فن الكاريكاتير في الصحف... حيّز لرسم ما لا يمكن قوله

«جنوده» ذاقوا مرارة واعتداءات أكثر من غيرهم بمهنة المتاعب

من أعمال رائد الكاريكاتير اللبناني الراحل محمود كحيل  (موقع محمود كحيل الإلكتروني الرسمي)
من أعمال رائد الكاريكاتير اللبناني الراحل محمود كحيل (موقع محمود كحيل الإلكتروني الرسمي)
TT

فن الكاريكاتير في الصحف... حيّز لرسم ما لا يمكن قوله

من أعمال رائد الكاريكاتير اللبناني الراحل محمود كحيل  (موقع محمود كحيل الإلكتروني الرسمي)
من أعمال رائد الكاريكاتير اللبناني الراحل محمود كحيل (موقع محمود كحيل الإلكتروني الرسمي)

تعود جذور فن نشر الكاريكاتير في الصحف إلى القرن الثامن عشر، ونشر أشهرها في بريطانيا في عام 1805 للجنرال الفرنسي نابليون ورئيس الوزراء البريطاني ويليام بيت على مائدة طعام عليها ديك رومي على شكل كرة أرضية وهما يقسمانه كغنائم بينهما.
أراد الفنان جيمس غيلراي القول، إن الحقبة الاستعمارية لتقسيم العالم بين القوى العظمى قد بدأت، وذلك في وقت كان مثل هذا القول يودي بصاحبة إلى الكثير من المتاعب. لكن الرسم تغلب على صعوبة القول، وهذه هي أكبر ميزة للكاريكاتير؛ لأنه يجمع بين الفكاهة وبين القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة في آن واحد.

العرب يمسكون الريشة
على الصعيد العربي، برع الكثير من رسامي الكاريكاتير الذين تخصص بعضهم في الكاريكاتير السياسي ودفع حياته ثمناً لفنه. ويذكر الرأي العام العربي حادث اغتيال رسام الكاريكاتير البارع ناجي العلي في لندن عام 1987، وهو مبتكر شخصية الفتى الفلسطيني حنظلة التي أصبحت رمزاً فلسطينياً عاش بعد وفاة صاحبة. وحتى الآن تتضارب الآراء بشأن القاتل الحقيقي ودوافع الاغتيال بعد أن سجلت الشرطة البريطانية الحادث ضد مجهول.
من الأسماء المعروفة عربياً في هذا الفن، صلاح جاهين في صحيفة «الأهرام» القاهرية، ومحمود كحيل وأمجد رسمي في صحيفة «الشرق الأوسط». وتشتهر أيضاً أسماء عربية متعددة، منها الليبي حسن دهيمش الملقب بـ«ساطور»، ومواطنه الليبي محمد زواوي الذي توفي في عام 2011، والأردني عماد حجاج مبتكر شخصية «أبو محجوب»، والسوري علي فرزات، ومواطنه رائد خليل، والمصريون مصطفى حسين، وجورج بهجوري، وأحمد طوغان، وعمرو سليم، والعراقي «غازي».
وعلى رغم جهود فناني الكاريكاتير وبراعتهم، فقد ذاقوا أكثر من غيرهم مرارة الاعتداءات على الإعلاميين، سواء في العالم العربي أو في الغرب. وعلى رأسهم يقف ناجي العلي الذي تلقى طلقة من مجهول في أغسطس (آب) عام 1987 في لندن. وشملت الاعتداءات أيضاً رسامي كاريكاتير عرباً، من شمال أفريقيا، ومنهم الجزائري جمال غانم، والتونسي جابر ماجري، والمغربي خالد قدارة، إضافة إلى السوري علي فرزات الذي تعرض لعملية اختطاف واعتداء في عام 2011.
الجيل الحالي من رسامي الكاريكاتير العرب سبقه أجيال من الرواد في الصحافة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، على رغم أن بعضهم لم يكن عربياً. وفي مجلة «أبو نضارة» في مصر، وهي من أوائل المطبوعات التي نشرت رسومات كاريكاتيرية، استعان صاحبها يعقوب صنوع برسوم متعددة، كان بعضها من رسم فنانين إيطاليين. كما رسم الإسباني المقيم في مصر خوان سانتيز رسوماً كاريكاتيرية في مجلة «الكشكول». وفي منتصف عشرينات القرن الماضي استقر في مصر فنان الكاريكاتير الأرمني ألكسندر صاروخان واشتهر برسوماته المبتكرة في صحف عدة. ويعرف المصريون صاروخان من توقيع اسمه على رسوماته.
وجاء بعدهم جيل في بدايات القرن العشرين، كان أهم رموزه عبد المنعم رخا الذي نشر رسوماته في مجلة «الفنان»، ثم «روز اليوسف» و«الستار» و«النقيض». وأدت رسوماته إلى دخوله السجن في عام 1933 بتهمة الإساءة إلى الملك ولمدة أربع سنوات. وكان أول من دخل مجال الكاريكاتير السياسي وعمل بعد إطلاق سراحه في جريدة «المصري». لكنه تناول أيضاً قضايا اجتماعية وابتكر شخصيات فكاهية، مثل «رفيعة هانم» البدينة و«بنت البلد» الجذابة. وأنشأ وترأس الجمعية المصرية لرسامي الكاريكاتير، كما نال وسام الجمهورية في عام 1981.

غياب المعايير
تتضاعف متاعب رسامي الكاريكاتير عن متاعب الصحافيين عموماً للكثير من الأسباب، أهمها غياب المعايير التي يمكن من خلالها تقييم أعمال هؤلاء الفنانين والحكم عليها. فرسام الكاريكاتير المبتكر بطبعه لا يتردد في التعبير عن فكرته برسوماته التي يمكن أن يساء فهمها. وبعض فناني الكاريكاتير يعتبرون أنفسهم فوق الرقابة، ويجدون في رسومهم فرصة للتعبير عما لا يستطيعه الصحافيون. ولذلك يقع بعضهم في مشكلات قضائية من دون قصد. وحتى هؤلاء الذين لا توجد لديهم معارضة أو احتجاجات على النظم السياسية في بلدانهم يجدون أنفسهم متهمين أحياناً في قضايا سياسية. من الأمثلة على ذلك، ما تعرض له صلاح جاهين الذي وقف أمام المدعي الاشتراكي في مصر السبعينات متهماً بالإساءة إلى الاتحاد الاشتراكي. كما تم التحقيق مع الرسام جورج البهجوري بسبب أنف جمال عبد الناصر الطويلة في إحدى رسوماته.
وعلى الرغم من غياب المعايير الأكاديمية والعملية للكاريكاتير، فإنه يعتبر وسيلة تعبير راقية تعتمد على المواهب الشخصية والمخزون الثقافي والمعرفي لكل فنان على حدة. وفي معظم الأحيان يفكر رسامو الكاريكاتير بصوت عالٍ لما يعتمل في الصدور من متاعب ومخاوف على نطاق عام. وهم في معظم الأحيان أول من يتفاعل مع نبض الشارع.

جذور تاريخية
ما زال فن الكاريكاتير يرتبط بالصحف الورقية على رغم ظهور الإنترنت وانتشاره. وهو فن لا يصلح لوسائل الإعلام الإلكترونية، وما ينشر منه تلفزيونياً يكون في الغالب مستعاراً من الصحف أو المجلات.
ومع ذلك، فإن الكاريكاتير يسبق الصحف بعصور وقرون. وتوجد في المتحف البريطاني بردية مصرية قديمة عليها رسم كاريكاتيري لأسد يلعب لعبة تشبه الشطرنج مع غزال، ويعتبر البعض هذه البردية أول رسم كاريكاتيري في العالم.
ومن مصر القديمة انتقل فن الكاريكاتير إلى إيطاليا، حتى أن أصل كلمة كاريكاتير يعود إلى كلمة «كاريكير» الإيطالية التي تعني المبالغة. وخلال عصر النهضة ظهر رسامون ونحاتون إيطاليون ثائرون على المعايير الدقيقة التي كانت تتبعها أكاديميات الفنون في إيطاليا، فظهرت رسومات وتماثيل فيها الكثير من المبالغة في القياسات بغرض السخرية من أكاديميات الفنون. وظل هذا النوع من الفن مقترناً بإيطاليا لمدة قرن كامل قبل أن ينتقل إلى أوروبا مع انتشار علوم وفنون عصر النهضة.
وفي القرن الثامن عشر انتشر فن الكاريكاتير للسخرية السياسية، خصوصاً من بذخ الملوك في فرنسا وعبث السياسيين في بريطانيا وأثناء حرب المستعمرات بين بريطانيا وأميركا. وأثناء الحربين العالمية الأولى والثانية استُخدام الكاريكاتير للسخرية من الأعداء وفي الدعاية العسكرية لكلا المعسكرين المتحاربين.
على الصعيد العربي، كان يعقوب صنوع ومجلته «أبو نضارة» هي أول مطبوعة صحافية احتوت على رسوم كاريكاتيرية سياسية، انتقد فيها الاحتلال الإنجليزي والخديو إسماعيل وابنه الخديو توفيق. وكما كان صنوع رائداً لفن الكاريكاتير «والمسرح»، كان أيضاً عبرة للأجيال اللاحقة من رسامي الكاريكاتير من حيث المصير، حيث انتهى به الأمر منفياً من الخديو إسماعيل إلى باريس في عام 1872 إلى أن توفي بعد ذلك في منفاه.
واستمر الكاريكاتير من أنشط أدوات الاحتجاج السياسي والاجتماعي في مصر خلال العصر الملكي حتى جاءت ثورة يوليو (تموز) 1952، التي أجبرت الرسامين على اتخاذ مسار أوحد لدعم رموز الحكم أثناء عصري ناصر والسادات.
ويقول رسام الكاريكاتير المعاصر تامر يوسف، الذي يعمل في صحيفة «الأهرام» القاهرية، إن حلمه هو قيام اتحاد لرسامي الكاريكاتير العرب، ويرى أن الكاريكاتير هو أرقى المواد الصحافية ويتميز عن المقال بالإبداع والتلخيص. وهو لا يعتبر أن الكاريكاتير هو مادة للفكاهة والضحك، وإنما «تعبير عن الواقع الذي نعيشه، ويعتمد على الحقيقة المطلقة»، ويضيف أن «شر البلية ما يضحك» أحياناً.
وحكى يوسف في لقاء صحافي معه على موقع «عرب تون» الإلكتروني عن علاقة رسامي الكاريكاتير العرب ببعضهم بعضاً، فقال إنها علاقة «معقدة ومركبة، فكل فنان عبارة عن جزيرة منعزلة». وأضاف أن الرابطة الوحيدة للرسامين العرب أسسها ناجي العلي قبل اغتياله. ويستطرد، أن «الفنان السوري علي فرزات نصّب نفسه رئيساً لها من بعده دون انتخاب أو حتى استئذان». ثم حاول يوسف تشكيل اتحاد لرسامي الكاريكاتير العرب في عام 2010، لكن المحاولة فشلت «لخوف معظم الرسامين من المشاركة في اتحاد غير رسمي بعيداً عن كيان جامعة الدول العربية».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.