هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

قراءة في تعاطي «واشنطن ترمب» مع واقع التحدّي التجاري العالمي الكبير

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟
TT

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

منذ تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وضع الصين نصب عينيه، كيف لا وهو الذي لم تخلُ حملة من حملاته الانتخابية من إثارته موضوع التبادل التجاري بين دولته والصين، الذي يرى فيه ظلماً جائراً للولايات المتحدة.
إلا أنه بعيد دخول ترمب المكتب البيضاوي، لاح للبعض وكأن حماسة الرئيس الجديد للتصدّي للشأن التجاري مع الصين قد فترت. ذلك أنه إبان زيارة الرئيس الصيني بعد ذلك بثلاثة أشهر بدا اللقاء ودياً، خاصة عند ظهور الرئيسين وقد علت شفتيهما ابتسامتان عريضتان، وتبودلت التصريحات الودية، وكانت المحصلة النهائية للقاء الرئاسي إعادة تقييم العلاقات الأميركية الصينية في مدة تزيد على ثلاثة أشهر بقليل.
في حينه ازداد الظن أن ترمب استغل قضية العجز التجاري مع الصين للترويج لحملته الانتخابية، دون نية فعلية للعمل على موازنة هذا العجز بما يتناسب مع مصلحة الاقتصاد الأميركي. ولكن لم تمض سنة واحدة على ذلك اللقاء حتى انفجر ترمب على القوى الاقتصادية العالمية بما اتضح أنه بوادر حرب اقتصادية، فزاد الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية من الحديد والألومنيوم والألواح الشمسية ومنتجات كثيرة أخرى، استهدف من خلالها الصين تحديداً، وإن لم يستثن دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية.
ومن ثم، يوماً تلو الآخر، أخذ الناس يشعرون أن العالم مقبل فعلاً على «حرب اقتصادية» يقودها الرئيس الأميركي... حرب اختفى فيها صوت التعقل ليعلو عليه صوت المصلحة. وكلما فرض الرئيس الأميركي رسوماً على منتجات يستهدف فيها قوة اقتصادية منافسة، ردّت هذه القوة برسوم انتقامية، ليردّ هو الآخر بزيادة هذه الرسوم، وتكرّر هذا الموقف بين الولايات المتحدة من جهة، والصين والاتحاد الأوروبي ودول أميركا الشمالية من جهة أخرى.
ومنذ بداية مارس (آذار) الماضي وحتى الآن، لم تزدد هذه الحرب إلا اشتعالاً، على الرغم من انعقاد «قمة الدول السبع» في يونيو (حزيران) الماضي. ذلك أن «القمة» لم تكن مثمرة لجهة إيجاد حلول فعلية للأزمة، ورغم توالي الاجتماعات الثنائية بين الدول للتفاوض، فإن الوفود عادت كل مرة من هذه الاجتماعات خالية الوفاض من الحلول لأزمة قد تغيّر الخريطة الاقتصادية في العالم.

يبدو العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين وكأنه السبب الأساسي في اندلاع الحرب الاقتصادية بين البلدين، وهذا السبب يبدو واضحا في جلّ تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كثيراً ما كرّر أن دولة مثل دولته لا تقبل بوجود هذا العجز الذي تعدّى 370 مليار دولار أميركي في العام الماضي. غير أن الأسباب لا تقف عند نقطة عجز الميزان التجاري وحدها. ذلك أن الحرب الاقتصادية، من وجهة نظر أميركية، تتمحور حول نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى، هي الدعم الحكومي الصيني للمصانع الصينية. إذ إن الكثير من المصانع الصينية تعود إلى ملكية حكومية، وبناءً عليه، فهي تتمتّع بدعم حكومي يقلّل تكلفة الإنتاج الإجمالية... وهو واقع يمنح التفوّق لمنتجات هذه المصانع مقابل مثيلاتها في الدول الأخرى. وقد تكون مصانع الحديد الصينية أكثر الأمثلة دقة على هذه الحالة، فالرئيس الأميركي طالما تذمّر من دعم الحكومة الصينية لهذه المصانع، ما جعل الحديد الصيني الأدنى ثمناً على المستوى العالمي. وفي ضوء غزارة الإنتاج الصيني ورخص ثمنه، بات من الصعب على بقية دول العالم منافسة الصين. وبالتالي، اضطرت بعض المناجم والمصانع في الولايات المتحدة للإغلاق لعجزها عن المنافسة. وحقاً، سبق للرئيس ترمب أن اتهم الصين أكثر من مرة بإغراق السوق بالحديد الرخيص الثمن بهدف السيطرة على الحصص السوقية العالمية، ويقاس على الحديد منتجات صينية أخرى.

منطق واشنطن للرسوم

في المقابل، ترى الولايات المتحدة بفرضها الرسوم الجمركية وغيرها، أنها تدعم منتجاتها الوطنية برفع أسعار المنتجات المستوردة. وهذا المنطق يبدو معقولاً إذا تعلق الأمر ببعض المنتجات، فالمستهلك قد يُحجِم عن شراء المنتج المستورد إذا ما كان المنتج المحلي أقل سعراً، وبالأخص، إذا تقارب مستوى الجودة. إلا أن بعض المنتجات لا تخضع لهذا المنطق، لا سيما المواد الخام والأساسية المستوردة من الصين، مثل الحديد والمكوّنات الداخلية للأجهزة الإلكترونية. هنا زيادة أسعار المواد تؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات النهائية التي يصدّر بعضها إلى الخارج ويباع بعضها الآخر في الولايات المتحدة.
ومن ثم، فإن في زيادة أسعار هذه المنتجات إلحاق ضرر أكيد بالمصانع الأميركية التي قد تنخفض مبيعاتها، وبالنتيجة ستلجأ إلى تسريح الموظفين لتقليل التكلفة التشغيلية. وعليه، سيصبح القرار الذي استهدف خلق وظائف جديدة في قطاع التعدين الأميركي من خلال زيادة الرسوم على الحديد الصيني قد أدى إلى عكس الغرض منه، إذ تسبب في فقدان وظائف في قطاعات صناعية أخرى، مثل صناعة السيارات.

نقل التقنية

المحور الثاني لهذه الحرب - بحسب وجهة النظر الأميركية - هو النقل القسري للتقنية. ذلك أن الولايات المتحدة تتهم الصين بـ«سرقة» التقنية و«توطينها» في الصين بشكل غير مشروع، وذلك من خلال الاستحواذ على الشركات التقنية الأميركية، وتسريب هذه التقنية بعد ذلك إلى الصين.
ويرى الأميركيون أن الصين استغلت الأزمة المالية العالمية خلال العقد الماضي لتشتري شركات أميركية، حتى إنه بين عامي 2005 و2016 وصل عدد الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة وحدها إلى 202 استثمار. ومع أن عدد الاستثمارات التقنية منها لم يتعدّ 16 استثماراً، فإن قيمتها زادت على 21 مليار دولار. بل، وحتى مع كون هذه الاستثمارات قليلة نسبياً، سواءً من ناحية العدد أو القيمة، فإن الأميركيين يدركون أن المستقبل لمَن يملك التقنية. وبالتالي، فهم يتخوفون من أن تتفوق الصين على بلدهم بمجهودات الشركات والعقول الأميركية. ولذا أصدر البيت الأبيض قرارا منع فيه الشركات الصينية من الاستحواذ على شركات تقنية أميركية في السنوات السبع المقبلة.
وهنا، لا بد من القول، أن ما لا تعترف به الإدارة الأميركية، هو الدور الصيني في تعافي الولايات المتحدة من الأزمة المالية العالمية المشار إليها. إذ أسهمت الاستثمارات الصينية في القطاع العقاري خلال العقد المنصرم إسهاماً كبيراً في استقرار أسعار العقارات الأميركية، كما كان لضخّ الأموال الصينية في قطاع التقنية الأميركي دور هو الآخر في تحفيز قطاع تشتد فيه المنافسة على مصادر التمويل. مع هذا، الولايات المتحدة ليست وحدها مَن يتهم الصين بـ«سرقة حقوق الملكية الفكرية»، ذلك أن اليابان وبعض دول الاتحاد الأوروبي أيضا توجه إلى الصين التهمة ذاتها، مما قد يبرّر القرارات الأميركية إلى حد ما.

وجهة النظر الصينية

حتى الآن، تعاملت الصين مع ما يمكن وصف بـ«الحرب الاقتصادية» بشكل حذر، ولم تبادر بأي إجراء فيها، بل اكتفت بردات فعل مماثلة لتلكم الأميركية. والسبب أن الصين لم تحسن النية في غاية الولايات المتحدة من الحرب الاقتصادية منذ أن تولى ترمب الحكم. إذ الصين ترى أن الولايات المتحدة تطمح لتحجيمها اقتصاديا، تماماً، كما فعلت في الماضي مع اليابان ومع الاتحاد السوفياتي السابق. ومن ثم، تخشى الصين أن تنجح أميركا كما نجحت من قبل، وعلى الرغم من أن الصين متمرسة في المفاوضات والمواجهات الاقتصادية، فهي الآن تواجه خصماً عنيفاً ذا مطالب مستحيلة التنفيذ.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي يركز إعلامياً على مقدار العجز الاقتصادي ومعادلة الميزان التجاري، فإن مطالبه تحمل في طياتها تغييرات جذرية للصين. فالصين دولة شيوعية، والتغييرات التي يطالب بها ترمب تعني أن تتخلى الدولة عن مصانعها الحكومية، وأن تغير سياساتها الصناعية، بل وأن تغير سياساتها المالية برفع عملتها «اليوان» التي طالما تذمّر منها رؤساء الولايات المتحدة السابقون.
هذه التغيرات، بطبيعة الحال، شبه مستحيلة على الحزب الشيوعي الصيني الحاكم لأنها تمسّ قناعات الحزب ومعتقداته الجوهرية. وحتى بعض الأوروبيين واليابانيين المختلفين مع سياسات الصين التجارية، يعتبرون أن مطالب الرئيس ترمب الحالية تفتقر إلى الواقعية.
الحكومة الصينية تبدو مقتنعة أن الرئيس ترمب لا يهدف في الحقيقة إلى الوصول إلى اتفاق تجاري أو إلى موازنة العجز التجاري، بل يسعى إلى فرض دائم للرسوم الجمركية على السلع الصينية بهدف تغيير خريطة سلسلة التوريد في العالم. وحقاً، يندر أن يُصنع جهاز إلكتروني في الوقت الحالي من دون اللجوء إلى مكوّنات داخلية صينية مهما كان بلد منشأ هذا الجهاز، وقد لا تخلو أي مركبة من قطع صينية فيها، وكذلك الحال، في غالبية الصناعات الأخرى، من الملابس وحتى مصانع الأغذية. ولذلك فإن الصين تحمل أهمية استراتيجية عالمية في سلاسل التوريد لغالبية الصناعات في العالم. وهذا ما لا ترضاه الولايات المتحدة التي ترى أنها «ملكة العالم الجديد» وصانعة القرار الأولى. وعليه فإن المسؤولين الصينيين يكادون يجزمون أن ما يرمي إليه ترمب هو تغيير موازين القوى الاقتصادية في العالم، وبالذات، سحب البساط من تحت الصينيين، من منطلق أن بلاده لا تريد أن يكون لها أي غريم أو منافس اقتصادي في العالم. وكما لم ترض واشنطن في الماضي أن يكون الاتحاد السوفياتي غريماً عسكرياً منافساً لها، فهي تسعى حاليا إلى احتواء الصين بشكل استراتيجي من خلال الحرب الاقتصادية. وهذا، خاصة، بعد ظهور طموحات بكين المستمرة من خلال تمدّد علاقات الصين التجارية مع دول العالم، وسعيها الحثيث لإكمال «طريق الحرير الجديد» الذي يسهل على السلع الصينية الوصول لأوروبا بأكملها على طريق البر. ولعل ما يزيد الصينيين اقتناعاً بهذه النظرية، هو الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد الأميركي جرّاء هذه الحرب، والذي على الرغم من فداحته لا يظهر أنه يمنع الولايات المتحدة من المضي قدماً في خوض هذه الحرب، وكأنها لا تمانع في دفع هذا الثمن في العصر الحالي، كي لا تغدو الصين منافساً اقتصادياً يستحيل التصدي له في المستقبل.

