ربما قلَّة من مدن العالم يتمثل فيها وضع البصرة (560 كلم جنوب العراق)، المدينة الغافية على ضفاف شط العرب، ملتقى نهرَيْ دجلة والفرات.
فهي تنتمي إلى التاريخ العربي الإسلامي في مختلف تحولاته منذ أن شيَّدها الصحابي عتبة بن غزوان على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. عُرِفت عبر التاريخ بمدارسها اللغوية والفقهية والإبداعية في مختلف الميادين والمجالات، فضلاً عن أسواقها، وأشهرها المربد التي هي ثانية اثنتين بعد عكاظ سوقاً للأدب والشعر.
سُمِّيت أرضها «أرضَ السواد» لكثرة النخيل فيها، ومنه تتوزع أصناف التمور التي تُعدّ الألذ والأشهى بين التمور في العالم، خصوصاً البرحي والبريم والتبرزل والأشقر.
وبالتزامن مع عصر النفط الذي بدأ في العراق مطلع العشرينات من القرن الماضي، بدءاً من كركوك والموصل، وصولاً إلى البصرة التي احتكرت معظم إنتاجه في العراق (أكثر من 80 في المائة)، برز أيضاً مبدعون في ميادين مختلفة، في المقدمة منها الشعر.
وفي مقدمة شعراء الحداثة العرب، أواخر أربعينات القرن الماضي، بدر شاكر السياب، الذي كتب عنها وفيها أجمل قصائده التي تُعدّ من عيون الشعر العربي مثل «أنشودة المطر» و«مدينة بلا مطر»، و«بويب»، و«غريب على الخليج».
ليس السياب فقط مَن حمل لواء الريادة والتجديد في الأدب العربي الحديث، بل هناك أيضاً سعدي يوسف، وهو شاعر بصري آخر، فضلاً عن محمد خضير وهو أحد أبرز الكُتّاب المجددين في فن القصة القصير، وسواهم كثيرون ممن أغنوا الحياة الفنية والأدبية والفكرية.
تُصنّف بأنها عاصمة العراق الاقتصادية، لكن بسبب عدم قدرة الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 على تحقيق ما وعدت به في مختلف الميادين والمجالات بَقِيَت هذه التسمية مجردَ حبر على ورق.
البصرة ثالث أكبر مدن العراق بعد بغداد والموصل، لكنها تنتج معظم خيرات العراق فضلاً عن كونها تطل على الخليج عبر مينائها الوحيد: أم قصر. هذه الإطلالة وحدها كانت كفيلة بأن يُطلَق عليها في الأدب السياسي وصف «ثغر العراق الباسم».
في الثمانينات من القرن الماضي على عهد نظام صدام حسين كانت هي البوابة الأولى للحرب مع إيران. كما كانت المدينة العراقية الأولى التي تساقطت على ساكنيها صواريخ أرض - أرض الإيرانية عبر ما عُرِف فيما بعد بـ«حرب المدن». وفي عام 1991 وبعد تداعيات حرب الخليج الثانية التي أدَّت إلى إخراج العراق من الكويت بعد احتلالها عام 1990 كانت البصرة هي أول مدينة تنتفض ضد النظام السابق عبر ما عُرِف فيما بعد بـ«الانتفاضة الشعبانية» التي أدت إلى سقوط نحو 14 مدينة في الوسط والجنوب.
وبعد التغيير عام 2003 حيث سقط النظام العراقي السابق بجيوش أميركية جرارة دخلت إلى العراق من البصرة وبالذات من أم قصر، بقي الجيش العراقي يقاوم لأكثر من أسبوعين سقطت على أثره أم قصر وتاليا البصرة وصولاً إلى بغداد، التي سقطت في التاسع من أبريل (نيسان) عام 2003.
بعد 15 عاماً ومع كل هذه التحولات التي عاشتها هذه المحافظة وجدت أن حالها لم يتغير بتغير الأنظمة سواء كانت شمولية، مثل النظام السابق، أو ديمقراطية، مثل النظام الحالي.
الفارق بين الاثنين أنه في العهد السابق لا مجال للتظاهر، بينما في العهد الحالي يسمح الدستور بالمظاهرات.
وجد البصريون، ومن بينِهم مَن هم أفضل رواد البلاغة والأدب والشعر، أن الفارق بين العهدين لغوي فقط، وليس فارقاً في الإنجاز. فالماء المالح الذي تشربه البصرة اليوم هو نفسه الذي كانت تشربه في العهود الماضية، باستثناء أن الملوحة كانت أقل بسبب ارتفاع مناسيب دجلة والفرات القادرين على دفع اللسان المِلحي نحو الخليج. لكن اليوم وبسبب انخفاض مناسيب المياه برزت المشكلة إلى العيان.
عندها لم يعد أمام أهالي البصرة سوى التعامل مع الأمر من زاوية الاحتجاجات العنيفة ما داموا لم يجنوا من العهد الحالي سوى دستور يسمح لهم بالتظاهر. وفي حال تجاوزوا ذلك يستخدم «المندسُّون» ضدَّهم الرصاص الحي حيث يسقط القتلى والجرحى مما يضاعف الأزمة؛ فالمدينة التي تعطي النفط والتمر والشِّعر لا تجد نفسها تتلقى سوى الرصاص والملح.
البصرة تنتج النفط والتمر والشعر وتشرب الماء المالح
تحتضن المربد... والسياب كتب عنها أجمل قصائده
البصرة تنتج النفط والتمر والشعر وتشرب الماء المالح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة