متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

استعراضات محمومة تقوّد مساعي الحل السياسي

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا
TT

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

في مطلع العام الحالي رصدت أطراف محلية ودولية، آلية قتالية روسية الصنع من ترسانة أسلحة معمر القذافي، مخصصة لمواجهة الدبابات، وتحمل صواريخ يصل مداها إلى 6 آلاف كيلومتر. حصل ذلك إبان اشتباكات دارت بين ميليشيات مسلحة بمحيط مطار معيتيقة الدولي في العاصمة الليبية طرابلس، في واحدة من المعارك الاستعراضية الكاشفة لحجم ونوعية السلاح الذي تستخدمه القوى المتناحرة، وتحتكم إليه عند أول خلاف لتوسّع نفوذها على الأرض، وتزيد من حصيلة الدم.

صار العتاد المخزون لدى المجموعات الليبية المسلحة والمواطنين الأفراد، خارج إطار الدولة، مصدر أرق وقلق لليبيا منذ إسقاط نظام معمر القذافي عام 2011، وبات يمنعها من مغادرة «الفترة الانتقالية»، وسط إصرار على أن يبقى الوضع على ما هو عليه، فكلما هدأت الاشتباكات أوقدت الميليشيات نارها؛ بغية الاستبقاء على ليبيا سوقاً رائجة للسلاح تدرّ ملايين الدولارات على «أمراء الحرب».
هذا الأمر وغيره، انقسم حيالها عسكريون وسياسيون ونواب في أحاديث مع «الشرق الأوسط» بين ما رآه البعض ضرورة الاستفادة من «سلاح الميليشيات الخيَرة»، في مواجهة من ذهب إلى أن «الأزمة أكبر من قدرات ليبيا حالياً ما يتطلب حلاً دولياً عاجلاً». ولقد قال مسؤول عسكري سابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، إن الأسلحة التي تمتلكها الميليشيات المسلحة في طرابلس ومصراتة «تفوق تسليح بعض الدول». مضيفاً أن «التشكيلات المسلحة مثل (ثوار طرابلس)، و(قوة الردع الخاصة) و(الرحبة) لديهم مخازن هائلة تضم أسلحة حديثة وذخائر متعددة».

- بداية أزمة السلاح
بدأت الأسلحة تحتل مكانة بارزة في ليبيا منذ إسقاط نظام القذافي، في ظل نشوء خلافات قبائلية حادة، دفعت البعض منها إلى الاحتماء بالسلاح المتراكم في مستودعاته لـ«وقت الحاجة». وعلى مدار السنوات السبع الماضية، وقعت اشتباكات كثيرة في البلاد قضى فيها مئات المدنيين، وفي كل معركة كانت تُسمع مناشدات ونداءات استغاثة بضرورة نزع سلاح الميليشيات. ولعل آخر هذه النداءات فرضته طبيعة الاقتتال الأخير بين المجموعات المسلحة في جنوب طرابلس، عندما أعطى «الملتقى الوطني للقبائل والمدن الليبية»، الذي احتضنته مدينة ترهونة (88 كيلومتراً) جنوب شرقي العاصمة، حكومة «الوفاق الوطني» حتى منتصف سبتمبر (أيلول) مهلة ثلاثة أيام، لحل الميليشيات المسيطرة على العاصمة ونزع الشرعية عنها، وتسليم كامل أسلحتها ومعداتها للجهات الرسمية المختصة. وحذّر من «أي ترتيبات أمنية من شأنها المماطلة أو الإبقاء على هذه الميليشيات أو إعادة تدويرها بأي صورة من الصور».
لكن الحاصل أن مهلة «ملتقى القبائل» انتهت، وبقي السلاح - المحظور توريده إلى ليبيا - يتزايد في أيدي الميليشيات، وبقدرات فائقة، حيث المدرعات العسكرية ترابط أسفل المنازل، وتجول سيارات الدفع الرباعي من نوع «تويوتا» حاملة مدافع رشاش (14.5) ويستعرض بها الشباب في الشوارع. إزاء هذا المشهد، قال المواطن الليبي - الذي رمز لاسمه بـ«فواز»، معلقاً «السلاح في بلادنا مثل النفط يزيد ولا ينقص، والقذافي ترك لنا منه مخازن ومستودعات هي الآن في حوزة المجموعات المسلحة»!

