قراءة أميركية ترصد طفرة جديدة لـ«القاعدة» على حساب «داعش»

تراجعت عمليات انصار البغدادي في أفريقيا

عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
TT

قراءة أميركية ترصد طفرة جديدة لـ«القاعدة» على حساب «داعش»

عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)

في الخامس من فبراير (شباط) الماضي، نشر المركز الأميركي المتخصص في الشؤون الأفريقية تقريراً حول «نفوذ» التنظيمات الإرهابية في شمال أفريقيا، أكد تراجع «داعش» الإرهابي، فيما ضاعف تنظيم «القاعدة بالمغرب»، عملياته الإرهابية ويتفق التقرير الأميركي جملة وتفصيلاً مع دراسة صدرت حديثا عن مرصد الفتاوى في مصر، سيما فيما يخص تراجع وتقلص عمليات «داعش» وبنوع خاص في ليبيا العام الماضي.
بات تنظيم «داعش» أقل التنظيمات الإرهابية فاعلية في أفريقيا، فقد تراجعت عملياته من 319 عملية في 2016 إلى 43 عملية فقط في 2017، خلفت من وراءها نحو 239 قتيلاً، أغلبهم من عناصر التنظيم المذكور، كما تراجعت عمليات «داعش» الإرهابي في تونس والجزائر على حسب المنوال.
في المقابل يؤكد التقرير الأميركي على تضاعف عمليات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى 157 عملية مقابل 56 عملية في 2016. مع تضاعف عدد الضحايا بعد مبايعة «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي تشكلت في مارس (آذار) 2017. لكن، ماذا عن أهم التنظيمات التي يمكن أن تعتبر نواة «للقاعدة في شمال أفريقيا ودول الساحل» من جديد؟
نحن أمام طائفة متباينة من الأسماء، فمنها على سبيل المثال تنظيم «أنصار الشريعة» في تونس، وكتيبة عقبة بن نافع في تونس، وجماعة جند الخلافة في الجزائر، وتنظيم أنصار الشريعة وكتيبة أبي محجن الطائفي في ليبيا، وتبقى «حركة الشباب الإسلامية» الصومالية في المرتبة الأولى ضمن الجماعات الإسلامية الأكثر دموية وقامت بنحو 1593 عملية.
متابعو الإرهاب المدعي الهوية الإسلامية، يشيرون إلى تهديدات تنظيم «القاعدة» بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ووصفها بأنها «أهداف مشروعة». فعلى سبيل المثال جاء في بيان لـ«القاعدة في بلاد المغرب» في الأسبوع الأول من شهر مايو (أيار) الماضي ما يلي: «قررنا أن نضرب العمق الذي يحافظ على استمرارية هذه الحكومات، والذي يمكن المحتل الفرنسي من توفير رغد العيش والرخاء لشعبه». أما العمق فكان يتناول بالإضافة إلى دول شمال أفريقياً، مالي، وبوركينافاسو، وكوت ديفوار، وجميعها في القلب الأفريقي.
ومما لا شك فيه أن وجود «القاعدة» لم ينقطع أبدا من شمال أفريقيا وغربها، وكل ما جرى هو أن صوت «داعش» كان الأكثر علواً وارتفاعاً، بينما كانت القاعدة تعود من جديد رويداً رويداً لترتيب أوراقها.
وهنا تلفت مجلة «النيويوركر» الأميركية في عدد أخير لها إلى أنه من المبكر جداً الاحتفال بهزيمة «داعش»، فمنذ صعود هذا النوع من التطرف قبل أربعة عقود، يتضح لنا أن من سماته الأكثر ديمومة، من خلال تجلياته دائمة التطور، هي قدرته على إعادة تأسيس وإحياء الحركات التي بدا أنها قد هزمت.
وفي إطار الضربات القوية التي تلقاها الدواعش في العراق، وسوريا، فكأنهم وجدوا ضالتهم في دول شمال أفريقيا وتحديداً في ليبيا، من خلال إعادة الشراكة مع القاعدة، والتي بدا وكأن لها الآن اليد العليا في المشهد الإرهابي الأفريقي سيما بعد أن استطاع أعضاء «القاعدة» إعادة تقديم أنفسهم للعالم، وهذا ما يرصده تقرير مرصد الفتاوى في مصر ودراسته التي سجلت عدداً من التحولات على مستوى الخطاب الإعلامي للتنظيم خلال السنوات الماضية، إذا سعى التنظيم إلى تبني خطاب المقاومة ضد الاستعمار، وقوات الأمن من الجيش والشرطة الوطنية في تلك البلدان، كما حاول جاهداً إضفاء صبغة اجتماعية على إصداراته حيث صور مقاومته للجيش والشرطة كرد على انتهاكات الجنود ضد المواطنين المدنيين، كما أن عملياتهم تأتي ضد الفساد والقهر الذي تتعرض له شعوب المنطقة. ولعل القارئ بعد التدقيق لدراسة «مرصد الفتاوى» يدرك تمام الإدراك أن التنظيم بات متماسكاً منذ عام 2017. فهو يرتب أولوياته في استهداف قوات الشركات الفرنسية العاملة في منطقة تجمع دول الساحل الأفريقية، وكذلك السياح والعمال والأجانب، وخاصة الفرنسيين الموجودين في المنطقة، واستهداف بعثات قوات الأمم المتحدة، واستهداف قوات الجيش والشرطة في تلك البلاد محل الدراسة، وأخيراً استهداف العملاء المتعاملين مع القوات الفرنسية أو الأفريقية.
أما كيف يمول تنظيم القاعدة عملياته الإرهابية في شمال أفريقيا وكذا غربها فإن المصادر المالية تكاد تكون معلومة للقاصي والداني، وفي المقدمة منها عمليات الاختطاف وتبادل الرهائن الأجانب، وتجارة المخدرات، وبيع السلاح وغسل الأموال، والسرقة والنهب، ثم تهريب المهاجرين، عطفاً بكل تأكيد على التبرعات والتمويلات المالية من الجماعات الداعمة حول العالم.

تونس وليبيا
يمكن القول بأن القاعدة وإن كان له وجود بشكل أو بآخر في الجزائر، فإن السلطات المحلية هناك من القوة والقدرة على ملاقاة أعضاء التنظيم الإرهابي والتعامل معهم، وقد كانت آخر معركة تلك التي جرت وقائعها في الخامس من أغسطس (آب) الماضي، حيث أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية عن القضاء على عدد من أمراء تنظيم القاعدة الإرهابي بولاية «سكيكدة» في شرق البلاد.
هنا تبقى ليبيا وتونس الدولتان المرشحتان بنسبة غالبة لعودة القاعدة لتتجلى فيها تجلياتها السلبية والإرهابية من جديد.
أما ليبيا فإن الأوضاع السياسية والاحتراب الأهلي والطائفي ووجود حكومة في الغرب تكاد تكون موالية بالمطلق للأصوليين، يجعل منها أرضا خصبة للقاعدة. كما أن ليبيا والتي تعد واحدة من أكثر الدول النفطية أهمية، تعد موقعاً وموضعاً للأطماع المالية للإرهابيين من كافة أنحاء العالم.
عطفاً على ذلك فإن القاعدة والتي ورثت تنظيم داعش في ليبيا أو تنسق مع جماعاته وخلاياه حتى الساعة، تتلاعب جيداً بالخطوط والخيوط التي رسمها القذافي سابقاً، عندما مد يد النفوذ الليبي إلى داخل دول أفريقيا، وهو الذي لم يتوقف عن وصف نفسه بأنه ملك ملوك أفريقيا.
أما تونس، فهي الدولة الثانية المرشحة لأن يمد تنظيم القاعدة نفوذه على أراضيها، ومرد ذلك لأسباب كثيرة، في مقدمتها صغر حجمها الجغرافي، وعدة وعدد قواتها المسلحة القليل نسبياً حيث لا يتجاوز 35 ألف عسكري، بالإضافة إلى أنها الدولة التي كانت مصدر ظاهرة «الربيع العربي» المكذوب، ولا تزال جماعة «الإخوان» فاعلة فيها، كما أن حكومتها لم تستطع بسط نفوذها على كافة أنحاء البلاد.
وفي حديث لوكالة «رويترز» يؤكد مصدران أمنيان تونسيان، أنه بعد أن تضاءلت جاذبية «داعش» وفقد معاقله في كل من ليبيا المجاورة والعراق وسوريا، حيث بدأ المقاتلون يعودون لديارهم، أو يبحثون عن قضايا جديدة يقاتلون من أجلها، فإن ذلك دفع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي إلى السعي لجذب مواهب جديدة بين المقاتلين السابقين من تنظيم الدولة.
قبل بضعة أشهر قتلت القوات الخاصة التونسية «بلال القبي» المساعد الكبير لعبد الملك درو كال المعروف باسم «أبو مصعب عبد الودود»، زعيم تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب»، وذلك في منطقة جبلية مع الجزائر... ما الذي كان يفعله «القبي» هناك؟
بحسب المصادر الأمنية التونسية، يبدو أن «القبي» كان بالفعل في مهمة لإعادة توحيد مجموعات مقاتلي القاعدة المتشرذمين في تونس، وهو ما دفع الجيش التونسي للتأهب للمزيد من عمليات التسلل المحتملة. ولم يكن «القبي» المتشدد البارز الوحيد الذي يتم إرساله لإعادة تجميع تنظيم القاعدة في تونس، إذ تشير مصادر أمنية تونسية إلى المدعو «حمزة النمر»، الجزائري الذي انضم للقاعدة في 2003. وأرسل لقيادة خلية في تونس لكنه قتل مع «القبي» في نفس العملية.
من هنا يتبين لنا أن هناك رابطا كبيرا بين الجزائر وتونس بنحو خاص، بمعنى أن الهيكل القيادي في دول المغرب العربي يكاد يكون حكراً وحصراً على الجزائريين، سيما المنتمين للقاعدة، بينما كان التونسيون وحتى وقت قريب يهيمنون على قيادة جماعة منافسة على صلة فضفاضة بـ«داعش» وتتمركز في نفس المنطقة.

