القصيدة بوصفها متحفاً للصور «المحنطة»!

الشعر من دونها معرّض للوقوع في فخ النظم البارد والسرد التقريري

المتنبي - صموئيل كولريدج - ريتسوس
المتنبي - صموئيل كولريدج - ريتسوس
TT

القصيدة بوصفها متحفاً للصور «المحنطة»!

المتنبي - صموئيل كولريدج - ريتسوس
المتنبي - صموئيل كولريدج - ريتسوس

ليست الصورة، بأنواعها المختلفة، عنصراً طارئاً على الشعر، بل هي جزء لا يتجزأ من روح النص وبنيته ونسيجه. ولا أظن أن أحداً من دارسي الشعر ونقاده قد سبق له أن أغفل الدور الخطير والحاسم الذي تلعبه الصور المجازية والبيانية في تحديد ماهية هذا الفن العظيم الذي رافق الإنسانية منذ بداياتها، كما في التفريق بينه وبين النثر العادي وأشكال الكتابة الأخرى. ومع أن اللغة المتداولة بحد ذاتها مترعة بالمجازات والكنايات والتوريات التي أفقدها التكرار والاستهلاك عنصر المباغتة والإدهاش، فإن الصورة في الشعر تكتسب أبعاداً أكثر أهمية ودلالة، إذ هي تحدد له مساره وفضاءاته ومجاله الحيوي. صحيح أنها لا تتكفل وحدها بمهمة النهوض بالنص الشعري، بل تؤازرها عناصر أخرى، تتصل بالتكثيف والإيقاع والمعنى والنسق التعبيري، ولكن الصحيح أيضاً أن الشعر من دونها معرّض للوقوع في فخ النظم البارد والسرد التقريري والرصف الباهت للكلمات.
قد لا يكون تعريف الصورة، أو الدور الذي تلعبه في تحديد أهمية النص، موضع إجماع الشعراء والنقاد القدماء والمحدثين، ولكن ما هو متفق عليه أن الشعر ليس أفكاراً مجردة، أو تقريراً مباشراً عن الواقع، وأن الفكرة والمعنى لا قيمة لهما بالمفهوم الإبداعي ما لم تلبسا لبوس الصور المحسوسة القابلة للتسييل عبر مشهد مرئي. وإذا كان النقاد العرب قد أولوا الصورة مكانة مهمة في إطار «الصنعة» الشعرية، فإن عبد القاهر الجرجاني قد اعتبرها أساس الشعر، بل هي الشعر نفسه، كما يذهب في كتابه «أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز». وهو قد استبق بقرون عدة مقولات للشاعر الناقد الإنجليزي ت. أي. هيوم، الذي اعتبر الشعر «لغة عينية بصرية تسعى دائماً إلى إيقافك ومنعك من الانزلاق باتجاه التجريد». وحيث ذهب هيوم إلى اعتبار التجريد بمثابة الداء الذي تفشى كالسل في جسد القرن الفائت، ثبّت الصورة أساساً للشعر، مؤكداً أنها ليست حلْية الكلام، بل هي نفسها الكلام. ثمة إذن تواشج واضح بين الرسم والشعر، حيث الأول شعر بالألوان والثاني «رسم بالكلمات»، على حد تعبير نزار قباني، بل إن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو كان قد ذهب أبعد من ذلك، فجعل للحروف ألواناً، حيث تخيل الياء حمراء، والألف سوداء، والواو بيضاء، خالقاً نوعاً من التداخل المتبادل بين الحواس.
ربما كان الإيقاع في إطاره الغامض المجرد هو أول ما ينتاب الشعراء، خصوصاً شعراء الوزن، من أعراض الحالة الشعرية المعقدة. ولكن تحوُّل الإيقاع اللاحق إلى لغة لا يمكن أن يتم إلا من خلال الصورة المحسوسة، وبواسطتها. ورغم أن النقد العربي القديم قد جعل للصورة حدوداً وضوابط متصلة بتجنب الإغراب، وبقرب المسافة بين عناصر التشبيه أو الاستعارة، فإن الصورة المصنعة في مناجم الخيال اعتبرت أساساً في تحديد مفهوم الفحولة، كما في تقديم امرئ القيس على غيره من الشعراء. والأمر نفسه ينطبق على أبي تمام، الذي لم ينتزع مكانته المتقدمة من خلال تحديث الشكل العروضي، بل من طزاجة مخيلته، ومن صوره الغريبة غير المألوفة، من مثل: «جرى المجدُ مجرى النوم منه فلم يكن / بغير طعانٍ أو سماحٍ بحالمِ» أو مثل: «تاهت على صورة الأشياء صورتُهُ / حتى إذا كمُلتْ تاهت على التيهِ». والمتنبي بدوره لم يحتل موقع الصدارة بين الشعراء من خلال أبيات ومطالع تقريرية، لبست لبوس الحكمة والمثل السائر، مثل قوله: «الرأي قبل شجاعة الشجعانِ / هو أول وهي المحلّ الثاني»، أو: «لكل امرئ من دهره ما تعودا / وعادة سيف الدولة الطعنُ في العدا»، بل إن ما منح المتنبي تلك المكانة الاستثنائية هو أبياته المكتظة بالصور واللقى المدهشة، كقوله: «كأن العيس كانت فوق جفني / مُناخاتٍ فلما ثرْن سالا»، أو قوله: «وقفتَ وما في الموت شكّ لواقفٍ / كأنك في جفن الردى وهو نائمُ»، أو: «إذا نحن سمّيناكَ خلْنا سيوفنا / من التيهِ في أغمادها تتبسّمُ».