- «مافيات» اخترقت الحظر
وبعيداً عن الحظر الدولي المفروض على ليبيا منذ مارس (آذار) 2011، تمكنت «مافيا» السلاح من اختراق هذا الحظر عبر وسطاء دوليين لإغراق البلاد بمزيد من الأسلحة والصواريخ، مستغلة حالة من الفوضى وتعطش السوق الليبية إلى الحديث والمتقدم منه. وهذا ما كشف عنه تقرير فريق الخبراء الأخير إلى مجلس الأمن الدولي؛ الأمر الذي دفع رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» الشيخ محمد المُبشر للقول «إذا استمر وجود السلاح على هذه الصورة ستستمر معاناة المواطنين». وأضاف المُبشر في حديث إلى «الشرق الأوسط» موضحاً «إن تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا لن ينجح إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي... ما يكذب عليك أحد، لا الليبيون ولا العرب يستطيعون تحقيق ذلك».
هذا، ورصد فريق الخبراء نشاط ثلاثة مواطنين إيطاليين، هم: ماريو دي ليفا وزوجته أناماريا فونتانا وأندريا باردي، قبضت عليهم السلطات الإيطالية وأخضعتهم للمحاكمة، بتهمة تيسير نقل الأسلحة، إلى ليبيا بين 2011 و. وكان بين السلاح المنقول، أنواع كثيرة من الذخائر والقذائف المضادة للدبابات ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، وكلها نُقلت إلى مدينة مصراتة (200 كيلومتر شرق طرابلس)، بالاشتراك مع مواطن ليبي يدعى محمود علي ششويس. وأشارت مذكرة متصلة بإحدى الشحنات إلى أن كميات الذخائر كانت من كثرتها يستلزم نقلها ست طائرات شحن من طراز إيليوشن «IL76».
ويُعتقد، وفقاً لتقرير الخبراء، أنه جرى سداد قيمة إحدى الشحنات لشركة «غلوبال واي إلكترونيكس» Global way Electronics التي يملكها ماريو دي ليفا، بمبلغ مليونين و240 ألف دولار، وتم الشراء الفعلي للذخائر من خلال شركة أخرى يملكها أيضا ماريو دي ليفا، وهي شركة «هاي تكنولوجي سيستمز ليمتد» High Technology Systems Limited. ومن أجل تمكين ششويس الذي مثل أيضاً المشترين الليبيين من الاجتماع مباشرة بشركات الأسلحة، صُوّر كشريك في الشركة نفسها، بل ورئيس للإنتاج بها.
أيضاً، أظهر التقرير الأممي أن المحاولات الأخرى لانتهاك حظر توريد الأسلحة شملت التفاوض على عقود مع أندريا باردي، من خلال شركة «سوسييتا إيتاليانا إليكوتيري» Societa Italiana Elicotteri، وهي شركة يرتبط بها باردي، لشراء ثلاث طائرات هليكوبتر من طراز مانغوستا «A129 Mangusta» بسعر إجمالي قدره 18.6 مليون يورو. و13ألفاً و950 بندقية من طراز إم 14 «M14»، بلغ مجموع تكلفتها 41.85 مليون يورو، و12 وحدة إغلاق محرك للطائرات، بلغ مجموعة تكلفتها 69.6 مليون يورو (الطبيعة والمواصفات الدقيقة لتلك الوحدات غير واضحة)، وذخائر صواريخ، بلغ مجموع تكلفتها 44.8 مليون يورو.
ووفق الخبراء، فإن باردي صاغ هذه العقود، التي نصت على أن يتم التسليم جواً إلى مصراتة أو طرابلس، على أن يجرى السداد بالتقسيط وفقاً لمراحل الشحن، لكن هذه العقود لم تنفذ بسبب إلقاء القبض على الأفراد المعنيين. ولفت فريق الخبراء إلى أنه على الرغم من تلقيه «تفاصيل تتعلق بجواز السفر الذي استخدمه ششويس (الشريك الليبي) أثناء الاجتماعات بالموردين المحتملين، فإنه لم يتلق أي رد من حكومة ليبيا على استفساراته بشأن ذلك».

