متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

استعراضات محمومة تقوّد مساعي الحل السياسي

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا
TT

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

متاهة تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا

في مطلع العام الحالي رصدت أطراف محلية ودولية، آلية قتالية روسية الصنع من ترسانة أسلحة معمر القذافي، مخصصة لمواجهة الدبابات، وتحمل صواريخ يصل مداها إلى 6 آلاف كيلومتر. حصل ذلك إبان اشتباكات دارت بين ميليشيات مسلحة بمحيط مطار معيتيقة الدولي في العاصمة الليبية طرابلس، في واحدة من المعارك الاستعراضية الكاشفة لحجم ونوعية السلاح الذي تستخدمه القوى المتناحرة، وتحتكم إليه عند أول خلاف لتوسّع نفوذها على الأرض، وتزيد من حصيلة الدم.

صار العتاد المخزون لدى المجموعات الليبية المسلحة والمواطنين الأفراد، خارج إطار الدولة، مصدر أرق وقلق لليبيا منذ إسقاط نظام معمر القذافي عام 2011، وبات يمنعها من مغادرة «الفترة الانتقالية»، وسط إصرار على أن يبقى الوضع على ما هو عليه، فكلما هدأت الاشتباكات أوقدت الميليشيات نارها؛ بغية الاستبقاء على ليبيا سوقاً رائجة للسلاح تدرّ ملايين الدولارات على «أمراء الحرب».
هذا الأمر وغيره، انقسم حيالها عسكريون وسياسيون ونواب في أحاديث مع «الشرق الأوسط» بين ما رآه البعض ضرورة الاستفادة من «سلاح الميليشيات الخيَرة»، في مواجهة من ذهب إلى أن «الأزمة أكبر من قدرات ليبيا حالياً ما يتطلب حلاً دولياً عاجلاً». ولقد قال مسؤول عسكري سابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، إن الأسلحة التي تمتلكها الميليشيات المسلحة في طرابلس ومصراتة «تفوق تسليح بعض الدول». مضيفاً أن «التشكيلات المسلحة مثل (ثوار طرابلس)، و(قوة الردع الخاصة) و(الرحبة) لديهم مخازن هائلة تضم أسلحة حديثة وذخائر متعددة».

- بداية أزمة السلاح
بدأت الأسلحة تحتل مكانة بارزة في ليبيا منذ إسقاط نظام القذافي، في ظل نشوء خلافات قبائلية حادة، دفعت البعض منها إلى الاحتماء بالسلاح المتراكم في مستودعاته لـ«وقت الحاجة». وعلى مدار السنوات السبع الماضية، وقعت اشتباكات كثيرة في البلاد قضى فيها مئات المدنيين، وفي كل معركة كانت تُسمع مناشدات ونداءات استغاثة بضرورة نزع سلاح الميليشيات. ولعل آخر هذه النداءات فرضته طبيعة الاقتتال الأخير بين المجموعات المسلحة في جنوب طرابلس، عندما أعطى «الملتقى الوطني للقبائل والمدن الليبية»، الذي احتضنته مدينة ترهونة (88 كيلومتراً) جنوب شرقي العاصمة، حكومة «الوفاق الوطني» حتى منتصف سبتمبر (أيلول) مهلة ثلاثة أيام، لحل الميليشيات المسيطرة على العاصمة ونزع الشرعية عنها، وتسليم كامل أسلحتها ومعداتها للجهات الرسمية المختصة. وحذّر من «أي ترتيبات أمنية من شأنها المماطلة أو الإبقاء على هذه الميليشيات أو إعادة تدويرها بأي صورة من الصور».
لكن الحاصل أن مهلة «ملتقى القبائل» انتهت، وبقي السلاح - المحظور توريده إلى ليبيا - يتزايد في أيدي الميليشيات، وبقدرات فائقة، حيث المدرعات العسكرية ترابط أسفل المنازل، وتجول سيارات الدفع الرباعي من نوع «تويوتا» حاملة مدافع رشاش (14.5) ويستعرض بها الشباب في الشوارع. إزاء هذا المشهد، قال المواطن الليبي - الذي رمز لاسمه بـ«فواز»، معلقاً «السلاح في بلادنا مثل النفط يزيد ولا ينقص، والقذافي ترك لنا منه مخازن ومستودعات هي الآن في حوزة المجموعات المسلحة»!

- «مافيات» اخترقت الحظر
وبعيداً عن الحظر الدولي المفروض على ليبيا منذ مارس (آذار) 2011، تمكنت «مافيا» السلاح من اختراق هذا الحظر عبر وسطاء دوليين لإغراق البلاد بمزيد من الأسلحة والصواريخ، مستغلة حالة من الفوضى وتعطش السوق الليبية إلى الحديث والمتقدم منه. وهذا ما كشف عنه تقرير فريق الخبراء الأخير إلى مجلس الأمن الدولي؛ الأمر الذي دفع رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» الشيخ محمد المُبشر للقول «إذا استمر وجود السلاح على هذه الصورة ستستمر معاناة المواطنين». وأضاف المُبشر في حديث إلى «الشرق الأوسط» موضحاً «إن تفكيك سلاح الميليشيات في ليبيا لن ينجح إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي... ما يكذب عليك أحد، لا الليبيون ولا العرب يستطيعون تحقيق ذلك».
هذا، ورصد فريق الخبراء نشاط ثلاثة مواطنين إيطاليين، هم: ماريو دي ليفا وزوجته أناماريا فونتانا وأندريا باردي، قبضت عليهم السلطات الإيطالية وأخضعتهم للمحاكمة، بتهمة تيسير نقل الأسلحة، إلى ليبيا بين 2011 و. وكان بين السلاح المنقول، أنواع كثيرة من الذخائر والقذائف المضادة للدبابات ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، وكلها نُقلت إلى مدينة مصراتة (200 كيلومتر شرق طرابلس)، بالاشتراك مع مواطن ليبي يدعى محمود علي ششويس. وأشارت مذكرة متصلة بإحدى الشحنات إلى أن كميات الذخائر كانت من كثرتها يستلزم نقلها ست طائرات شحن من طراز إيليوشن «IL76».
ويُعتقد، وفقاً لتقرير الخبراء، أنه جرى سداد قيمة إحدى الشحنات لشركة «غلوبال واي إلكترونيكس» Global way Electronics التي يملكها ماريو دي ليفا، بمبلغ مليونين و240 ألف دولار، وتم الشراء الفعلي للذخائر من خلال شركة أخرى يملكها أيضا ماريو دي ليفا، وهي شركة «هاي تكنولوجي سيستمز ليمتد» High Technology Systems Limited. ومن أجل تمكين ششويس الذي مثل أيضاً المشترين الليبيين من الاجتماع مباشرة بشركات الأسلحة، صُوّر كشريك في الشركة نفسها، بل ورئيس للإنتاج بها.
أيضاً، أظهر التقرير الأممي أن المحاولات الأخرى لانتهاك حظر توريد الأسلحة شملت التفاوض على عقود مع أندريا باردي، من خلال شركة «سوسييتا إيتاليانا إليكوتيري» Societa Italiana Elicotteri، وهي شركة يرتبط بها باردي، لشراء ثلاث طائرات هليكوبتر من طراز مانغوستا «A129 Mangusta» بسعر إجمالي قدره 18.6 مليون يورو. و13ألفاً و950 بندقية من طراز إم 14 «M14»، بلغ مجموع تكلفتها 41.85 مليون يورو، و12 وحدة إغلاق محرك للطائرات، بلغ مجموعة تكلفتها 69.6 مليون يورو (الطبيعة والمواصفات الدقيقة لتلك الوحدات غير واضحة)، وذخائر صواريخ، بلغ مجموع تكلفتها 44.8 مليون يورو.
ووفق الخبراء، فإن باردي صاغ هذه العقود، التي نصت على أن يتم التسليم جواً إلى مصراتة أو طرابلس، على أن يجرى السداد بالتقسيط وفقاً لمراحل الشحن، لكن هذه العقود لم تنفذ بسبب إلقاء القبض على الأفراد المعنيين. ولفت فريق الخبراء إلى أنه على الرغم من تلقيه «تفاصيل تتعلق بجواز السفر الذي استخدمه ششويس (الشريك الليبي) أثناء الاجتماعات بالموردين المحتملين، فإنه لم يتلق أي رد من حكومة ليبيا على استفساراته بشأن ذلك».

- من تركات القذافي
وللعلم، مدّد مجلس الأمن الدولي في يونيو (حزيران) الماضي، بالإجماع حظر السلاح المفروض على ليبيا لعام آخر، بسبب ما سماه «وجود جماعات مسلحة تتقاتل فيما بينها، وغياب أي بوادر لحل سياسي في القريب العاجل». وأيّد المبعوث الأممي لدى ليبيا، الدكتور غسان سلامة هذا الحظر، وقال في إفادة سابقة إلى مجلس الأمن «حظر الأسلحة مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى... إن بلداً به 20 مليون قطعة سلاح لا يحتاج إلى قطعة إضافية».
وهنا نشير إلى أن صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية نشرت في السابع من سبتمبر الحالي، إن العاصمة الليبية شهدت تدمير آلية نادرة، عبارة عن مدفع هاوتزر «بالماريا» ذاتي الحركة. وهذا المدفع الذاتي، من ضمن ترسانة أسلحة حرص القذافي على استيرادها من الاتحاد السوفياتي وحلفائه والدول الغربية، وظل يستخدم في الاقتتال بالعاصمة إلى أن جرى تدميره قبل أسبوعين. ونقلت وكالة «سبوتنيك» الروسية، عن «روسيسكايا غازيتا» أنه في مجال المدفعية الذاتية الحركة امتلك الجيش الليبي مدافع «دانا» التشيكية ومدافع «غفوزديكا» و«أكاتسيا» الروسية. أما عن مدافع «بالماريا» التي تنتجها شركة «ميلارا» الإيطالية فقد أصبحت ليبيا أكبر مشترٍ لها، إذ اشترت نحو 150 مدفعاً من هذا النوع منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. مضت الصحيفة معددة مميزات المدفع، قائلة إنه صنع من أجل التصدير إلى الخارج، واعتبر في ثمانينات القرن الماضي واحداً من أفضل المدافع الذاتية الحركة الغربية، إذ يبلغ مداه 24 ألف متر عند استخدام القذائف العادية، و30 ألف متر عند استخدام القذائف الصاروخية. ولفتت إلى أن ليبيا تمتلك من هذه النوعية قرابة 30 مدفعاً.
من جهة ثانية، تحدث المسؤول العسكري السابق بوزارة الدفاع بحكومة «الوفاق الوطني»، وهو ينتمي إلى مدينة مصراتة، عن أن الميليشيات تمتلك صواريخ وآليات عسكرية حديثة هي جزء من عتاد جيش القذافي، وتقاتل بها حالياً في صراع على طرابلس، مستكملاً «المخازن مفتوحة في حرب السيطرة على طرابلس. ويعتقد بعض المتاجرين في السلاح أن هذه التجارة كانت موجودة أثناء عهد القذافي، من خلال تهريب مسدسات وبنادق آلية من نوع «كلاشينكوف» من مخلفات الحرب الليبية - التشادية، أو تأتي عبر الحدود المصرية، لكنها ازدهرت عقب رحيل النظام السابق ووصلت إلى راجمات الصواريخ وصواريخ «غراد».

- مبادرات منذ 2012
هذا، وأعلن في عموم ليبيا عن مبادرات عدة لجمع السلاح بداية من عام 2012، انطلقت أولاها بمدينتي طرابلس وبنغازي تحت شعار «أمن بلادك بتسليم سلاحك» برعاية من أجهزة الدولة الحاكمة وقتها. وفي فبراير (شباط) 2013 وضعت الولايات المتحدة مع ليبيا خطة سرية تقضي بتوفير برنامج مخصص لشراء الأسلحة، وتحديداً الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات والمقدّر عددها بعشرين ألف صاروخ، وهذا الأمر لم يحدث. ثم في يوليو (تموز) 2014 قدم البرنامج الليبي للإدماج والتنمية (LPRD)، الذي عرف بعد تأسيسه بـ«هيئة شؤون المحاربين» استراتيجية مفصلة لجمع السلاح، بالتعاون مع المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية.
وما يجدر ذكره هنا، أنه سبق لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» الكشف عن أن اشتباكات العاصمة التي وقعت بين الميليشيات في محيط مطار معيتيقة استخدمت فيها آلية قتالية روسية الصنع مخصصة لمواجهة الدبابات في الحروب، تعرف باسم «كريزانتيم إس» تحمل صواريخ مداها 6 آلاف متر. وأشارت إلى أن ليبيا حصلت من روسيا في عام 2013 على 10 آليات من النوعية نفسها».
كذلك، قالت الصحيفة، إن ليبيا حصلت على أربع قواذف صواريخ «كريزانتيم إس» و150 صاروخاً خلال حكم القذافي، لافتة إلى أن «آليات (كريزانتيم إس) تستطيع العمل حتى في ظروف انعدام الرؤية، ويمكن توجيه صواريخها بشعاع الليزر أو عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي». وعددت الصحيفة مميزات آليات «كريزانتيم إس» فقالت إنها تستطيع السير فوق الطريق المعبدة بسرعة 70 كيلومترا في الساعة، وتزن 20 طنًّاً، وتستطيع الانطلاق على سطح الماء بسرعة 10 كيلومترات في الساعة.