القوى الاقتصادية والمخاوف الصينية

اتفاق القوى الاقتصادية العالمية الثلاث على الصين هو هاجس سلطات بكين الأول في الوقت الراهن. فالولايات المتحدة تقود هذه الحرب الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي - وإن عانى من تبعات هذه الحرب على المستوى الأوروبي - يرى بدوره أن على الصين تغيير سياساتها التجارية التي تلحِق الضرر بباقي دول العالم، ولا سيما، بعدما فرض الاتحاد الأوروبي مسبقاً رسوما إضافية على الحديد الصيني. أما اليابان، «ثالث» القوى الاقتصادية الثلاث، فقد عانت كثيرا من الصين على المستويين الثقافي والاقتصادي، وقد تجد الآن في هذا التحالف فرصة لفرض مطالبها الاقتصادية على «جارتها الآسيوية العملاقة.
لقد شعرت الصين بالارتياح سابقاً، بعد أن هاجم ترمب قوى اقتصادية عدة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أميركا الشمالية الأخرى (كندا والمكسيك)، إلا أن واشنطن بدأت مفاوضاتها مع هذه الأطراف، سواءً مع الاتحاد الأوروبي، أو من خلال اتفاقية «نافتا» لدول أميركا الشمالية مع المكسيكيين والكنديين. وهذا ما جعل الصين تتودّد لـ«جارتها» الآسيوية اليابان، ما دفع مسؤولاً يابانياً للقول إن الصين «اكتسبت بعض الدبلوماسية بعد موقف الولايات المتحدة معها».
هذا الالتفاف الاقتصادي حول أميركا قد يقض مضاجع المسؤولين الصينيين في الوقت الحالي، ولكنه أقرب إلى ألا يحدث منه إلى الحدوث. فبالنسبة لأميركا الشمالية، لم تتوصل سوى المكسيك إلى حل في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة بينما تعثرت حتى اللحظة المفاوضات مع كندا. والاتحاد الأوروبي ما زال في الدوامة نفسها، بل إن دول الاتحاد الأوروبي تبدو جاهزة هي الأخرى للرد على خطوات واشنطن برد انتقامي اقتصادي مماثل على الرسوم الأميركية. والواقع، أنه لم يستغرق الاتحاد الأوروبي أكثر من يوم واحد لإصدار قائمة تشتمل على 100 منتج أميركي معرّض لرسوم جمركية إضافية في رد عنيف على فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الحديد والألمنيوم من دول الاتحاد. وحين صرح الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة قد تزيد التعرفة الجمركية على السيارات الأوروبية، جاء الرد الأوروبي حازماً وسريعاً مؤداه أن الاتحاد الأوروبي سيرد على هذه الرسوم - إن فُرضت - بالمثل.
ولكن الرئيس الأميركي - إن وصف بشيء فيه - فهو رجل لا يمكن التنبؤ بأفعاله. ولو قيل لشخص ما قبل سنوات قليلة إن رئيس أقوى دولة في العالم سيلقي هذه التصريحات النارية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لعد ذلك ضرباً من الخيال. فعديد المواقف من الرئيس الأميركي تدل على أن مواقفه المستقبلية غير مضمونة بأي حال، فكيف إذا كان الحال لدولة وضعها هدفاً من أهداف فترته الرئاسية... مثل الصين.

تبِعات الحرب الاقتصادية

الحرب الاقتصادية ليست محض خيال غير مرئي. ونتائج هذه الحرب ملموسة للمستهلك، تماماً، كما هي مؤثرة على اقتصادات الدول. ثم إن دائرة المتأثرين منها لا ولن تقتصر على الصينيين والأميركيين وحدهم، بل تتسع لتشمل غالبية دول العالم، ولعل أقرب مثال على ذلك تغريدة الرئيس ترمب قبيل مؤتمر شركة آبل الأميركية التي جاء فيها قوله إن أسعار هواتف «الآيفون» قد ترتفع هذه السنة بعد فرض الضرائب على المنتجات الصينية. وعلى الرغم من أن ترمب أراد بهذه التغريدة الإعلان عن سياسته بإعفاء بعض المصانع الأميركية من الضرائب لتعويضها عن الرسوم المرتفعة، فإن تغريدته لا تخلو من صحة في مجملها. والحقيقة، أن غالبية مستهلكي المنتجات الأميركية سيتضرّرون حول العالم، حيث حجم الصادرات الأميركية للعالم يزيد على 2.3 تريليون دولار، وتشكل الواردات الصينية مواد أساسية لنسبة لا بأس فيها. وبالتالي، فزيادة أسعار هذه الصادرات نتيجة حتمية، وهي زيادة سيتحملها المستهلك النهائي، تماماً كما هو الحال مع «الآيفون». لذا، من المتوقع أن يتأثر المستهلكان الأميركي والصيني بشكل مباشر، ولكن التأثير غير المباشر على بقية المستهلكين حول العالم سيكون ملحوظاً أيضاً وغير مستغرب.
على المستوى الدولي، هذه الحرب قد تغير خريطة العالم الاقتصادية، إذ إن وضع اقتصاد الصين مؤثر على غالبية دول العالم، سواءً كانت الدول التي تربطها علاقات تبادل تجاري، أو الأخرى التي تربطها بالصين استثمارات طويلة المدى. واستهداف الولايات المتحدة للاقتصاد الصيني قد لا ينتهي بكساد اقتصادي صيني فحسب، بل قد يمتد إلى دول كثيرة مجاورة بتأثير أشبه ما يوصف بـ«تأثير الدومينو». فدول مثل كوريا الجنوبية والهند وفيتنام تعتمد بشكل مكثف على الحركة التجارية مع الصين. وعليه، فتأثر الاقتصاد الصيني يعني تأثر هذه الدول معها في حرب قد تمس بشكل مباشر ربع سكان العالم، وتمس البقية الباقية بشكل غير مباشر.
كلمة أخيرة. لعل الأمل مُعلق الآن على «قمة العشرين» المقرّر انعقادها في الأرجنتين، عند نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، للعمل على حل هذه الحرب قبل أن تخرج عن السيطرة.

