المكتبة وجودنا الجارح... وجودنا الهش

يظل الكتاب «شيئاً» حتى نقرأه فيصير كتاباً

المكتبة وجودنا الجارح... وجودنا الهش
TT

المكتبة وجودنا الجارح... وجودنا الهش

المكتبة وجودنا الجارح... وجودنا الهش

في ذلك الزمان، عندما كان اليوم طويلاً جداً، سمعت من يقول: «كلما أنظر إلى مكتبتي، أشعر بالأسى لمصيرها»، وقد كان لا بد من الانتظار لنحو ثلاثين عاماً كي أفهم ما تعنيه تلك العبارة الواضحة.
لا أعرف، هل كان قدراً أم اختياراً أن تكون صداقاتي في محيط رجال كانوا بعمر أبي يوم عرفتهم؛ لن تغيِّر معرفة السبب شيئاً من حقيقة أن صداقاتي كانت بين جيل الستينات من الكُتَّاب. وكان محمد البساطي العذب - إذا احتدم الخلاف بيننا - لا يجد ما يناوشني به سوى تذكيري بأنني «عيِّل»، وكنت أقول له إننا أبناء جيل واحد (هم كتبوا في الستينات، وأنا ولدت فيها).
بالنتيجة، لا أنصح شاباً بمثل هذه الصداقة، فسريعاً يغرب أصدقاؤك ويتركونك وحيداً، وبقدر ما تستفيد من صحبة الأكثر خبرة، تبقي هناك أشياء عصية على فهمك، أشياء لا تستطيع أن تستقبلها كمثل استقبال صديقك الأكبر سناً، ولا يمكن أن تشاطره الإحساس بها. من هذه الأشياء الحسرة على مصير المكتبة؛ أولاً لأن فكرة الموت نفسها تكون بعيدة عن إدراكنا في السن الصغيرة، وثانياً لأنك عندما تكون شاباً لا تفصل بين ذاتك والعالم، تتصور أن الجميع على شاكلتك، وبالتالي سيكبر أولادك على حب الكتب.
باختصار، كان صعباً على شاب محب للكتب - كالشاب الذي كنته أنا - أن يتصور مصيراً حزيناً لمكتبته.
كان أصدقائي يفكرون بذلك المصير، بينما كنت سادراً في الغي، أتنقل من بيت لبيت ومكتبتي معي، دون أن أشعر بأن وجودها مهدد، بل بالعكس، كانت في كل نقلة تحظى بفضاء أرحب. ومثلما أفرح بإطلالة البيت الجديدة التي قد تكون أسوأ من سابقتها، لكنها جديدة، كنت أفرح بالمساحة الأوسع التي أتيحت لمكتبتي التي أعاملها وكأنها خالدة، وأدللها كما أدلل أبنائي، وأكافئها بقطعة أثاث جديدة.
ولا يصبح البيت بيتاً إلا عندما يستقر كل كتاب في المكان اللائق به، مثلما يستقر أبنائي في غرفهم. أيام جمع الكتب من المكان القديم، وإعادة تسكينها في الجديد، هي أيام تجديد للارتباط، ومراجعة وثائق النسب التي هي ذكرياتي عن أول قراءة، مناسبة لمواساة الكتب المصابة على الجراح، وتضميد الممكن منها بلاصق لا يشوه جمالها. أيام النقل هي كذلك أيام لتقليم ذلك البستان، وإزالة الغصون اليابسة، وهذا عمل مهم ينبغي أن يتم بشكل دوري، لكننا قد نهمله بسبب انشغالنا.
ونحن لا نتخلص من الكتب السيئة فحسب؛ بعض الكتب جميلة لكنها تفتقر إلى العمق أو الغموض، أو السر الذي يجعلها تصلح لقراءات متكررة، هي أغصان تثمر مرة واحدة، للقارئ الواحد، ومن الخير إهداؤها إلى قارئ جديد يقطف منها هو الآخر قطفته. سأكتشف لاحقاً أن التخلص من الكتب الغامضة والواضحة على السواء هو أول ما يفعله معظم الورثة بعد موت مورثيهم، بعضهم يسعى إلى جامعة أو مكتبة عامة لتقبلها باسم صاحبها، وبعضهم يتخلص منها بالكنس.
يبدو أن الحمض النووي البشري لا يحتمل ثقل «حب الكتب»، لذا لا تتوارث السلالة الواحدة دائماً هذا الحب. لكن من حسن الحظ أن الكتاب بوسعه استئناف حياته مثل قط أُلقي به إلى الشارع. في الغالب، سيصادف قارئاً عطوفاً على أقرب ناصية، ما دام لم يتعرض للحرق.
وإذا كان الكاتب واثقاً من أنه لن يترك وراءه ذرية متطرفة تقيم محرقة لكتبه، عليه ألا يقلق على مصير كتبه، وأن يسعد بصحبتها حتى النهاية.
أثق في أحكام الأذكياء، وبينهم شيزار بافيزي الإيطالي الذي عرف الحياة جيداً فانتحر، يقول في يومياته «مهنة العيش» إن مصدر سعادتنا بالأشياء هو اليقين بأننا على اتصال بشيء سيعمر بعدنا.
ستبقى الكتب بعدنا، وتتلقى لمسات من أياد جديدة - حتى لو كانت غريبة - توقظ لمساتنا وعلامات مرورنا التي تركناها هناك.
الكتب، على أية حال، ليست مجرد «أشياء»، ربما كانت كذلك عندما اشتريناها، وربما هي كذلك لدى من يؤثثون مكتبات كنوع من الواجهة الاجتماعية، دون أن يقرأوا كتبها المجلدة بألوان تتماشى مع الديكور (بعضهم يضع مكتبات خلابية، رفوف مصمتة بتعريجات تبدو وكأنها كعوب كتب)، هؤلاء ليسوا في حسابنا لأنهم لم يلتقوا بالكتاب أصلاً.
يظل الكتاب «شيئاً» حتى نقرأه، فيصير كتاباً. آنذاك، يصبح جزءاً من وجودنا: الخبرة التي اكتسبناها منه، والسعادة التي عشناها، والخلاف في الرأي معه. بعد ذلك، سيصبح ما نحتفظ به على الرفوف ليس مجرد عدد الأوراق المقصوصة بالتساوي بين غلافين، لأن صفحاته تتحول إلى صفحة من حياتنا. من يدرك هذا المعنى لا يترك لأحدٍ غيره تنظيف مكتبته، فلا أحد غيرك بوسعه أن ينفض الغبار عن حياتك.
قد يكون إدراك هذا التطابق بين الكتب وذواتنا هو أصل القلق على مصير المكتبة. ويبدو أنني أسوأ حظاً من أصدقائي الكبار الذين لم يعرفوا سوى الكتاب المطبوع؛ لم أخطُ نحو الغروب إلا وقد ابتكرت لي التكنولوجيا الكتاب الرقمي، الذي أصبحت أقتني منه أكثر مما أقتني من الورق، لكنه كتاب شبح يتواصل مع العين وحدها دون أن تختلف في إصبعي - عندما أقلب الصفحة - لمسة أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد من لمسة إيما بوفاري، والأسوأ أن وجوده أكثر هشاشة من وجودي، إذ يمكن أن يبدده عطب في جهاز القراءة، أو حتى في الشاحن الكهربائي.
تركني الصحاب بين كتاب يجرح برسوخه هشاشة وجودي، وآخر هش بدرجة مفرطة يُذكِّرني بسرعة الزوال، وما من سبيل إلا العيش مع الكتابين بأقل أسى ممكن!


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.