في الفيلم الذي اشتهر بأوائل التسعينات وكان اسمه «البيضة والحجر»، يروج بطل الفيلم الممثل أحمد زكي لفكرة «محاربة الغلاء بالاستغناء». وهذه الفكرة الاقتصادية التي تقوم على مبدأ الاستغناء عن السلع لخفض أسعارها، امتدت اليوم إلى مختلف الاتجاهات ومنها الثقافية. فمثلاً، قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي كان الأدباء يحتاجون جداً إلى الصفحات والمجلات الثقافية لنشر أخبار عن أعمالهم وإصداراتهم وحتى نتاجهم الأدبي من قصة وشعر ودراسات وغيرها. وكان الأمر لا يخلو في السابق من وجود نوع من التحكم والهيمنة وأحيانا الشللية في القائمين على الإعلام الثقافي، فيمارس بعضهم الإقصاء والتهميش لفئة لا تتناسب مع أفكاره أو توجهاته، فالحداثيون لم يكونوا ينشرون للتقليديين، والعكس أيضاً، إلى جانب التكتلات التي كانت تخص بالنشر جماعة دون أخرى أو أشخاصاً دون آخرين.
بعد ظهور الإنترنت واشتداد عوده في أواسط التسعينيات، ظهر ما يمكن تسميته بـ«الإعلام الفردي»، أي بدأ الأدباء «المنفيون» من الصفحات والمجلات الثقافية بصنع مساحاتهم الخاصة على الإنترنت، فظهرت أولاً المدونات ثم المواقع الأدبية الشخصية - التي استمرت لغاية اليوم - إلى أن ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وحتى «الواتساب» وغيره، فالتقطها الأدباء «المنفيون» وأصبحوا ينشرون أخباراً عن إصداراتهم ونتاجاتهم عبر هذه المواقع، وبذلك أصبحت فكرة «الاستغناء» هي الأجدى لهم من هيمنة النشر والتحكم به. ولكن الأمر لم يعد يقتصر على «المنفيين» من الصفحات الثقافية، بل أصبح الإعلام الفردي أداة فاعلة في أيادي حتى الأدباء المعروفين والذين يجدون مساحة للنشر في الصفحات والمجلات الثقافية.
هذا الإعلام الفردي لا يستهان به اليوم، فقد تمكن بعض الأدباء من استقطاب أعداد هائلة من القراء والجمهور تفوق أحيانا أعداد المتابعين للصحف والمجلات الثقافية. بل إن بعضهم حول صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مساحة إعلامية ثقافية لأعماله وأعمال غيره.
وما يميز الخبر المنشور في الإعلام الفردي، أن ناشره يأخذ ما يشاء من مساحة الكتابة عن أخبار أنشطته وإصداراته ويصفها بما يريد حيث لا تخضع لضوابط القائمين على الصفحات والمجلات الثقافية، الأمر الذي جعل الخبر أكثر عاطفية في محاكاة الجمهور الذي يقرأ في الصحف والمجلات الأخبار بضوابطها الصارمة والمهنية.
من الأدوار المهمة «الاستغنائية» التي أصبح يقوم بها الإعلام الفردي، هي أن يقوم الأديب بنفسه بنشر أخبار صدور أعماله، بل قد يستبق الأديب خبر الصدور، وليس كما تفعل الصفحات والمجلات الثقافية التي تنشر أخبار صدور الكتب لاحقاً. وإمعاناً في التقارب مع وسائل النشر الورقية، ينشر الأدباء صور أغلفة كتبهم الصادرة حديثاً ونبذة عنها وأين يجدها القارئ.
أيضاً من الأشياء التي ينشرها الإعلام الفردي، أخبار حصولهم على الجوائز والتكريمات، وكذلك ينشر أصحاب الإعلام الفردي دعوات للأمسيات الشعرية والندوات والمحاضرات، والتي هي أصلاً من المهام الأساسية للصفحات والمجلات الثقافية التي استغنى كثير من الأدباء عن خدماتها الإعلامية.
وأدى الإعلام الفردي دوراً أكثر من ذلك، بحيث أصبحت بعض الصفحات والمجلات الثقافية الورقية هي من يحتاج إلى صفحات الأدباء في مواقعهم الإلكترونية.
من العوامل التي أسهمت كثيراً في انتشار الإعلام الفردي، انحسار الصفحات والمجلات الثقافية عن الساحة الإعلامية الثقافية، فبعض الصحف اليوم أصبحت تصدر من دون صفحات ثقافية، حيث لا يعبأ مالكوها وأصحابها أو الجهات التي تصدرها بالدور الثقافي الحيوي للإعلام وعمق تأثيره في الناس. كذلك يعد توقف الكثير من المجلات الثقافية عن الصدور من العوامل التي ساعدت في انتشار الإعلام الفردي.
ولكن رغم كل ما يحققه الإعلام الفردي، يبقى الخبر المنشور عن أديب ما في الصفحات الثقافية له «شخصيته»، فما ينشره غيرك عنك هو أكثر أهمية مما تنشره عن نفسك.
«الأدباء المنفيون»... يصنعون إعلامهم بأنفسهم
هاجروا أو هجروا من الصفحات والمجلات الثقافية
«الأدباء المنفيون»... يصنعون إعلامهم بأنفسهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة