسها حسن البنا، وتنامت على مدار التاريخ. وأضافت أن اعتراف جماعة «الإخوان» بتبعية «حسم» لها يُسقط عنها «ورقة التوت» التي كانت تواري سوأتها، وله دلالة قوية تؤكد أن الجماعة تبنت العنف منذ اللحظة الأولى ضد الدولة المصرية... كما يكشف عن تأصل العنف وتجذره في استراتيجية الجماعة على مدار تاريخها منذ بداية نشأتها حتى الآن.
وأكد باحثون في مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الإفتاء، أن «البنا كان يرى أن استخدام القوة والسلاح واجب مفروض وأمر لا مفر منه؛ لكن لم يحن الوقت بعد لاستخدامها، مؤسساً بذلك فكرة (العنف المؤجل) في منهج التربية لدى الجماعة، هذه الفكرة التي عجز أفراد الجماعة عبر تاريخها عن رفضها أو انتقادها أو نبذها؛ بل ما زاد الأمر سوءاً هو شرعنة هذه الفكرة من خلال سيد قطب، الذي وجد لها مبرراً شرعياً لقيامها، والذي كان يرى أن استخدام القوة شيء مرحلي، ومن حق الجماعة استخدامه في حالة قوة تنظيمها وسيطرتها».
وأدرجت الولايات المتحدة الأميركية في فبراير (شباط) عام 2017، «حسم» و«لواء الثورة» على قائمة المنظمات الإرهابية، وسبق هذه الخطوة قرار بريطاني في ديسمبر 2016 بإدراج الحركتين على قائمة الإرهاب، وهو القرار الذي أرجعته بريطانيا لثبوت إدانتهما بالاعتداء على أفراد الأمن المصريين والشخصيات العامة.
وحول تبرؤ «حسم» من «الإخوان» في هذا التوقيت؛ حرصاً على عدم وضع الجماعة على قوائم الإرهاب، وبخاصة أن الحركة بقوائم إرهاب دولية، قال عمرو عبد المنعم، إن قادة «الإخوان» موفِّقون أوضاعهم في المجتمع الغربي، وفكرة إدراجهم في كيان إرهابي في الدول الأوروبية يتوقف على مصالح في بريطانيا وأميركا، فـ«الإخوان» متغلغلون في المجتمع الأوروبي، ولهم تواجد في منظمات المجتمع المدني. مضيفاً، لا يوجد ضغط على «الإخوان» في الغرب؛ لكنهم تحت الرقابة منذ السينات من القرن الماضي، حتى هذه اللحظة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.