* باحث سعودي متخصص
في الإدارة المالية والاقتصاد

 



قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
TT

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

جاء الإعلان عندما أبلغ وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري وسائل الإعلام أن «الهند والصين توصلتا إلى اتفاق على طول خط السيطرة الفعلية»، ولم يلبث أن أكد لين جيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إبرام الاتفاق.

يُذكر أن المواجهة على امتداد «خط السيطرة الفعلية» (الحدودي)، بدأت بمناوشات بين القوات الهندية والصينية على ضفاف بحيرة بانغونغ خلال مايو (أيار) 2020. ثم توترت العلاقات بين البلدين بعد اندلاع اشتباكات مميتة في يونيو (حزيران) 2020 – تضمنت استخدام الصخور والقضبان الحديدية وتبادل اللكمات - حول نهر غالوان، الواقع على ارتفاع كبير، وبانغونغ تسو في إقليم لاداخ؛ ما أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً، إلى جانب عدد غير معروف من القوات الصينية، قدّرته وسائل إعلام روسية بما يتجاوز 40. سقوط أول الضحايا على «خط السيطرة الفعلية» منذ 45 سنة دفع العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوى لها منذ حرب الحدود عام 1962. وأدّت التدابير المضادة القوية للهند، والوجود العسكري الكثيف لها، إلى مواجهة حدودية استمرت لأكثر من أربع سنوات، مع تمركز أكثر من 50 ألف جندي على الجانبين. ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن مجمل العلاقات مع الصين «يتعذر تطبيعها من دون إقرار حالة من السلام والهدوء على الحدود» بينهما.

«خط السيطرة الفعلية»... نقطة اشتعال تاريخية

يكمن السبب الجذري للصراع بين الهند والصين، في حدودهما المشتركة الممتدة لمسافة 3440 كيلومتراً، والتي يشار إليها عادةً باسم «خط السيطرة الفعلية». ولطالما كانت هذه الحدود الجبلية غير المحدّدة على نحو واضح، ولا سيما أنها تمر عبر تضاريس وعرة، مصدراً دائماً للتوتر بين القوتين النوويتين. وبعكس الحدود الدولية التقليدية، يشكل «خط السيطرة الفعلية» خط الحدود بين الصين والهند فقط «بحكم الأمر الواقع»؟ ذلك أن ثمة تبايناً كبيراً بين البلدين حيال تصوره وتعريفه.

تاريخياً، لدى كل من الهند والصين وجهة نظر خاصة مختلفة بشأن ترسيم خط السيطرة الفعلية؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال نزاعات متكرّرة حول السيطرة على النقاط الاستراتيجية على طول الحدود. وبناءً عليه؛ ما دفع إذن باتجاه هذا التطور الإيجابي في العلاقات؟

في هذا الصدد، أعرب الصحافي الهندي جواراف ساوانت، الذي يزور روسيا حالياً لتغطية أخبار مجموعة «البريكس»، عن اعتقاده بأن بين العوامل وراء ذوبان الثلوج بين نيودلهي وبكين «انتخابات الشهر المقبل في الولايات المتحدة». وشرح أن «السباق الانتخابي (الأميركي) متقارب، وثمة احتمال واضح لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض». وأردف أن تراجع مستوى التوتر بالعلاقات بين البلدين سيخدم كلاً منهما. ومن وجهة نظر الصين، فإن قيادة هندية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة منفصلة عن المصالح الغربية أفضل بالتأكيد لبكين.

أهمية قمة «البريكس»

والآن، لماذا تشكّل قمة «البريكس» السادسة عشرة لحظة مهمة، في الدبلوماسية العالمية؟

في الواقع، للمرة الأولى منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا اجتمع عدد كبير من قادة العالم في روسيا، وهو ما فُسّر بأنه فشل للمحاولات الغربية في عزل موسكو، وهذا أمر قد يؤثر كذلك على توازن القوى العالمي. ثم إنه يدور موضوع قمة هذا العام حول «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

معلومٌ أن مجموعة «البريكس» انطلقت، بداية الأمر، من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا. إلا أنها سرعان ما برزت منصةً رئيسية للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي عام 2023، انضم أعضاء جدد للمجموعة، بينهم المملكة العربية السعودية، وإيران، ومصر والإمارات العربية المتحدة؛ ما جعلها أكثر شمولاً.

واليوم، مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 60 تريليون دولار، تمثل دول «البريكس» 37.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة بذلك «مجموعة الدول السبع». ومع مواصلة «البريكس» توسعها، كبر دورها وازداد وضوحاً على صعيد إعادة تشكيل ديناميكيات القوة العالمية. وهنا أضاف الصحافي الهندي ساوانت أن «هذا النوع من الود الذي يتأمله الهنود والروس والصينيون على الأرض - إلى جانب آخرين داخل (البريكس) - من شأنه أن يثير قلق الغرب»، مشيراً إلى أن مودي وشي سيعقدان لقاءً ثنائياً على هامش القمة.

ولجهة مسألة «العزلة»، تكشف قمة «البريكس» عن أن روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة، لدى توجه قادة من مختلف الدول إلى قازان للمشاركة في مناقشات يمكن أن تشكل مستقبل الحكم العالمي. واللافت، طبعاً، أن القمة لم تجتذب حلفاء روسيا المقربين فحسب، بل اجتذبت أيضاً عدداً من الدول التي تتطلع إلى تعزيز العلاقات مع موسكو.

قمة «البريكس» المنعقدة لثلاثة أيام، وسط إجراءات أمنية مشددة، تعد أكبر حدث دولي تستضيفه روسيا منذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وفي حين يسعى بوتين، صراحةً، إلى بناء تحالف من خلال «البريكس» قادر على تحدّي «هيمنة» الغرب، صرّح رئيس الوزراء الهندي مودي أثناء زيارته روسيا بأن زيارتيه إلى روسيا في الأشهر الثلاثة الماضية «تعكسان التنسيق الوثيق والصداقة العميقة بين البلدين». وأضاف: «لقد عزّزت قمتنا السنوية في موسكو في يوليو (تموز)، تعاوننا في كل المجالات... وفي غضون 15 سنة، بنت مجموعة (البريكس) هويتها الخاصة. واليوم، تسعى الكثير من دول العالم للانضمام إليها».

وحول الموضوع الأوكراني، من وجهة نظر هندية، يرى المحلل السياسي سوشانت سارين أنه «على الصعيد الدبلوماسي، سار مودي على حبل مشدود منذ بدء الصراع في أوكرانيا... إذ تعهّدت نيودلهي بتقديم الدعم الإنساني لكييف، لكن مع تجنب الإدانة الصريحة للهجوم الروسي بالوقت ذاته. ثم في يوليو، زار مودي موسكو، أعقب ذلك بزيارة إلى كييف خلال أغسطس (آب)، داعياً إلى عقد مباحثات لإنهاء الصراع. وأثمرت جهوده بالفعل إلى دعوات إلى أن تضطلع الهند بدور وسيط بين الجانبين».

كذلك، مع إعراب مودي عن دعم الهند «حل عاجلاً» للوضع في أوكرانيا، ومعه مختلف جهود إرساء السلام والاستقرار، خاطب الزعيم الهندي نظيره الروسي قائلاً في حديث بينهما: «كنا على اتصال دائم بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونعتقد أن النزاعات يجب أن تُحل سلمياً فقط. ونحن ندعم تماماً الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار سريعاً... وكل جهودنا تعطي الأولوية للجوانب الإنسانية».

الرئيس الروسي يلقي كلمته في القمة (رويترز)

من جهتها، أضافت مصادر بوزارة الشؤون الخارجية الهندية، على صلة بمكتب «البريكس» أن «المناقشات حول إقرار عملة للـ(بريكس)، لتحدي هيمنة الدولار الأميركي تكتسب زخماً. كما تقدّم القمة منصّة للدول تعينها على توحيد صفوفها ضد العقوبات التعسفية التي يفرضها الغرب. ومع توسع (البريكس) وتطورها، بات من الواضح أن هذه المجموعة تستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نظام عالمي جديد، وتحدي الهيمنة الغربية التقليدية. وسيكون دور الهند في (البريكس)، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، أساسياً في تحديد كيفية تطور هذا التوازن الجديد للقوى».

لقاء محتمل بين مودي وشي

وعودة إلى موضوع العلاقات الهندية - الصينية، ذكّر الصحافي مانيش جها، بأنه «لم يعقد الطرفان مباحثات رسمية ثنائية منذ عام 2019؛ ولذا فإن أي تقارب اليوم سيكون تطوّراً محموداً... وسيحظى بمتابعة أميركية من كثب». وأضاف جها: «الواضح أن واشنطن استغلت فتور العلاقات بين مودي وشي للتقرّب من نيودلهي، وتعزيز التجمّعات الإقليمية مثل مجموعة (الكواد «الرباعية»)، التي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، مع العمل على الضغط على الهند للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا؛ الأمر الذي رفضته نيودلهي حتى الآن». ثم تابع: «لا يمكن تجاهل دور روسيا بصفتها وسيطاً في هذه العملية، ذلك أنها تظل شريكاً استراتيجياً رئيسياً لكل من الهند والصين. ورغم التحديات التي تفرضها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حافظت الهند على علاقة متوازنة مع روسيا؛ ما يضمن بقاء مكانتها على الساحة العالمية قوية».

في الحقيقة، هذا الوضع مربح لكل من الهند والصين. فبالنسبة للصين، التي تمرّ بفترة ركود اقتصادي، سيكون استئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي مع الهند بمثابة مكافأة. وبسبب حروب التعرفات الجمركية مع الولايات المتحدة - التي بدأت مع إدارة دونالد ترمب واستمرت خلال رئاسة جو بايدن - بدت بكين حريصة على استئناف العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، بينما يواصل القادة الميدانيون العسكريون والدبلوماسيون مناقشة وحل السقطات التي وقعت عام 2020، وهذا رغم إصرار نيودلهي على عدم استئناف العلاقات الطبيعية مع بكين إلى حين تسوية القضايا العالقة منذ وقوع المواجهات العسكرية ذلك العام.

في هذه الأثناء، تراقب واشنطن التطوّرات. وفعلاً صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأن واشنطن تتابع هذه التطورات (في العلاقات الهندية – الصينية عن قرب». لكن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت نيودلهي قد أبلغت واشنطن - الشريك الجيوسياسي الرئيسي – بالاتفاق.

في هذا السياق، نشير إلى أنه منذ مواجهات عام 2020، عززت نيودلهي علاقاتها مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره الدولتان «تحركات بكين العدوانية ضد جيرانها». وجرى تسليط الضوء على هذه العلاقة المتعمقة من خلال توقيع «اتفاقيات التعاون الدفاعي»، بما في ذلك تقارير عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ومع ذلك، ظهرت مخاوف في واشنطن بشأن التقارب المتزايد بين نيودلهي وموسكو، وخصوصاً في خضم الضغوط الغربية لعزل الرئيس بوتين دولياً، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.

من جانب آخر، من وجهة نظر الصين، فإن القضاء على أسباب الانزعاج من الهند قد يجعل الفلبين نقطة الاشتعال الرئيسية بسبب مطالبات إقليمية متضاربة. (إلى جانب تايوان، التي تدّعي الصين أحقية السيادة عليها). أما الهند فترى أن تحقيق انفراج في العلاقات مع الصين، أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يتيح لها مساحة أكبر للمناورة التفاوضية مع شركائها الغربيين، خصوصاً واشنطن، في أعقاب التوتر الدبلوماسي مع كندا.