الاغتيالات السياسية... هل تُغيّر مجرى التاريخ؟

كتاب لباحثين فرنسيين عن انعكاساتها داخلياً وخارجياً من كيندي حتى السادات

جون كيندي قبل دقائق من اغتياله في تكساس عام 1963
جون كيندي قبل دقائق من اغتياله في تكساس عام 1963
TT

الاغتيالات السياسية... هل تُغيّر مجرى التاريخ؟

جون كيندي قبل دقائق من اغتياله في تكساس عام 1963
جون كيندي قبل دقائق من اغتياله في تكساس عام 1963

هذا الكتاب الممتع يمكن أن يقرأ كرواية بوليسية شيقة جداً، وهو من تأليف باحثين فرنسيين مشهورين؛ الأول هو جان لاكوتير، صاحب الكتب المعروفة عن العالم العربي، بمغربه ومشرقه، وبالأخص مصر. وأما الثاني، فهو جان كلود غيبو، الأكثر تعمقاً من الناحية الفلسفية، والمختص بنقد الحداثة الفرنسية بكل مزالقها وتطرفاتها، دون أن ينسى إيجابياتها بطبيعة الحال. إنه كتاب مشترك، ولكن بقلمين منفصلين تماماً، لا مختلطين. فكل واحد كلف بكتابة فصول محددة بدقة مختلفة عن الفصول التي كتبها الآخر. فمثلاً، جان لاكوتير كتب الفصول المتعلقة باغتيال كل من جون كيندي، وأخيه روبيرت كيندي، وأنور السادات، وأولوف بالم، ومحمد بوضياف، وإسحاق رابين، ورفيق الحريري. وأما جان كلود غيبو، فدبج الفصول المتعلقة باغتيال بي نظير بوتو، ومارتن لوثر كينغ، وألدو مورو، وأنديرا غاندي، وبشير الجميل، إلخ. وعنوانه الحرفي هو التالي: «هل ماتوا من أجل اللاشيء؟ نصف قرن من الاغتيالات السياسية».
وفي مقدمة الكتاب، يقول المؤلفان شارحين مقصدهما: ما نريد إيضاحه هنا ليس فقط سبب الاغتيال، وظروفه وحيثياته، وإنما بالدرجة الأولى انعكاساته على السياسة المحلية أو العالمية. فكل عملية اغتيال لشخصية سياسية معينة تهدف بالضرورة إلى إجراء تغيير أو تعديل على السياسة السائدة، وإلا لما خاطر القتلة بعمليتهم. دعونا نطرح هذا السؤال: إلى أي مدى أدت تلك الرصاصات القاتلة في دالاس إلى تغيير تاريخ الولايات المتحدة، وتالياً تاريخ العالم كله؟ السؤال نفسه يطرح على تلك الرصاصات التي أودت بحياة القائد المناضل الفذ مارتن لوثر كينغ، بعد 4 سنوات من ذلك التاريخ. وقس على ذلك مصرع الرئيس السادات على أيدي المتطرفين الإسلامويين.
لنتوقف هنا، ولو للحظة، عند الفصل الذي كتبه جان كلود غيبو بعنوان: «مارتن لوثر كينغ: موت حالم كبير وانتصاره». في رأيه، فإن مارتن لوثر كينغ انتصر على جلاديه أو قتلته بعد موته بأربعين سنة فقط. كيف؟ عندما انتخبت أميركا عام 2008 أول رئيس أسود في تاريخها. فالزعيم الأسود العظيم الذي سقط تحت رصاصات الحقد العنصري الأعمى عام 1968 هو الذي أدى مباشرة إلى انتخاب باراك أوباما عام 2008. لولا هذا لما كان ذاك. لولا نضالات مارتن لوثر كينغ، لما حصل ملايين السود الأميركيين على حقوقهم المدنية والاجتماعية والصحية والتعليمية، وأخيراً السياسية. لا شيء عظيماً في التاريخ يتحقق دون نضالات مريرة وتضحيات جسام. هذه هي فلسفة التاريخ التي أفهمها وأعتنقها وأومن بها. وهي فلسفة تقول لك ما معناه: صحيح أن هناك ظلماً وقهراً في العالم. صحيح أنه يبدو أحياناً هائلاً ضخماً إلى درجة أنك تيأس سلفاً