- من تركات القذافي
وللعلم، مدّد مجلس الأمن الدولي في يونيو (حزيران) الماضي، بالإجماع حظر السلاح المفروض على ليبيا لعام آخر، بسبب ما سماه «وجود جماعات مسلحة تتقاتل فيما بينها، وغياب أي بوادر لحل سياسي في القريب العاجل». وأيّد المبعوث الأممي لدى ليبيا، الدكتور غسان سلامة هذا الحظر، وقال في إفادة سابقة إلى مجلس الأمن «حظر الأسلحة مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى... إن بلداً به 20 مليون قطعة سلاح لا يحتاج إلى قطعة إضافية».
وهنا نشير إلى أن صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية نشرت في السابع من سبتمبر الحالي، إن العاصمة الليبية شهدت تدمير آلية نادرة، عبارة عن مدفع هاوتزر «بالماريا» ذاتي الحركة. وهذا المدفع الذاتي، من ضمن ترسانة أسلحة حرص القذافي على استيرادها من الاتحاد السوفياتي وحلفائه والدول الغربية، وظل يستخدم في الاقتتال بالعاصمة إلى أن جرى تدميره قبل أسبوعين. ونقلت وكالة «سبوتنيك» الروسية، عن «روسيسكايا غازيتا» أنه في مجال المدفعية الذاتية الحركة امتلك الجيش الليبي مدافع «دانا» التشيكية ومدافع «غفوزديكا» و«أكاتسيا» الروسية. أما عن مدافع «بالماريا» التي تنتجها شركة «ميلارا» الإيطالية فقد أصبحت ليبيا أكبر مشترٍ لها، إذ اشترت نحو 150 مدفعاً من هذا النوع منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. مضت الصحيفة معددة مميزات المدفع، قائلة إنه صنع من أجل التصدير إلى الخارج، واعتبر في ثمانينات القرن الماضي واحداً من أفضل المدافع الذاتية الحركة الغربية، إذ يبلغ مداه 24 ألف متر عند استخدام القذائف العادية، و30 ألف متر عند استخدام القذائف الصاروخية. ولفتت إلى أن ليبيا تمتلك من هذه النوعية قرابة 30 مدفعاً.
من جهة ثانية، تحدث المسؤول العسكري السابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، وهو ينتمي إلى مدينة مصراتة، عن أن الميليشيات تمتلك صواريخ وآليات عسكرية حديثة هي جزء من عتاد جيش القذافي، وتقاتل بها حالياً في صراع على طرابلس، مستكملاً «المخازن مفتوحة في حرب السيطرة على طرابلس. ويعتقد بعض المتاجرين في السلاح أن هذه التجارة كانت موجودة أثناء عهد القذافي، من خلال تهريب مسدسات وبنادق آلية من نوع «كلاشينكوف» من مخلفات الحرب الليبية - التشادية، أو تأتي عبر الحدود المصرية، لكنها ازدهرت عقب رحيل النظام السابق ووصلت إلى راجمات الصواريخ وصواريخ «غراد».

- مبادرات منذ 2012
هذا، وأعلن في عموم ليبيا عن مبادرات عدة لجمع السلاح بداية من عام 2012، انطلقت أولاها بمدينتي طرابلس وبنغازي تحت شعار «أمن بلادك بتسليم سلاحك» برعاية من أجهزة الدولة الحاكمة وقتها. وفي فبراير (شباط) 2013 وضعت الولايات المتحدة مع ليبيا خطة سرية تقضي بتوفير برنامج مخصص لشراء الأسلحة، وتحديداً الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات والمقدّر عددها بعشرين ألف صاروخ، وهذا الأمر لم يحدث. ثم في يوليو (تموز) 2014 قدم البرنامج الليبي للإدماج والتنمية (LPRD)، الذي عرف بعد تأسيسه بـ«هيئة شؤون المحاربين» استراتيجية مفصلة لجمع السلاح، بالتعاون مع المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية.
وما يجدر ذكره هنا، أنه سبق لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» الكشف عن أن اشتباكات العاصمة التي وقعت بين الميليشيات في محيط مطار معيتيقة استخدمت فيها آلية قتالية روسية الصنع مخصصة لمواجهة الدبابات في الحروب، تعرف باسم «كريزانتيم إس» تحمل صواريخ مداها 6 آلاف متر. وأشارت إلى أن ليبيا حصلت من روسيا في عام 2013 على 10 آليات من النوعية نفسها».
كذلك، قالت الصحيفة، إن ليبيا حصلت على أربع قواذف صواريخ «كريزانتيم إس» و150 صاروخاً خلال حكم القذافي، لافتة إلى أن «آليات (كريزانتيم إس) تستطيع العمل حتى في ظروف انعدام الرؤية، ويمكن توجيه صواريخها بشعاع الليزر أو عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي». وعددت الصحيفة مميزات آليات «كريزانتيم إس» فقالت إنها تستطيع السير فوق الطريق المعبدة بسرعة 70 كيلومترا في الساعة، وتزن 20 طنًّاً، وتستطيع الانطلاق على سطح الماء بسرعة 10 كيلومترات في الساعة.

- لا ثقة بين الليبيين
عودة إلى مسألة تفكيك السلاح، وأمام تزايد دعوات تفكيك سلاح الميليشيات وجمعه من أيدي الأفراد لصالح الدولة، استبعد المُبشر، حدوث ذلك، معتبراً أن الأمر «صعب جداً لانعدام الثقة بين الليبيين». غير أن العقيد الطاهر الغرابلي رئيس «المجلس العسكري بصبراتة» (المنحل) ذهب إلى ضرورة التمييز بين الميليشيات، وذهب إلى أن الميليشيات المسلحة هي من استحوذ على السلاح من أيدي قوات القذافي أثناء اندلاع ثورة 17 فبراير، ومنذ ذلك الوقت لم تجد حكومة جادة قادرة على تطويع الميليشيات، واحتوائها دون تفرقة أو تمييز». وقسّم الغرابلي الميليشيات في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً، إن «منها ميليشيات خيّرة تستخدم سلاحها في الدفاع عن الدولة الليبية، والتصدي لموجات الهجرة غير الشرعية، والمخربين وغيرهم... وهذه يجب التعامل معها بمهنية. وهناك في المقابل، ميليشيات مسلحة عبارة عن عصابات تمارس السرقة والسطو على المواطنين، وتهرّب الوقود وتتاجر في البشر، وهذه يجب نزع الشرعية عنها والتعامل معهم بقوة وحسم».
ولام الغرابلي على «حكومة الوفاق» والأمم المتحدة، معتبراً أن حكومة المجلس الرئاسي «فشلت ولم تستطع قراءة الأحداث منذ دخولها طرابلس قبل أكثر من سنتين، كما لم تتمكن من إدارة الأمور بشكل سلسل يجتذب جميع الليبيين»، متابعاً «لقد قرّبت منها ميليشيات غير منضبطة ولا تتعامل مع المواطنين بالقانون، ومنحتها الشرعية، مثل (قوة الردع الخاصة) وغيرها، ويجب تطهير وزارة الداخلية منها، في حين استبعدت البعض الآخر»، كما أن البعثة الأممية أدارت الأزمة «بشكل غير محايد».
الغرابلي يفضّل إبقاء الوضع على ما هو عليه الآن، شارحاً «أعتقد اقتراح نزع السلاح غير ممكن في الوقت الحالي... العسكريون في شرق وغرب البلاد، ليسن لديهم الكفاءة أو القدرة المطلوبة لتنفيذ هذه المهمة... ويمكننا دمج الميليشيات الخيرة في (قوة احتياط) لمكافحة الهجرية، يكون تعاملها بعيداً عن المواطنين». ويخلص إلى القول «يجب تطهير وزارة الداخلية (بحكومة الوفاق) من الميليشيات، والاكتفاء بالاعتماد على الشرطي المتدرب خريج كلية الشرطة فقط».
جدير بالإشارة، أن رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج - بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي - حل «المجلس العسكري بصبراتة»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وأمر أن تؤول كل الوثائق التي بحوزته إلى غرفة عمليات محاربة تنظيم داعش في صبراتة. ورأى الجيش الوطني أن الأسلحة والذخائر المنتشرة في البلاد ليست في يد القبائل والعشائر، وإنما يحوزها الخارجون عن القانون و«الميليشيات المتواجدة بالمنطقة الغربية، وبخاصة في مصراتة وطرابلس». وقال إنه تمكن من تقليل وجود الأسلحة خارج المعسكرات بشكل كبير، وأن هناك توجهاً عاماً للتعامل مع تلك النوعية إمّا بالشراء أو القضاء، داعياً إلى سنّ مجلس النواب قانوناً يحرّم حمل السلاح خارج المؤسسات الشرعية للدولة.
ولكن حكومة السراج التي تمارس أعمالها منذ سنتين في العاصمة لم تحرز أي تقدم في هذا المجال، باستثناء تحذيرات أطلقتها وزارة الداخلية، نهاية الأسبوع الماضي، من أن «انتشار السلاح في البلاد يهدد بإراقة المزيد من الدماء، ويمتد هذا التهديد على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل تنامي العناصر الإرهابية العابرة للحدود». وقالت الحكومة إن «الرصاص العشوائي لا يزال يسقط مزيد الضحايا في البلاد، على الرغم من التحذيرات المتكررة منها، بالإضافة إلى الحملات التوعوية، حيث تحولت كثير من المناسبات الاجتماعية إلى أحزان، نتيجة الاستعمال الخاطئ لهذه الأسلحة الفتاكة». وهو ما دعا عبد المنعم الحر، الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، إلى المطالبة «بالإبقاء على السلاح الثقيل والمتوسط داخل المعسكرات الرسمية للجيش، والعمل على تقنين الخفيف منها بالتراخيص وضبط العمل بها من خلال القانون».
أيضاً اكتفت الحكومة بالقول «إن أصوات كثيرة نادت بجمع السلاح، وإعادته للدولة والاتجاه نحو التنمية والإعمار، ودعوة المواطنين كافة لتسليم أسلحتهم، والانخراط في بناء الوطن والنهوض به، وهذا لا يتأتى إلا بالعمل على توفير فرص عمل للشباب، ووضع سياسات تنموية ترعى هذه الشريحة المهمة والاهتمام بها، وتوجيههم نحو العلم والمعرفة». لكن عبد الرحمن الشاطر، العضو في المجلس الأعلى للدولة، يرى أن الموضوع أكبر وأعقد من أن تقوم به دولة واحدة... مضيفاً «الموضوع ليس جمع قمامة يُوكل لشركة، وعليه فإن جمع السلاح يعد أولوية الأوليات التي يطالب بها الشعب الليبي». وتابع الشاطر لـ«الشرق الأوسط» معلقاً «هذا إجراء لم يحظ بالاهتمام الفعلي طيلة سنوات ما بعد انتصار انتفاضة فبراير، لكنه يمثل تحدياً كبيراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وأعتقد أنها لن تكون قادرة على تنفيذ جمع السلاح المنتشر بشكل مرعب لأنها لا تملك لا القدرة ولا الكفاءة ولا الخبرة ولا الوسائل اللازمة».
وأشار الشاطر إلى أن مجلس الأمن هو «صاحب الاختصاص، وهو من يملك تشكيل فرق فنية، ومن يملك معاقبة من لا يمتثل لتسليم سلاحه، فمافيا السلاح التي دأبت على شرائه طيلة السنوات الماضية لا يردعها رادع. وتقرير الخبراء التابع لمجلس الأمن رصد هذه الانتهاكات حتى على مستوى دول». وانتهي الشاطر إلى القول إن «الانفلات الأمني نتيجة متوقعة لانتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وقد جرّ المجتمع الليبي إلى ما يعانيه من فرقة وانقسام وعدم القدرة على إنتاج موقف موحد يجمع شتات البلاد ويدفع إلى تحقيق استقرار، وبالتالي فلا حرج في الاستعانة بالتجارب التي خاضتها الأمم المتحدة في دول أخرى عانت ما تعانيه ليبيا... وأرى ضرورة تكليف البعثة الأممية بهذه المهمة والتعاون معها بشكل مطلق».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.