المثقف العضوي بين متعة الفن وتأملاته الفكرية

صدر للقاصة السعودية منيرة الإزيمع ثلاث مجموعات قصصية، حملت العناوين الآتية: «هم، الطيور لا تلتفت خلفها، ما ينقصك»، وقد اختلفت القصص التي اشتملت عليها هذه المجموعات ما بين الطول والقصر، فتجاوز عدد كلمات بعضها 3600 كلمة في نحو 18 صفحة من القطع المتوسط، كقصة «اللعبة القذرة» التي تنتهي بها مجموعة «هم»، بينما جاءت قصة «ما يستحق أن يكتب» في 13 كلمة فقط.
كما تنوعت قصص الإزيمع من حيث الموضوعات التي تناولتها، ففي مجموعة «هم» نجد الذات وهمومها، كما نجد الاغتراب في قصة «أنت» التي تحدثت عن اغتراب الإنسان في المدن، وفي مجموعة «الطيور لا تلتفت خلفها» نجد حضوراً واضحاً للطيور، بوصفها معادلاً موضوعياً لذات الكاتبة الباحثة عن الحرية، كما في قصة «نسيان» التي ترصد امتلاء الغرفة بالطيور، وقصة «بالأمس» التي تؤكد فيها على أن الأقفاص ليست للطيور.
وتشغل مجموعة «ما ينقصك» في عمومها بموضوعات فكرية مثل: الحرية والوجودية والاغتراب والعلاقات البشرية، وذلك بدءاً من القصة الأولى فيها «قراءة في كتاب الحديقة» وصولاً إلى «قصة شعر»، ويكشف هذا التنوع في عالم منيرة الإزيمع القصصي، عن مدى اهتمامها بالعالم المحيط بها وتماسها الروحي معه، وكأنها تتمثل فكرة «أنطونيو جرامشي» عن المثقف العضوي، باحثة عن دور حقيقي بوصفها أحد أبناء «الإنتلجنيسيا» في المجتمع، مقدمة تأملاتها الفكرية والاجتماعية، ويتساءل في سردها (المثقف العضوي) عن بؤس العالم، وهوان الإنسان فيه، مثلما يتساءل عن التحولات التي طالت المدن، وبدّلت القيم الإنسانية، ودفعت بالإنسان إلى الشعور بالاغتراب، وتربط القاصة هذه الأسئلة والانشغالات بعوالم الطير ووجوده في حياتنا، وتتوحد معه في تعبيرها عن الحرية والقضايا الوجودية، والرغبة في التحليق نحو آفاق بعيدة أكثر رحابة.
تبدأ الإزيمع قصصها بالحديث عن حدث شديد الواقعية، بأسلوب الإخبار المحايد، وكأن ما تسرده لا علاقة لها به، ثم فجأة ينقلب السرد في نهاية القصة لنجد حضور الذات واضحاً في النص، وكأن القصة ليست أكثر من تقديم لمجيء الذات وسؤالها الفلسفي، أو ملاحظتها الدقيقة عن الواقع والحياة، كما في قصة «بعض القطط» في مجموعة «ما ينقصك»، حيث تقول: «تأثر كثيراً، وحزن على وفاة قطه، أكثر من تأثره على خروج والده من حياته، وحتى الآن بعد مضي 3 سنوات على وفاة قطه، لا يزال يسترجع بحنين، تفاصيل كثيرة من الذكريات، أفكر: كيف يمكن لقط أن يكون عظيماً، لهذه الدرجة التي يعجز أن يصل إليها الإنسان».
وتتجلى براعة الكاتبة في تلك المهارات السردية التي ينقل بها الحدث من الوضوح والمباشرة إلى الترميز والفنية، وهي مهارات يدركها القارئ المتمرس حين يعاود قراءة النص برؤية عميقة، ويعيد تفكيكه في أفق ثقافي، وهذا ما فعلته منيرة الإزيمع في هذه القصة وغيرها، مستخدمة تكنيك وضوح التمثيل، بسرد يقتنص الهامشي واليومي ليعيد تشكيله أمام القارئ، الذي يقرأه في المرة الأولى بنصف اهتمام، ولكنه ما أن يعاود قراءته من زوايا مختلفة حتى تتعمق الدلالة أمامه بهذا الشكل الذي يكشف عن سرد يقف أمام قضايا تمس قيم الإنسان الكبرى.
وتقوم المفارقة على افتراض وجود نقيضين، مما يجعل الذهن يسعى للبحث عن نقطة التقاء بينهما، متأملاً الكثير من التساؤلات والإجابات في تلك المسافة الفارقة بين النقيضين، وهو الأمر الذي استفاد منه الشعراء، خاصة كتّاب «قصيدة النثر»، حيث المزج بين القصيد والنثر في مصطلح واحد يعبر عن رؤاهم وهويتهم الجديدة، وقد استفادت القصة القصيرة منه أيضا، لا سيما حين اختفت الحكاية، والشخصية الدرامية، والأحداث بمفهومها التقليدي؛ مما دفع كتاب القصة إلى البحث عن بدائل جديدة في كتاباتهم، وكانت المفارقة واحدة من أبرز الإضافات التي تبناها كُتّاب القصة القصيرة، لتمثيل القيم الفنية، وقد اشتملت قصص مجموعات الإزيمع على ما يقترب من 60 في المائة على وجود مفارقة، فقصة «على النافذة» التي كُتبت على هيئة الشعر، تأتي بهذا الشكل:
على حافة نافذتي يقف عصفور مستعيراً عينيك
لينظر إلى داخل غرفتي
نظر حائراً ومتردداً
همّ بالدخول
لكنه طار
بعد أن فكر بجناحيه
فالسرد الذي قامت عليه القصة يمزج ما بين العصفور الافتراضي الحاضر، والحبيب الواقعي الغائب، حتى أننا من فرط التماهي بينهما ننسى وجود العصفور في المشهد، ونذهب بخيالنا تجاه الحبيب الذي ينظر إلى داخل غرفة الحبيبة، لكنه يتردد في الدخول، لا لشيء سوى أنه فكر بجناحيه، وهو ما لم نكن نتوقع حدوثه، فالحبيب يفكر بقلبه أو عقله أو مخاوفه، لكن أن يفكر بجناحيه، فهذا ما لا يحدث إلا لعصفور واقعي وليس افتراضيا، مما يجعلنا نعيد قراءة القصة من جديد؛ لنكتشف جماليات الحيلة الفنية التي نسجتها الكاتبة بتكنيك المفارقة، وقد تجلى فيها أيضاً الترميز في مفرد «جناحيه» لينفتح أفق التأويل، وهو الأمر الذي أعطى للقصة قيمة عميقة، إضافة إلى سردها الكثيف.
تحركت منيرة الإزيمع قصصياً في مساحات متنوعة من السرد، فتعددت عوالمها التخيلية وتقنياتها الفنية، فقدمت مجموع من الأفكار والموضوعات المتباينة؛ مما يشعر القارئ أحيانا أنه أمام متوالية قصصية مرابطة، وليس مجموعة قصصية، فتظهر له شخصيات خفية متعددة تسجل حضورها المؤثر، في مواقفها الإنسانية، وتجاربها المتنوعة، تارة مع الكائنات الحية التي تشاركه فضاء الحياة كالطيور والحيوانات، وتارة أخرى مع هموم الذات وتأملات (المثقف العضوي) الفكرية في بحثه الدائم عن معنى خاص لأحداث الحياة الإنسانية، فكلما اقتربت من الكمال تكشفت له جوانب نقصها الإنساني، وقد أتى حضور هذه الشخصيات الخفية بالاعتماد على تعدد الضمائر وتنوعها في القصص، مما مكّنها من تجسيد الكثير من الأفكار، وتقديم رؤى متباينة، تمنح المتلقي فرصة التماهي مع هذه الشخصيات وتمثُّل أزماتها ومواقفها، وقد حاولت الكاتبة التنقل والتجريب بين السرد القصصي والشعري، باحثة عن جوهر الفن في صورته الأسمى، من أجل المتعة الفنية، ومن ثم تحفيز المتلقي للتفكر والتأمل فيما ينطوي عليه العالم من أسئلة ومفارقات كثيرة، وقد حقق البحث عن جوهر الفن للكاتبة سمة التميز والإضافة.

* ملخص محاضرة
ألقاها الكاتب في «بيت السرد» بجمعية الثقافة والفنون
بالدمام مؤخراً.