من مواجهته، بل لا تتجرأ على ذلك. ولكن الرجال العظام، من أمثال مارتن لوثر كينغ، لا ييأسون من رحمة الله ولا يقنطون. ففي قلوبهم، يترعرع إيمان راسخ رسوخ الجبال، وهو الذي يدفعهم للتضحية بكل شيء، بما في ذلك حياتهم الشخصية، من أجل قضية الحق والعدل. وبالتالي، فعلى جميع السود أن يشكروه. عليهم أن ينحنوا أمام سقوطه المدوي تحت رصاصات الغدر، يوم 4 أبريل (نيسان) من عام 1968. لقد ضحى بنفسه من أجل الآخرين، من أجل المظلومين المحتقرين بسبب لون شعرهم أو بشرة وجوههم. قال لي أحدهم أمام البناية في باريس: يا أخي، أنا أسود اللون، ولكن روحي ليست سوداء! الروح ليست بيضاء ولا سوداء. الروح لا لون لها. وفوجئت بكلامه الذي أعجبني جداً.
لننتقل الآن إلى قصة اغتيال الرئيس أنور السادات: هل غيرت هذه الجريمة مجرى التاريخ العربي والعالمي؟ أبداً، لا. فاتفاقية كامب ديفيد لا تزال سارية المفعول حتى اللحظة. ومعلوم أن الرجل سقط صريعاً مضرجاً بدمائه بسبب توقيعها، لكن الشيء الذي غير مجرى التاريخ هو مغامرة السادات بنفسه، وذهابه إلى الكنيست الإسرائيلي، وإلقائه لخطابه التاريخي هناك، تحت أنظار العالم الذي يحبس أنفاسه ولا يكاد يصدق ما يراه. هذا الحدث هو الذي قتل أنور السادات. بدءاً من تلك اللحظة، أصبح شبه ميت، أو في حكم الميت. لقد دفع حياته ثمناً لاقتحامه الجنوني الذي أدى إلى انعطافة كبرى في تاريخ المنطقة. وسواء أحكمنا عليه سلباً أم إيجاباً، فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً. السادات دخل التاريخ لأنه انتهك أكبر تابوهات التاريخ. وانتهاك التابوهات، أو المحرمات العظمى، يدفع ثمنه عادة دماً ودموعاً. هذا أيضاً أحد قوانين فلسفة التاريخ. بشكل من الأشكال، يمكن القول إن السادات بفعلته المباغتة والمرعبة تلك أحدث خرقاً في جدار التاريخ العربي المسدود. كيف تجرأ عليها؟ كيف رمى بنفسه في أحضان المجهول؟ كيف تجرأ على تحطيم ذلك الجدار السيكولوجي الهائل الذي يفصل بين العرب واليهود؟ كان الفيلسوف كيركغارد يقول هذه العبارة الرائعة: لحظة حسم القرار لحظة جنون! ولكنه دفع الثمن نيابة عنا جميعاً. هناك تفسير آخر: ربما كان السادات معقداً من شخصية جمال عبد الناصر البطولية الضخمة، بل هذا مؤكد. وبالتالي، فلكي يخرج من ظله، من تحت معطفه، كان ينبغي أن يرتكب فعلة هائلة لا يكاد يصدقها العقل. ولولا ذلك، لما استطاع الخروج من عباءة جمال عبد الناصر. لولا ذلك، لظل رئيساً صغيراً، وأكاد أقول قزماً، قياسا إلى زعيم القومية العربية. بل وحتى بعد أن ارتكب أخطر أنواع المحرمات، فإنه لم يستطع أن يرتفع إلى مستوى قامة جمال عبد الناصر، ولكنه حازاها، بل وكاد أن يغطي عليها، وذلك لأنه استطاع أن يصبح رئيساً حقيقياً قادراً على اتخاذ أخطر قرار في تاريخ السياسة المصرية والعربية. بهذا المعنى، فقد دخل التاريخ، وأي دخول! قد تقولون إنه دخله من أبشع أبوابه. ربما، ولكنه دخله. وحتى الآن، لم تخرج السياسة العربية عن النهج الذي اختطه، بل تابعته فصولاً، وسارت على أثره.
