التقاليد {الأكسفوردية} وإحياء تراث اللاتينية

التقاليد {الأكسفوردية} وإحياء تراث اللاتينية
TT

التقاليد {الأكسفوردية} وإحياء تراث اللاتينية

التقاليد {الأكسفوردية} وإحياء تراث اللاتينية

شاء القدر أن أشارك في احتفالية تخريج دفعات من جامعة أكسفورد الشهيرة، فإذا بي أفاجأ برئيس الجامعة في كلمته الافتتاحية بالإنجليزية يشير إلى أن الاحتفالية ستدار باللغة اللاتينية، حفاظاً على تقاليد أقدم جامعة بريطانية، التي يقارب وجودها ألفية إلا قرناً من الزمان. وعلى الفور، تذكرت آلام البسطاء الأوروبيين، عندما كانوا يشاركون في المناسبات الكنسية التي تدار باللاتينية وهم لا يفهمونها، وذلك حتى القرون الوسطى، تحت ستار الإبقاء على التقاليد الكنسية، بينما كان السبب الأساسي هو إغلاق باب التطوير الديني لمن هم خارج الدائرة الإيكليريوسية... إنه بالفعل شعور موحش، ولكن معرفتي الضئيلة باللاتينية جعلتني أفهم بصعوبة مسيرة الاحتفالية دون مضمونها، فأخذت أتذكر المسيرة الثرية لهذه اللغة، ودورها المحوري في تطور الفكر الغربي على النحو التالي:
أولاً: لا خلاف على أن اللغة اللاتينية هي أساس الحضارة الغربية، ولكنها ليست جذرها اللغوي الأوحد، إذا ما أخذنا في الحسبان الدور المؤسس والمحوري للغة اليونانية القديمة، التي خفتت قوتها مع زوال إمبراطورية الإسكندر الأكبر لصالح الدولة الرومانية الصاعدة بلغتها اللاتينية، لا سيما بعد حركة الترجمة الواسعة لكنوز الفكر والعلم اليوناني إلى اللاتينية. وكما يسجل التاريخ دائماً، فلغة الإمبراطورية المنتصرة سياسياً وعسكرياً كثيراً ما تصبح لغة الفكر والعلوم والثقافة وأدواتها، غير أن هذا لم يؤدِ إلى اندثار اللغة اليونانية، لكنها أصبحت الشريك الأضعف للغة اللاتينية لدى نخبة المفكرين والعلماء فقط.
ثانياً: ارتبطت عوامل تثبيت اللغة اللاتينية بالدور المحوري للكنيسة الكاثوليكية في روما، باعتبارها اللغة الرسمية والعامية، لها وللشعب على حد سواء، فحتى مع انهيار الدولة الرومانية الغربية في 476م، صارت الكنيسة في روما ليست فقط المركز الروحي في غرب أوروبا، بل المركز السياسي الصلب، بسبب حالة الفراغ السياسي التي ارتبطت بهذه المنطقة، والتي لا مجال لذكرها هنا، وهو ما جعلها تتربع على عرش الدين والفكر، ومن تحتهما الثقافة والعلوم، وقد أدى ذلك لترسيخ أهمية اللاتينية تدريجياً، فصارت أيضاً لغة النخبة اللاهوتية والعلمية والعامية على حد سواء.
ثالثاً: لا مجال لإخفاء معضلة تاريخية هنا، وهي أن الإمبراطورية البيزنطية، كدولة عظمى آنذاك بلغتها اليونانية، لم تستطع منافسة تسيد اللغة اللاتينية، رغم سعيها الحثيث لفرض هويتها الثقافية على أوروبا، ويرجع السبب في ذلك إلى الدور المحوري للكنيسة الكاثوليكية، وتسيدها للمشهد في الغرب بشكل شبه تام، مقابل كنيسة القسطنطينية التي خضعت للسلطة المركزية للإمبراطورية فضعفت، ولم يتأثر دور كنيسة روما ولغتها اللاتينية وقيمتها الروحية بظهور السلطة السياسية الجديدة على أيدي «كارلوس ماجنوس أو شارلمان»، خصوصاً بعد معركة «بلاط الشهداء»، بل حدث العكس، فثبتت الكاثوليكية ومعها علت اللغة اللاتينية، وعندما حدث ما يطلق عليه «الانشطار الكبير» الذي فرق بين كنيسة روما الكاثوليكية وكنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية في 1054م، لصالح جبروت كنيسة روما، فإن مركز الثقل الفكري والحضاري كان قد انتقل بالفعل للغرب تحت رعاية الكنيسة.
رابعاً: ساهم في تثبيت اللاتينية امتلاك كنيسة روما للقاعدة الحقيقية للعلم، من خلال عشرات الآلاف من الأديرة التي كانت تحت سيطرتها، والتي لعبت الدور الأكبر كمؤسسات للتعليم، لعدم وجود قاعدة تعليمية أخرى خلال هذه المرحلة الزمنية، مما جعل اللاتينية المكون الفكري الأساسي لأي علم أو ثقافة، حتى في المناطق الشاسعة أو الدويلات التي لا تتحدث اللاتينية، وحتى مع ظهور التيارات الفكرية والثقافية التي لم ترحب بها الكنيسة، إلا أن هذا لم يزد اللغة اللاتينية إلا ترسيخاً لأنها كانت لغة وأداة صراع الأفكار.
خامساً: استمرت اللاتينية مع مرور الزمن وسيلة وأساس الفكر والعلم، وحتى مع خروج أوروبا من عباءة الحلم الأممي، برعاية السلطة الروحية للكنيسة، فإن اللغة اللاتينية احتفظت برونقها ومركزيتها، رغم قوة انتشار اللغات المحلية، ولم تتغير هذه الظاهرة إلا بعد ترسيخ مفهوم الروح القومية، وما تلاها من «شوفينية» اللغات المحلية، التي بدأت تُخرج لغة العلم وتحصيله تدريجياً من اللاتينية إلى اللغات المحلية، في مرحلة ما بعد القرون الوسطي. ومع ذلك، لم يستغنِ المفكرون والعلماء عنها لكونها الرابط اللغوي بالتراث الفكري والإنساني بصفة عامة، والغربي بصفة خاصة، فكانت اللاتينية تُدرس إلى جانب المناهج الأخرى حتى حقب مضت.
أما اليوم، فقد أصبحت اللغة اللاتينية غير متداولة إلا في الأوساط الفكرية المحدودة للغاية، ولكنها تظل تمثل قيمة فكرية ووجدانية، بل أغامر وأقول أيضاً رباطاً بالهوية الغربية، فنراها قد أصبحت رمزاً للفكر والعلم والثقافة، فنجدها على رموز الجامعات ومعاهد العلم العريقة، لتؤكد من خلالها انتماءها للحضارة الغربية، أو اتصالها بالهوية العلمية والفكرية التقليدية.


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