لم يتردد رئيس الوزراء الماليزي المخضرم مهاتير محمد بعد عودته أواخر الشهر الماضي من زيارة إلى بكّين عندما أعلن أن حكومته قررت إلغاء عدد من المشاريع التي كان سلفه قد أبرمها مع الصين، والتي تندرج ضمن «طريق الحرير الجديدة» التي تهدف الصين من خلالها إلى ربط مناطقها الصناعية الكبرى بالعالم، وتشكّل المحور الأساسي الذي تدور حوله السياسة الخارجية الصينية. ولم يجد مهاتير محمد حرجاً في القول إن هذه المشاريع التي تبلغ تكلفتها 22 مليار دولار، هي «شكل جديد من أشكال الاستعمار».
مثل هذه الانتقادات التي تستهدف مستوى المديونية الناجمة عن هذه المشاريع الضخمة في البنى التحتية والاتصالات المموّلَة بقروض صينية، باتت مألوفة في معظم البلدان التي تمرّ بها الطريق من سريلانكا وباكستان وصولا إلى القارة الأفريقية التي أصبحت الصين شريكها التجاري الأول بلا منازع.
وقال ناطق باسم وزارة التجارة الصينية إن المشاريع الجديدة ستركّز على تحسين البنى التحتية والطاقة والبيئة، وأضاف «أن مشروع طريق الحرير ما زال في بداياته، وسنستخلص العِبر من أخطائنا في ماليزيا وغيرها، ونسعى إلى اعتماد نموذج يضمن استدامة الديون المقدمة لشركائنا في أفريقيا».
وقد ارتفعت وتيرة هذه الانتقادات في الفترة الأخيرة بمناسبة انعقاد منتدى التعاون الأفريقي - الصيني مطلع هذا الشهر في بكّين وشارك فيه أكثر من 40 رئيس دولة وحكومة، وكان منبراً أعلنت منه الصين عن سلسلة جديدة من القروض لتمويل البنى التحتية وإنشاء مناطق صناعية في أفريقيا بقيمة 160 مليار دولار للسنوات الثلاث المقبلة.
أما الانتقادات التي توجّه إليها باستقدام اليد العاملة من الصين لتنفيذ المشاريع التي تموّلها في أفريقيا، تسقط أمام الأرقام التي ترد في تقارير الكثير من مراكز البحوث الغربية، التي تفيد أن 89 في المائة من اليد العاملة في هذه المشاريع هي أفريقية، وأن الشركات الصينية التي تنفّذ هذه المشاريع يقدّم ثلثاها دورات للتأهيل الفني للعمال الأفارقة، ويُدخِل نصفها تكنولوجيا جديدة إلى القارة الأفريقية. أما الاتهامات التي تتحدّث عن استعمار صيني جديد للقارة الأفريقية، فالأغرب فيها أنها غالباً ما تصدر عن الدول الغربية التي أقل ما يقال في سجلّها الأفريقي بأنه ليس مشرّفاً، ومن الواضح أنها ناشئة عن الخشية من خسارة الرهان على القارة التي تسجّل أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم.
فهي قد أنفقت مليارات لبناء خط السكك الحديدية الذي يربط زامبيا بميناء دار السلام بعد أن امتنعت الولايات المتحدة والأمم المتحدة عن تمويله. كما استمرّت في تخصيص مساعدات لتمويل مشاريع زراعية وصناعية في البلدان الأفريقية الفقيرة قبل طفرتها الاقتصادية الراهنة.
في غضون ذلك كانت العواصم الغربية، وبخاصة واشنطن، تطلق التحذيرات من مخاطر تحوّل القروض الصينية إلى أداة لإضعاف السيادات الوطنية في أفريقيا تفتح الأبواب أمام بكّين للتدخل السياسي والتجاري، وحتى العسكري، في القارة الأفريقية التي تراجع فيها النفوذ الأوروبي بشكل ملحوظ، وغابت عن اهتمام الولايات المتحدة مع الإدارة الحالية.
منذ خمس سنوات أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للقارة الأفريقية بعد أن بلغ حجم المبادلات المباشرة بين الطرفين 170 مليار دولار سنوياً، ووصل عدد الصينيين الذين يعملون في المشاريع الإنمائية التي تموّلها بكّين، في إطار طريق الحرير وخارجها، إلى المليون، بينما تجاوز حجم القروض الصينية للبلدان الأفريقية 140 مليار دولار.
لكن بكّين تردّ على الاتهامات التي توجه إليها باستخدام الديون كوسيلة دبلوماسية بقولها «إن مستوى مديونية الدول الأفريقية كان مرتفعاً في السابق لحساب الدول الأخرى والمؤسسات المالية الدولية... والصين التي وصلت لاحقاً ليست هي الدائن الأول».
إلى جانب ذلك تتعاطى بكّين بواقعية وموضوعية مع هذه الانتقادات معلنة أنها قد شرعت في تقويم شامل ومراجعة عميقة لبرنامجها الاستثماري الضخم الذي خصصت له ألف مليون دولار حتى إنجاز كل مراحله. فقد أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ «أن طريق الحرير ليست ناديا صينيّاً، ولا تهدف إلى أي مكاسب جيوسياسية أو عسكرية»، مضيفاً أن هذا المشروع الذي دخل عامه السادس، يحتاج إلى إعادة ترتيب أولوياته ودوزنة تفاصيله، انطلاقاً من احتياجات الشركاء والتركيز على المشاريع التي تعود بالمنفعة على السكّان المحليين.
لكن هذا التغيير في لهجة الخطاب الرسمي الصيني لا يعني على الإطلاق تراجعاً بين أولويات بكّين لهذا المشروع الاستراتيجي الضخم الذي تقرر إدراجه ضمن النص الدستوري، فيما أعلنت وزارة المالية عن زيادة بنسبة 37 في المائة على القروض الجارية خلال النصف الأول من هذا العام مقارنة بالعام الماضي.
ويستفاد من المعلومات التي وزّعتها السلطات الصينية عشيّة القمة الأخيرة التي عقدت في بكّين، أن الاستثمارات في إطار مشروع طريق الحرير التي تهدف إلى ربط الصين بأفريقيا وأوروبا والجوار الآسيوي عبر شبكة من الموانئ البحرية والطرقات البرية والسكك الحديدية، قد موّلت حتى الآن مدّ 6 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية في أنغولا وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا والسودان وجيبوتي.
وبعد أن وطّدت بكّين تغلغلها في الشرق الأفريقي بدأت تتجّه نحو الخاصرة الغربية للقارة التي تخضع تقليديّاً للنفوذ الفرنسي مثل السنغال التي زارها الرئيس الصيني شي جينبينغ مؤخرا حيث استمع إلى رئيسها ماكي سال قائلاً «إن السنغال تنظر بإيجابية إلى دور الصين في أفريقيا، لما يساهم في تعزيز السلم والاستقرار».
وكان الرئيس الصيني قد زار في جولته الأخيرة الإمارات العربية المتحدة حيث وقّع مجموعة من الاتفاقات الاقتصادية، وتعهد بالسعي إلى المساهمة في تحقيق السلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط التي، رغم ضعف الدور السياسي الصيني تقليديا فيها، تعتبر حيوية بالنسبة لنجاح مشروع طريق الحرير الجديدة. وقد أعلن جينبينغ أمام مجلس جامعة الدول العربية مطلع يوليو (تموز) الماضي أن بلاده ستقدّم قروضاً إلى الدول العربية بقيمة 20 مليار دولار لتمويل مشاريع البنى التحتية.
ولا بد من التذكير بأن الرهان الصيني على القارة الأفريقية ليس مستجدّاً أو طارئاً مع صعود الصين المطرد نحو القوة الاقتصادية الأولى في العالم بحلول العام 2030.
مهاتير محمد يلغي اتفاقيات أبرمها سلفه مع الصين بـ22 مليار دولار
ضم صوته إلى انتقادات غربية ترى «طريق الحرير شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار»
مهاتير محمد يلغي اتفاقيات أبرمها سلفه مع الصين بـ22 مليار دولار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة