لازار... اللغوي الفرنسي العاشق للشعر الفارسي

رحل في باريس عن 98 عاماً

لازار... اللغوي الفرنسي العاشق للشعر الفارسي
TT

لازار... اللغوي الفرنسي العاشق للشعر الفارسي

لازار... اللغوي الفرنسي العاشق للشعر الفارسي

كانت تروق لغيلبر لازار – عالم اللغويات الفرنسي الراحل – مقولة يرددها: «لكل رجل ثلاثة منازل، أحدهما القرية أو المدينة التي تشهد ميلاده، والثاني هو الموئل الذي يبلغ فيه مصيره، أما المنزل الأخير والأصدق فيهم فهو الشعر».
وكان لازار، الذي وافته المنية قبل يومين عن عمر يناهز 98 عاما، باريسيا بالميلاد، وفرنسيا بالمواطنة، بينما احتل الشعر الفارسي المنزل الثالث في حياته، وكانت أولى رحلاته إليه عبر ترجمة دقيقة إلى حد كبير لرباعيات الشاعر الفارسي الكبير عمر الخيام.
في سنين ما بعد الحرب الكبرى كان لازار يبحث عن مستقبل مفعم بالإثارة والتشويق، ولم يكن يدرك أنه سوف يعثر عليه لاحقا فيما سماه «الماضي الفارسي». وفي ذلك الوقت، كانت المنح الدراسية الأوروبية المعنية بدراسات اللغويات والآداب منقسمة إلى مجالين رئيسيين: الدراسات الفلهيلينية (أو الولع بالماضي الإغريقي العتيق)، والدراسات الفارسيفيلية (أو الولع بالماضي الفارسي العتيق). وتخير لازار الانحياز للمعسكر الفارسي، وهي حالة التعاطف والشغف التي سرعان ما تعززت بعدد من الصداقات الشخصية التي عقدها الشاعر الفرنسي مع بعض الشخصيات الإيرانية ومن بينهم صادق هدايت، الذي يعد من أبرز مؤسسي وواضعي أصول الرواية الفارسية الحديثة، والذي التقاه لازار في منفاه الاختياري بالعاصمة الفرنسية باريس. ومن جملة أصدقائه الإيرانيين الآخرين نجد العالم شاهد نورائي، وفريدون هويدا، الذي تولى، لاحقاً، منصبا دبلوماسيا رفيعا لدى حكومة الشاه.
وبحلول خمسينات القرن العشرين، تبوأت الدراسات الفارسيفيلية مكانا بارزا واستجمعت قوة كبيرة ضمن الأوساط الأدبية والأكاديمية الفرنسية. وكان هناك عالم الآثار روسي الأصل رومان غيرشمان، الذي كرس حياته لدراسة التاريخ الإيراني ما قبل الإسلام عبر عدد من المشروعات البحثية الميدانية. وكان هناك أيضا العالم اللغوي سوري المولد إميل (والمولود باسم عزرا) بن فنيست، الذي يعد من أكبر الخبراء في عائلة اللغات الهندية الإيرانية بين أبناء جيله. ونجد أيضا تشارلز هنري دي فوشكور، الذي لعب دورا حاسما في صياغة ما أصبح لاحقا «علم اللغويات الحديث» مع التركيز الكبير على عائلة اللغات الهندية الأوروبية.
وكانت تجمع أنصار الدراسات الفارسيفيلية الفرنسيين حالة من المنافسة الشديدة مع أقرانهم البريطانيين الذين انتظموا أكاديميا ضمن أروقة كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن. وكان هناك، برغم ذلك، فارق مهم وكبير بين الجماعتين. فقد كان البريطانيون يرون إيران، وكل ما هو منسوب إلى الفارسية، بأنه من بقايا الماضي السحيق، ولا يعدو كونه حفنة من الآثار المهيبة منبتة الصلة بالواقع الحديث. وكان الفرنسيون، من جهة أخرى، قد عدوا العلوم الإيرانية من المجالات العلمية الحية التي تتمتع بقدر فائض من الحيوية يربط الماضي بالحاضر ويصلهما معا بالمستقبل. وكانت تلك القناعة الراسخة هي التي حالت دون أن يكبح لازار جماح نفسه وتطلعاته عن ترجمة الشعراء الفرس القدامى، وعلى رأسهم يأتي أبو جعفر الرودكي وعمر الخيام. كما كرس لازار جهوده أيضا لترجمة الآداب الفارسية الحديثة، ومن أبرز أعماله في ذلك ترجمة روايتين للقصاص فريدون هويدا، كانت الأولى ساخرة تحمل عنوان «الحاج أقا»، والثانية سريالية تحت مسمى «ثلاث قطرات من الدماء».
يتألف الرافد الإيراني من عائلة اللغات الهندية الأوروبية من 18 لغة مختلفة، حكم الزمان على بعضها بالأفول والانقراض، مثل اللغة البارثية أو الفرثية، واللغة التاتية التي تلاشت من الوجود. وقد كُتبت النجاة للغات أخرى مثل اللغة الصغدية التي لا تزال منطوقة في بعض جبال أواسط آسيا النائية وفي إقليم سنجان (شينغيانغ) الصيني حاليا. وهناك لغات أخرى، كمثل اللغة الفارسية الحديثة، واللغة الكردية ذات اللهجات الثلاث مع فروقات لغوية طفيفة، واللغة البشتونية، والبلوشية، والأوسيتية، والتاليشية، والتي نجت جميعها من الانقراض اللغوي، بل وشهد بعضها قدرا معقولا من الازدهار بما يجاوز ما توقعه المرء قبل قرن من الزمان.
وكان لازار يعيش موطن هذه اللغات كلها تقريبا عبر ما يقرضه أو يترجمه أو يطلع عليه من آداب وأشعار. وكان جل اهتمامه منصبا على محاولة سبر أغوار الماضي والدور الذي يمكن أن يلعبه في حاضر الحياة. وكانت تلك الهمة والروح العالية هي ما مكنته من الاضطلاع بالمهمة البطولية الكبرى في دراسة الأصول الشعرية في اللغة البارثية التي انقرضت تماما وانمحى كل أصل لها قبل 1500 عام تقريبا. ويمكن للمرء تصور المفاجآت المذهلة التي اعترت بعض الشعراء الإيرانيين عندما خرج عليهم غيلبر لازار بالأصول الشعرية البارثية التي أثرت بطريقة من الطرق على مذاق الشعر العربي والشعر الفارسي لحقبة ما بعد الإسلام.
وبصفته أستاذا للدراسات الإيرانية في جامعة السوربون الفرنسية المرموقة، عمل لازار عبر ما يربو على عقدين من الزمان، على المساعدة في تدريب جيلين من علماء الدراسات الإيرانية من كافة أرجاء المعمورة. واعتبارا من ستينات القرن الماضي فصاعدا، جذبت محاضراته أيضا الكثير من طلبة العلم من إيران نفسها، وأفغانستان، وجمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية، والتي كانت اللغات ذات الأصول الإيرانية حاضرة فيها بقوة.
وأمضى لازار، الذي لم تكن تهدأ غائلته العلمية بالمحاضرات المغلقة ولا الأوراق البحثية المنمقة، سنوات طويلة في صياغة القاموس الفرنسي الفارسي الثنائي والذي لا يزال يُعد مرجعا أصيلا للكثيرين من اللغويين الذين يعتبرونه من أكبر المساهمات في ذلك المجال. ومن بين مشروعات غيلبرت لازار الجسورة صياغته لمؤلف عن قواعد اللغة الفارسية، والذي امتدحه بعض من كبار علماء اللغويات في إيران، ولا سيما عبد العظيم قريب، بأنه من المنح الدراسية رفيعة الشأن عظيمة النفع.
ولم يكن لازار يحجم عن الدخول في أي جدال علمي قط. ولقد أرسى أركان الحوار حول أصول ما سماه علماء اللغة «الفارسية الحديثة»، بمعنى اللغة المنطوقة والمكتوبة والمقروءة في كل من إيران، وأفغانستان، وغير موضع من آسيا الوسطى، والقوقاز منذ القرن السابع الميلادي.
ومن أقدم القصائد المقروضة باللغة الفارسية، والتي يُعتقد بأنها من نظم الشاعر أبو الحفص الصغدي، تلك التي يرجع تاريخها إلى ما يقارب 1100 عام مضت، الأمر الذي يجعل من اللغة الفارسية المعاصرة واحدة من بين اثنتين من اللغات الهندية الأوروبية التي صيغت فيها النصوص قبل أحد عشر قرنا كاملة من الزمان ولا تزال قيد النطق والقراءة والكتابة للمتحدثين بها حتى يومنا الراهن. (واللغة الأخرى القرينة لها هي اللغة الأيسلندية).
ونظرا لأن الشاعر أبو الحفص الصغدي تتحدر أصوله من آسيا الوسطى، أو منطقة خراسان الكبرى، يعتقد بعض العلماء أن اللغة الفارسية الحديثة، والمعروفة لدى علماء اللغويات باسم اللغة البهلوية أو اللغة الفارسية الدارية، ترجع بأصولها إلى المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والصين. وبرغم ذلك، يصر علماء آخرون على أن اللغة الفارسية الحديثة قد تشكلت معالمها ضمن حدود مقاطعة فارس الجنوبية الإيرانية والتي كانت معقل الإمبراطورية الساسانية القديمة.
وإثر ميله نحو النظرية الخراسانية، أمضى غيلبرت لازار سنوات من عمره المديد في إثبات أن اللغة الفارسية الحديثة لا تضرب بأصولها في جنوب إيران بل إلى الشمال الشرقي من الجمهورية الإيرانية الحالية.
وسنحت لي الفرص الطيبة بفضل الأصدقاء المشتركين، ولا سيما العالم البارز في الدراسات اللاهوتية مكسيم رودينسون، وكذلك فريدون هويدا، لأن ألتقي بالعالم الجليل غيلبرت لازار في غير مناسبة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ومن بين التيمات المكررة التي حامت في أفق مناقشاتنا الودية اللطيفة كان مفهوم «الفارسية» التي كانت أول من صاغته عالمة الدراسات الإيرانية الألمانية آن ماري شيميل، ثم استخدمته في توصيف المنطقة الشاسعة التي تشهد الوجود الحي للنزعة الإيرانية، على اعتبار الآداب، والموسيقى، والمعمار، في العصر الحاضر، وتضرب بأصولها في تاريخ يعود لآلاف السنين.
واستمعنا ذات مرة للسيد غيلبرت لازار وهو يقول معلقا: «يروق لأصدقائنا الألمان دوما صياغة المفاهيم الجديدة في المجالات الجيوسياسية». أما بالنسبة لي، برغم ذلك، فإن الأدب لا حدود تقيده، ولا سيما اللغة الفارسية ذات الرسالة الشعرية ذات الصبغة العالمية.



حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
TT

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

سادت حالة من الحزن في الوسطين الفني والرسمي المصري، إثر الإعلان عن وفاة الفنان نبيل الحلفاوي، ظهر الأحد، عن عمر ناهز 77 عاماً، بعد مسيرة فنية حافلة، قدّم خلالها كثيراً من الأدوار المميزة في الدراما التلفزيونية والسينما.

وكان الحلفاوي قد نُقل إلى غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات، الثلاثاء الماضي، إثر تعرضه لوعكة صحية مفاجئة، وهو ما أشعل حالة من الدّعم والتضامن معه، عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي.

ونعى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الفنان الراحل، وقال في بيان: «كان الفقيد قامة فنية شامخة؛ إذ قدّم عبر سنوات إبداعه الطويلة أعمالاً فنية جادة، وساهم في تجسيد بطولات وطنية عظيمة، وتخليد شخوص مصرية حقيقية خالصة، وتظلّ أعماله ماثلة في وجدان المُشاهد المصري والعربي».

الفنان الراحل نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

وعبّر عددٌ من الفنانين والمشاهير عن صدمتهم من رحيل الحلفاوي. منهم الفنانة بشرى: «سنفتقدك جداً أيها المحترم المثقف الأستاذ»، مضيفة في منشور عبر «إنستغرام»: «هتوحشنا مواقفك اللي هتفضل محفورة في الذاكرة والتاريخ، الوداع لرجل نادرٍ في هذا الزمان».

وكتبت الفنانة حنان مطاوع: «رحل واحدٌ من أحب وأغلى الناس على قلبي، ربنا يرحمه ويصبّر قلب خالد ووليد وكل محبيه»، مرفقة التعليق بصورة تجمعها به عبر صفحتها على «إنستغرام».

الراحل مع أحفاده (حسابه على «إكس»)

وعدّ الناقد الفني طارق الشناوي الفنان الراحل بأنه «استعاد حضوره المكثف لدى الأجيال الجديدة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتاد أن يتصدّر الترند في الكرة والسياسة والفن»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الحلفاوي رغم موهبته اللافتة المدهشة وتربيته الفنية الرّاسخة من خلال المعهد العالي للفنون المسرحية، لم يُحقّق نجوميةَ الصف الأول أو البطل المطلق».

وعبر منصة «إكس»، علّق الإعلامي اللبناني نيشان قائلاً: «وداعاً للقدير نبيل الحلفاوي. أثرى الشاشة برقِي ودمَغ في قلوبنا. فقدنا قامة فنية مصرية عربية عظيمة».

ووصف الناقد الفني محمد عبد الرحمن الفنان الراحل بأنه «صاحب بصمة خاصة، عنوانها (السهل الممتنع) عبر أدوار أيقونية عدّة، خصوصاً على مستوى المسلسلات التلفزيونية التي برع في كثير منها»، لافتاً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «السينما خسرت الحلفاوي ولم تستفِد من موهبته الفذّة إلا في أعمال قليلة، أبرزها فيلم (الطريق إلى إيلات)».

حنان مطاوع مع الحلفاوي (حسابها على «إنستغرام»)

وُلد نبيل الحلفاوي في حي السيدة زينب الشعبي عام 1947، وفور تخرجه في كلية التجارة التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج فيه عام 1970، ومن ثَمّ اتجه لاحقاً إلى التلفزيون، وقدّم أول أعماله من خلال المسلسل الديني الشهير «لا إله إلا الله» عام 1980.

ومن أبرز أعمال الحلفاوي «رأفت الهجان» عام 1990 الذي اشتهر فيه بشخصية ضابط المخابرات المصري «نديم قلب الأسد» التي جسدها بأداءٍ يجمع بين النبرة الهادئة والصّرامة والجدية المخيفة، بجانب مسلسل «غوايش» و«الزيني بركات» 1995، و«زيزينيا» 1997، و«دهشة» 2014، و«ونوس» 2016.

مع الراحل سعد أردش (حسابه على «إكس»)

وتُعدّ تجربته في فيلم «الطريق إلى إيلات» إنتاج 1994 الأشهر في مسيرته السينمائية، التي جسّد فيها دور قبطانٍ بحريّ في الجيش المصري «العقيد محمود» إبان «حرب الاستنزاف» بين مصر وإسرائيل.

وبسبب شهرة هذا الدور، أطلق عليه كثيرون لقب «قبطان تويتر» نظراً لنشاطه المكثف عبر موقع «إكس»، الذي عوّض غيابه عن الأضواء في السنوات الأخيرة، وتميّز فيه بدفاعه المستميت عن النادي الأهلي المصري، حتى إن البعض أطلق عليه «كبير مشجعي الأهلاوية».

نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

ووفق الناقد محمود عبد الشكور، فإن «مسيرة الحلفاوي اتّسمت بالجمع بين الموهبة والثقافة، مع دقة الاختيارات، وعدم اللهاث وراءَ أي دور لمجرد وجوده، وهو ما جعله يتميّز في الأدوار الوطنية وأدوار الشّر على حد سواء»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «لم يَنل ما يستحق على مستوى التكريم الرسمي، لكن رصيده من المحبة في قلوب الملايين من جميع الأجيال ومن المحيط إلى الخليج هو التعويض الأجمل عن التكريم الرسمي»، وفق تعبيره.