الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

حَلُم بتعلم الإنجليزية وحاز درجات دكتوراه عدة وجوائز عالمية... وحقق 420 مليار دولار لمجموعة «علي بابا»

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية
TT

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

أعلن «جاك ما» Jack Ma الصيني، مؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، عن خطته للانسحاب التدريجي من الشركة بحلول العام 2020. ولقد نجح «جاك» – وهذا هو التحوير لاسمه الأصلي باللغة الصينية – بتطوير الموقع ليصبح من أكبر المواقع في التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، حيث إنه يخدم حاليا أكثر من 79 مليون مستخدم من حول العالم، يخدمهم 66 ألف موظف يعملون بدوام كامل في الشركة التي تبلغ قيمتها السوقية نحو 420.8 مليار دولار. وللعلم، تقدّم مجموعة «علي بابا» خدمات تقنية متنوعة على مستوى العالم، في حين قدّرت ثروة جاك ما نحو 38.6 مليار دولار أميركي في شهر أغسطس (آب) الماضي، ما يجعله أحد أغنى أغنياء العالم.

قرّر جاك ما، الملياردير الصيني ومؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، في وقت سابق من سبتمبر (أيلول) الحالي التفرغ للعمل الخيري في المجال التعليمي كونه معلماً سابقاً وشغوفاً في هذا الجانب. ووضع خطة للانسحاب التدريجي من الشركة تاركاً المجال للرئيس التنفيذي الحالي دانييل زانغ لخلافته عبر انتقال قيادة المجموعة خلال الفترة المقبلة. ومن جهة ثانية، شدّد جاك على أنه سيبقى جزءاً من الشركة خلال هذه الفترة، بيد أنه سيقلص دوره ومسؤولياته بشكل تدريجي إلى حين إتمام عملية الانتقال الإداري، وفي حينه سيتخلى عن منصب رئيس مجلس الإدارة في 10 سبتمبر 2019. وسيكمل فترته الحالية في مجلس إدارة «علي بابا» لغاية موعد الاجتماع السنوي العام للشركة في العام 2020. ثم إنه لم يترك قيادة المجموعة لأبنائه، كما هو مألوف في الشركات الصينية العائلية، بل فضل تركها للشخص المناسب من حيث المؤهلات وليس الوراثة، ليعكس منهجية الحوكمة والشفافية.
يذكر أن جاك كان قد تخلّى عن منصب الرئيسي التنفيذي للشركة عام 2013. ويأتي قراره الأخير اللافت مع مرور 19 سنة على تأسيس مجموعة «علي بابا» القابضة. ويرى رغم الأعمال اللامع أن من واجبه السماح للجيل الأصغر سناً والأكثر موهبة بتولي أدوار قيادية لإكمال رسالته المتمثلة بتسهيل أداء الأعمال في أي مكان. وأكد أن المعلم داخله يشعر بالفخر الشديد بفريق المجموعة وثقافتهم الغنية، رغبة منه بتجاوز الطالب للمعلم. وبذا يسير جاك ما على خطى بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، الذي ودّع إمبراطوريته التقنية بالتدريج بدءا من العام 2006 إلى العام 2014. من أجل التركيز على الأعمال الخيرية العالمية.

نشأته وحياته

جاك ما من مواليد 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 – أي يبلغ عمره الآن 54 سنة – في مدينة هانغتشو في مقاطعة جيجيانيغ بشرق الصين. ومنذ طفولته أظهر رغبة جامحة في تعلم اللغة الإنجليزية، إذ كان يركب دراجته كل صباح لمدة 45 دقيقة باتجاه فندق لإرشاد السياح الأجانب حول المنطقة. ومن ثم، تعلم اللغة الإنجليزية واستخدمها معهم لمدة 9 سنوات، وصار صديقاً بالمراسلة لأحد السياح الذي أطلق عليه اسم «جاك» بسبب صعوبة نطق اسمه الصيني الأصلي.
درس «جاك» التربية والتعليم في جامعة هانغتشو لإعداد المعلمين، وتخرج فيها في العام 1988 حاصلاً على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، بعد فشله مرتين في تجاوز امتحانات القبول فيها. ومن ثم، عمل محاضراً في اللغة الإنجليزية والتجارة الدولية في جامعة هانغتشو ديانزي، ومن ثم انضم إلى جامعة تشونغ كونغ لدراسات الأعمال، وتخرّج فيها عام 2006 بدرجة ماجستير في إدارة الأعمال.
بعد ذلك تقدم جاك لأكثر من 30 وظيفة مختلفة لكنه ووجه بالرفض في كل منها. وكان بين الوظائف التي تقدم لها قسم الشرطة حيث تم قبول 4 متقدمين من أصل 5، وشركة «كي إف سي» KFC لبيع الدجاج المقلي التي تقدم للعمل بها 24 شخصاً وكان الوحيد الذي رفض طلبه أيضاً. وتقدم كذلك إلى كلية الأعمال بجامعة هارفارد الأميركية 10 مرات ولكن طلبه رفض في كل مرة. بل حتى عندما تقدم مع ابن عمه لوظيفة نادل في فندق، وانتظر تحت أشعة الشمس الحارقة لنحو الساعتين، حصل ابن عمه على الوظيفة رغم حصوله على تقييم أقل من تقييم جاك في امتحان القبول!
من كل هذه التجارب تعلمّ جاك درساً مهماً في حياته، وهو أن عليه ألا يستسلم أبدا للفشل، بل يجب التعلم منه. وانتهى مشوار خيبات الأمل، عندما عمل أخيراً في جامعة محلية كمدرس للغة الإنجليزية لقاء 12 دولاراً في الشهر.

محطة الإنترنت المفصلية

عام 1994 سمع جاك عن الإنترنت، وسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية مع مجموعة من الأصدقاء الذين ساعدوه في التعرف عليها. وهناك فوجئ بأنه عثر على الكثير من المعلومات في الإنترنت، ولكن ليس من شركات صينية. وهكذا، قرّر جاك مع مجموعة من الأصدقاء تأسيس موقع يسمح لمصدّري المنتجات وضعها في الإنترنت لتمكين المشترين من اختيارها مباشرة من دون الحاجة إلى وسيط. وحقاً، أطلق الموقع في الساعة التاسعة و40 دقيقة صباحا، لتبدأ رسائل البريد الإلكتروني من المستثمرين الصينيين بالوصول في حدود الساعة 12 ونصف ظهرا. وكانت تلك هي اللحظة التي خبِر فيها جاك ما، فعلاً، القدرات الهائلة الكامنة للإنترنت. من هذه المحطة، بدأ له أن مشواره العملي سيكون كفاحاً شاقاً من أجل النجاح، تماماً مثل مشواره التعليمي، وحقاً، كان من أوائل من فكروا بتأسيس شركة إنترنت من الصين، التي كانت تتأهب في حينه لدخول العصر الرقمي.

انطلاق «علي بابا»

وبعد سنة، عام 1995، جمع جاك مع زوجته وصديق له مبلغ 20 ألف دولار لتأسيس أول شركة لهم، وهي شركة متخصصة بإيجاد موقع للشركات الصينية سماها «صفحات الصين». وفي غضون 3 سنوات فقط، حصلت الشركة على عوائد بقيمة 5 ملايين يوان صيني، أي ما يعادل 800 ألف دولار أميركي في ذلك الوقت. ثم ترأس جاك شركة تقنية المعلومات التابعة لمركز الصين الدولي للتجارة الإلكترونية التابع لقسم وزارة التجارة والتعاون الاقتصادي بين العامين 1998 و1999.
وبعد ذلك أسّس موقع «علي بابا» بصحبة 18 صديقاً، وشغل منصب الرئيس التنفيذي للمجموعة التي تشمل موقع «علي بابا»، وموقع «إي تاو»، وخدمات «علي بابا» للحوسبة السحابية، وموقع «تي مول»، وموقع «جوهواسوان»، وموقع «1688 دوت كوم» وموقع «علي إكسبريس» المتخصص ببيع المنتجات بأسعار الجملة للأفراد والتجار حول العالم، وخدمة «علي بابا» للدفع المسماة «علي باي» AliPay. كذلك أسس موقع «تاو باو» الذي عرض موقع «إي باي» eBay أن يشتريه، لكن جاك ما رفض ذلك وحصل على استثمار مالي من الشريك المؤسس لـ«ياهو» بقيمة مليار دولار.
اختار جاك اسم «علي بابا» للموقع معتمداً على رواية «علي بابا والأربعون لصاً» من منطلق استخدام شخصية «علي بابا» ككلمة سر تفتح أبواباً لكنوز تفوق الوصف، وفي ذلك تعبير واضح عن قدرة شركته على فتح أبواب الثراء للشركات الصغيرة والمتوسطة حول العالم.
ومن ثم، حصلت مجموعة «علي بابا» على تمويل أجنبي بقيمة 25 مليار دولار في نهاية العام 1999 وبداية العام 2000، من أجل تطوير التجارة الإلكترونية المحلية وإيجاد منصة تجارة إلكترونية متقدّمة للشركات الصينية الصغيرة والمتوسطة. واستطاعت المجموعة دخول سوق الأسهم في بورصة نيويورك بنهاية العام 2014 وجنت أكثر من 25 مليار دولار في الاكتتاب، وهي أكبر قيمة اكتتاب في تاريخ سوق الأسهم الأميركي. وفي العام 2012، تجاوز حجم التعاملات التجارية في موقع «علي بابا» تريليون يوان صيني (نحو 146 مليار دولار أميركي).
في ضوء هذا النجاح المبهر، تحدث جاك ما مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في بداية العام 2017 حول كيفية إيجاد مليون وظيفة جديدة في الولايات المتحدة خلال 5 سنوات، مع أنه في الوقت نفسه يعارض سياسات ترمب التجارية، ويعتقد أنه إذا توقفت التجارة... ستبدأ الحرب. وهنا نشير إلى أن جاك ما كان قد أعلن في العام 2010 عن قراره تخصيص 0.3 في المائة من العوائد السنوية لمجموعة «علي بابا» لصالح مشاريع حماية البيئة في مجالي تطوير نقاء المياه والهواء، وذلك بهدف مساعدة المزيد من الناس على جني المال بصحة أفضل، وأن يكون المال مفيداً لأولئك الأشخاص وللمجتمع ككل. ونبع هذا الاهتمام بعد مرض أحد أفراد عائلة زوجته بسبب التلوث البيئي.
وفي هذا السياق العائلي، نذكر أن جاك أبٌ لـ3 أولاد من زوجته كاثي جانغ ينغ، وله أخ أكبر منه وأخت أصغر منه. ومن اهتماماته أنه استثمر في محمية طبيعية في الصين تبلغ مساحتها 27 ألف فدان. وبلغ عدد ساعات الطيران التي أمضاها في الجو 800 ساعة خلال العام 2016. وازدادت إلى 840 ساعة في العام 2017. ويتوقع أن يمضي أكثر من 1000 ساعة في الجو هذا العام للترويج لمزايا التجارة الحرة والعولمة.