- لا ثقة بين الليبيين
عودة إلى مسألة تفكيك السلاح، وأمام تزايد دعوات تفكيك سلاح الميليشيات وجمعه من أيدي الأفراد لصالح الدولة، استبعد المُبشر، حدوث ذلك، معتبراً أن الأمر «صعب جداً لانعدام الثقة بين الليبيين». غير أن العقيد الطاهر الغرابلي رئيس «المجلس العسكري بصبراتة» (المنحل) ذهب إلى ضرورة التمييز بين الميليشيات، وذهب إلى أن الميليشيات المسلحة هي من استحوذ على السلاح من أيدي قوات القذافي أثناء اندلاع ثورة 17 فبراير، ومنذ ذلك الوقت لم تجد حكومة جادة قادرة على تطويع الميليشيات، واحتوائها دون تفرقة أو تمييز». وقسّم الغرابلي الميليشيات في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً، إن «منها ميليشيات خيّرة تستخدم سلاحها في الدفاع عن الدولة الليبية، والتصدي لموجات الهجرة غير الشرعية، والمخربين وغيرهم... وهذه يجب التعامل معها بمهنية. وهناك في المقابل، ميليشيات مسلحة عبارة عن عصابات تمارس السرقة والسطو على المواطنين، وتهرّب الوقود وتتاجر في البشر، وهذه يجب نزع الشرعية عنها والتعامل معهم بقوة وحسم».
ولام الغرابلي على «حكومة الوفاق» والأمم المتحدة، معتبراً أن حكومة المجلس الرئاسي «فشلت ولم تستطع قراءة الأحداث منذ دخولها طرابلس قبل أكثر من سنتين، كما لم تتمكن من إدارة الأمور بشكل سلسل يجتذب جميع الليبيين»، متابعاً «لقد قرّبت منها ميليشيات غير منضبطة ولا تتعامل مع المواطنين بالقانون، ومنحتها الشرعية، مثل (قوة الردع الخاصة) وغيرها، ويجب تطهير وزارة الداخلية منها، في حين استبعدت البعض الآخر»، كما أن البعثة الأممية أدارت الأزمة «بشكل غير محايد».
الغرابلي يفضّل إبقاء الوضع على ما هو عليه الآن، شارحاً «أعتقد اقتراح نزع السلاح غير ممكن في الوقت الحالي... العسكريون في شرق وغرب البلاد، ليسن لديهم الكفاءة أو القدرة المطلوبة لتنفيذ هذه المهمة... ويمكننا دمج الميليشيات الخيرة في (قوة احتياط) لمكافحة الهجرية، يكون تعاملها بعيداً عن المواطنين». ويخلص إلى القول «يجب تطهير وزارة الداخلية (بحكومة الوفاق) من الميليشيات، والاكتفاء بالاعتماد على الشرطي المتدرب خريج كلية الشرطة فقط».
جدير بالإشارة، أن رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج - بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي - حل «المجلس العسكري بصبراتة»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وأمر أن تؤول كل الوثائق التي بحوزته إلى غرفة عمليات محاربة تنظيم داعش في صبراتة. ورأى الجيش الوطني أن الأسلحة والذخائر المنتشرة في البلاد ليست في يد القبائل والعشائر، وإنما يحوزها الخارجون عن القانون و«الميليشيات المتواجدة بالمنطقة الغربية، وبخاصة في مصراتة وطرابلس». وقال إنه تمكن من تقليل وجود الأسلحة خارج المعسكرات بشكل كبير، وأن هناك توجهاً عاماً للتعامل مع تلك النوعية إمّا بالشراء أو القضاء، داعياً إلى سنّ مجلس النواب قانوناً يحرّم حمل السلاح خارج المؤسسات الشرعية للدولة.
ولكن حكومة السراج التي تمارس أعمالها منذ سنتين في العاصمة لم تحرز أي تقدم في هذا المجال، باستثناء تحذيرات أطلقتها وزارة الداخلية، نهاية الأسبوع الماضي، من أن «انتشار السلاح في البلاد يهدد بإراقة المزيد من الدماء، ويمتد هذا التهديد على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل تنامي العناصر الإرهابية العابرة للحدود». وقالت الحكومة إن «الرصاص العشوائي لا يزال يسقط مزيد الضحايا في البلاد، على الرغم من التحذيرات المتكررة منها، بالإضافة إلى الحملات التوعوية، حيث تحولت كثير من المناسبات الاجتماعية إلى أحزان، نتيجة الاستعمال الخاطئ لهذه الأسلحة الفتاكة». وهو ما دعا عبد المنعم الحر، الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، إلى المطالبة «بالإبقاء على السلاح الثقيل والمتوسط داخل المعسكرات الرسمية للجيش، والعمل على تقنين الخفيف منها بالتراخيص وضبط العمل بها من خلال القانون».
أيضاً اكتفت الحكومة بالقول «إن أصوات كثيرة نادت بجمع السلاح، وإعادته للدولة والاتجاه نحو التنمية والإعمار، ودعوة المواطنين كافة لتسليم أسلحتهم، والانخراط في بناء الوطن والنهوض به، وهذا لا يتأتى إلا بالعمل على توفير فرص عمل للشباب، ووضع سياسات تنموية ترعى هذه الشريحة المهمة والاهتمام بها، وتوجيههم نحو العلم والمعرفة». لكن عبد الرحمن الشاطر، العضو في المجلس الأعلى للدولة، يرى أن الموضوع أكبر وأعقد من أن تقوم به دولة واحدة... مضيفاً «الموضوع ليس جمع قمامة يُوكل لشركة، وعليه فإن جمع السلاح يعد أولوية الأوليات التي يطالب بها الشعب الليبي». وتابع الشاطر لـ«الشرق الأوسط» معلقاً «هذا إجراء لم يحظ بالاهتمام الفعلي طيلة سنوات ما بعد انتصار انتفاضة فبراير، لكنه يمثل تحدياً كبيراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وأعتقد أنها لن تكون قادرة على تنفيذ جمع السلاح المنتشر بشكل مرعب لأنها لا تملك لا القدرة ولا الكفاءة ولا الخبرة ولا الوسائل اللازمة».
وأشار الشاطر إلى أن مجلس الأمن هو «صاحب الاختصاص، وهو من يملك تشكيل فرق فنية، ومن يملك معاقبة من لا يمتثل لتسليم سلاحه، فمافيا السلاح التي دأبت على شرائه طيلة السنوات الماضية لا يردعها رادع. وتقرير الخبراء التابع لمجلس الأمن رصد هذه الانتهاكات حتى على مستوى دول». وانتهي الشاطر إلى القول إن «الانفلات الأمني نتيجة متوقعة لانتشار السلاح خارج سلطة الدولة، وقد جرّ المجتمع الليبي إلى ما يعانيه من فرقة وانقسام وعدم القدرة على إنتاج موقف موحد يجمع شتات البلاد ويدفع إلى تحقيق استقرار، وبالتالي فلا حرج في الاستعانة بالتجارب التي خاضتها الأمم المتحدة في دول أخرى عانت ما تعانيه ليبيا... وأرى ضرورة تكليف البعثة الأممية بهذه المهمة والتعاون معها بشكل مطلق».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.