اسمحوا لي الآن أن أنتقل إلى قصة أخرى هزت العالم كالزلزال، وأقصد بها اغتيال الزعيم الإيطالي الطيب المحبوب ألدو مورو: يقول الفيلسوف جان كلود غيبو ما فحواه: لقد كان ألدو مورو القائد التاريخي التقدمي للديمقراطية المسيحية الإيطالية؛ إنه إحدى الشخصيات الأكثر أهمية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والأكثر حظوة بالاحترام والتقدير. وكان قبيل خطفه في طور التوصل إلى تسوية تاريخية بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الشيوعي، وهو حدث خطير هائل في تاريخ السياسة الإيطالية. وكانت هذه التسوية تقضي بدخول بعض الوزراء الشيوعيين إلى الحكومة لأول مرة في تاريخ إيطاليا، ولكن هذه المبادرة التي اتخذها وتحمل مسؤوليتها، والتي حصلت في عز الحرب الباردة، أزعجت الولايات المتحدة كثيراً. والأخطر أنها أزعجت بشكل خاص المخابرات المركزية الأميركية. ولا ينبغي أن ننسى معارضة البابا بولس السادس الشديدة لها. وبالتالي، فقد وقفت في وجهه أكبر قوتين في العالم: الأميركان والفاتيكان. بدءاً من تلك اللحظة، أصبح مصيره على كف عفريت، فقد ضرب ضربة أكبر منه، وتجاوز كل الخطوط الحمر، وسوف يدفع الثمن غالياً. وكان هنري كيسنغر (الحائز جائزة نوبل للسلام!) قد هدده أكثر من مرة لكي يتراجع عن التقارب مع الشيوعيين، ولكنه لم يرتدع.
لقد استمر خطف ألدو مورو 55 يوماً، بالتمام والكمال: من 16 مارس (آذار) 1978 إلى 9 مايو (أيار) 1978. وقد شغلت وسائل الإعلام العالمية الكبرى طيلة 3 أشهر تقريباً، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني يتوالى فصولاً، يوماً بعد يوم. وكان العالم يلهث وراء الأخبار وتطورات القصة حتى حلت تراجيديا، عن طريق قتله بشكل مجرم شنيع. وماذا كانت نتيجة العملية؟ ذلك أن كل عملية اغتيال للشخصيات الكبرى تهدف كما قلنا إلى إحداث تغيير معين في السياسة الدولية. في الواقع، إن اغتيال ألدو مورو أعطى ثماره، إذا جاز التعبير. فـ«التسوية التاريخية» التي أرادها مع الحزب الشيوعي أجهضت، وهذا ما أثلج قلب أميركا. أما الثمرة الأخرى، التي لا تقل أهمية، فهي فقدان اليسار المتطرف لمصداقيته، ليس فقط في إيطاليا، وإنما في كل أنحاء أوروبا. صحيح أن ذلك لم يحصل فوراً أو دفعة واحدة، وإنما بالتدريج، ولكنه حصل. بعدئذ، لم تقم للشيوعية قائمة، بل وانهار جدار برلين، والعالم الشيوعي كله، بعد عشر سنوات فقط من فاجعة ألدو مورو. وقد اعترفت إحدى «مناضلات» الألوية الحمراء بالحقيقة لاحقاً، عندما قالت: «لقد أعمتنا الأدلجة العمياء. لقد حولتنا إلى وحوش حقيقية، لا بشرية ولا إنسانية».
بقيت نقطة أخيرة. كل الدلائل تشير إلى أن المخابرات المركزية الأميركية تلاعبت بالخاطفين، بشكل مباشر أو غير مباشر، على الرغم من أنهم أعداؤها التاريخيون. والدليل على ذلك أن ألدو مورو شخصياً قال لخاطفيه وجلاديه هذه العبارة الرهيبة: «هل الأميركان هم الذين طلبوا منكم أن تصفوني؟»؛ لاحظ كيف تحول اليسار الشيوعي المتطرف إلى أداة في أيدي الإمبريالية الأميركية! يا لها من سخرية الأقدار... هل هو مكر التاريخ كما يقول هيغل؟!


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»