لا يعني ذلك بالطبع أن الصورة وحدها هي ما يحدد قيمة النص الشعري وأهميته، عمقه أو هشاشته، أو أن النصوص الأكثر اكتظاظاً بالصور هي بالضرورة أكثر أهمية من النصوص الأقل احتفاء بها. فثمة قصائد كثيرة لم تكتسب أهميتها من غزارة الصور التي تضمنتها، بل من الظلال البعيدة للجمل، ومن قوة الإيحاء في المعنى، ومن الهزات العميقة التي يتركها النص وراءه ما إن نفرغ من قراءته. وأبلغ مثال على التقشف الصوري تجسده نصوص عدة للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، ومن بينها قصيدة «تأرجح ساكن»، التي ترجمها سعدي يوسف، والتي وإن ظهرت بمظهر السرد الحكائي النثري، وخلت تماماً من المجازات والصور الاستعارية، فإنها تستبطن قدراً غير قليل من الترددات الإيحائية واحتمالات التأويل. يقول ريتسوس: «حين قفزتْ لتفتح الباب \ سقطتْ سلة مكبّات الخيوط \ فتدحرجت المكبات تحت الطاولة والكراسي \ في زوايا مزعجة.. \ كانت توشك أن تركع لتلتقطها واحدة واحدة \ ولترتب الحجرة قبل أن تفتح الباب \ لم يكن لديها وقت \ طرقوا ثانيةً \ وقفتْ ساكنة منكسرة \ وسقطت يداها إلى جنبيها \ وحين تذكرت أن عليها أن تفتح \ لم يكن ثمة أحد \ أهذا هو الحال مع الشعر؟». تتحول الصور بالمقابل إلى عبء على النص الإبداعي، إن استخدمت بشكل متعسف، وإن لم تكن منسجمة مع روح العمل وديناميته الداخلية وسياقه الطبيعي. فالشعراء بالتالي ليسوا مجرد صيادين للصور، أو هواة لجمع الاستعارات ولملمتها من هنا وهناك، بغية نشرها في «ألبوم» شعري شبيه بألبومات جامعي الطوابع والقواقع والعملات القديمة.
وقد يكون الجرجاني أحد أوائل النقاد الذين تصدوا لطبيعة الصور الشعرية وأنواعها وملابساتها، مميزاً بين التخييل الذي تأتي ثماره منسجمة مع روح النص ومتطلباته، وبين التوهم الذي تجافي صوره المنطق، وتأتي نافرة نافلة بلا مسوغ. وهو نفسه ما ذهب إليه فيما بعد الشاعر الإنجليزي كوليردج، الذي رأى أن الصورة هي طريقة الشاعر في التفكير، لكن التوهم يدفعنا إلى الشعور بالخفة والتبرم وعدم التصديق، كما أن الإسراف المفرط في استخدام الصور لا يؤدي لغير إرهاق النص وإرهاق القارئ على حد سواء. أما الناقد الإنجليزي تريفليان، فقد تناول تلك الظاهرة بأسلوب لاذع بالغ السخرية، حين وصف مواطنه الشاعر ميريديت بالقول: «إن استعاراته لكثرتها يجاهد بعضها بعضاً مثل حيوانات في حفرة، تجرح إحداها الأخرى في كفاحها من أجل البقاء».
إن كثيراً مما ينشر اليوم من نصوص، خصوصاً عبر مواقع التواصل، ليس سوى رصف بائس متكلف لمجموعة من الصور المتعاقبة التي لا تندرج في معنى أو فكرة محددين، ولا تجمع بينها سوى حروف العطف. صحيح أننا نعثر على بعض اللقى والاستعارات التي تلمع هنا وهناك، ولكن معظمها مختلس من نصوص عربية أو مترجمة، تم انتزاعها من سياقها وتجميعها عبر نوع من «الكولاج» المصطنع والملفق. على أن المشهد الشعري ليس قاتماً بالكامل، إذ ثمة بين ظهرانينا أسماء شابة وعالية الموهبة، وقادرة على وضع الصورة في نصابها الصحيح، وتحويلها إلى طاقة خلاقة، بعيداً عن الافتعال والحشو الزائد والاستعراضية المنفرة.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».