جوائز وتكريم

يعتبر جاك ما أول شخصية من الصين تتصدّر غلاف مجلة فوربس» الأميركية. ولقد حصل على جوائز كثيرة، وجرى تكريمه في الكثير من المناسبات، كإضافته إلى قائمة «أكبر 10 شخصيات اقتصادية» للعام 2004 من قبل التلفزيون المركزي الصيني، واختيار المنتدى الاقتصادي العالمي إياه في العام 2005 كقائد عالمي شاب، واختيار مجلة «فورتشن» إياه ليكون من ضمن «أكبر 25 شخصية أعمال مؤثرة في آسيا» عن العام 2005، ووقوع مجلة «بيزنز ويك» عليه كـ«شخصية الأعمال» للعام 2007، واختياره من قبل «بارونز» ضمن قائمة «أفضل 30 رئيساً تنفيذياً في العالم»، وإدراج اسمه في مجلة «تايم» كواحد من أكثر 100 شخصية مؤثرة، وذلك بعد تجاوز مزاد «تاوباو» الإلكتروني في الصين انتشار مزاد «إي باي»، ثم أعادت المجلة اختياره ليكون في هذه القائمة مرة أخرى في العام 2014.
أيضاً اختارت مجلة «بيزنز ويك» جاك ما واحداً من «أكثر الناس قوة في الصين»، وفي العام 2005 اختارته مجلة «فوربس الصين» واحداً من «أكثر 10 رواد الأعمال احتراماً في الصين». كذلك حصل على جائزة «شخصية العام الاقتصادية» و«قيادي العقد» من التلفزيون المركزي الصيني، كما اختير في العام 2010 واحداً من أبطال آسيا في الأعمال الخيرية بسبب مساهماته الكثيرة في جهود إغاثة الأزمات والفقر.
وراهناً، جاك عضوا في مجلس إدارة مصرف «سوفت بانك» الياباني للاستثمار، وشركة «الإخوة هواييه» للإعلام، ويعمل قيّماً لبرنامج الطبيعة في الصين في العام 2009. ولقد انضم في العام 2020 إلى مجلس الإدارة العالمي للبرنامج، وأصبح رئيس مجلس إدارة البرنامج في العام 2013. ثم إنه حصل في العام نفسه على المرتبة 30 بين أقوى شخصيات العالم وفق تقييم «فوربس» السنوي، وحصل على «جائزة ريادي الأعمال للعام على المستوى الآسيوي» في 2013. وحقق المرتبة الثانية في قائمة «فورتشن» لأعظم 50 شخصية قيادية في العام 2017.
وبالنسبة للشهادات الأكاديمية الفخرية، منح جاك دكتوراه فخرية من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا في العام 2013، تلتها دكتوراه فخرية أخرى في العلوم والريادة التقنية من جامعة دي لا سال في الفلبين، ودكتوراه فخرية ثالثة في العلوم الاجتماعية بسبب مساهماته في قطاعي التقنية والمجتمع من جامعة هونغ كونغ، وأخيراً، دكتوراه فخرية من جامعة تل أبيب في فلسطين المحتلة.

دروس «المعلم» جاك

ختاماً، من قصة حياة جاك ما، وعمله، درس أول للأجيال الشابة فحواه أن أي شيء ممكن مع الإرادة، ذلك أنه بدأ من الصفر وأصبح مليارديراً، بغياب عائلة غنية من حوله تدعمه أو تعليم من أفضل الجامعات، أو حتى سيارة تنقله من مكان لآخر. وثمة درس ثان هو أنه يمكن بناء إمبراطورية في مرحلة الشباب إذ أن جاك انطلق في عالم النجاح عندما كان في الثلاثينات من عمره، وحصل على الكثير من الجوائز عندما كان في الأربعينات. وأما الدرس الثالث فهو أن وجود الموارد المسبقة ليس عنصراً أساسيا عندما يكون للمرء حلم كبير جداً ولديه الرغبة الأكيدة بتحقيقه... وطرق جميع الأبواب للبدء بتنفيذه.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.