«القاعدة» في العمق الأفريقي
لم تكن أعين الاستخبارات الأميركية لتغيب عما يجري من إحياء للقاعدة في غرب أفريقيا، حيث تنشط التنظيمات المسلحة في منطقة شبه فاصلة، تمتد على طول الحدود الجنوبية في منطقة الصحراء من مالي إلى نيجيريا، وتقول الاستخبارات العسكرية الأميركية بأن الدعم الخارجي للإرهابيين في غرب أفريقيا يأتي عادة من ليبيا، وفي القلب من تلك الجماعات تأتي جماعة «دعم الإسلام والمسلمين» وهي فرع لتنظيم القاعدة، جرى تأسيسه العام الماضي من قبل أربع مجموعات محلية، وتعرف اختصاراً باسم «جينم»، وهذه تنشط في شمال ووسط مالي،، وخصوصاً مدن كيدال، وتمبوكتو، وموبتي.
والشيء المزعج لأجهزة الاستخبارات الأجنبية هناك هو أن عملية الاندماج بين تلك الجماعات ماضية قدماً، ما أعطى القاعدة هناك زخماً جديداً، الأمر الذي يفسر زيادة عدد الهجمات.
ولفهم خطورة مشهد التطرف والإرهاب القاعدي العائد من جديد إلى الأفق الأفريقي، ربما يتعين علينا الرجوع إلى المذكرة التي أعدها الرئيس الجزائري «بوتفليقة» في يوليو (تموز) 2017، وقدمها للاتحاد الأفريقي بصفته منسق الاتحاد لشؤون مكافحة الإرهاب، حيث أشار إلى أن هناك أكثر من خمسة آلاف أفريقي من جنسيات مختلفة ينشطون مع الجماعات الإرهابية في القارة، وفي مناطق النزاعات المسلحة الأخرى، ولعل ما يؤكد مصداقية ما كشف عنه الرئيس بوتفليقة هو أن القارة السمراء تعد مركزاً لنحو 64 منظمة وجماعة إرهابية، ينتشر معظمها من أقصى الساحل الأفريقي بالغرب إلى أقصى الساحل الأفريقي في الشرق، ساهم في ذلك الانتشار تداخل الأفكار المتطرفة مع التركيبة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والفراغ الأمني في تلك المنطقة في تلك المنطقة.
ويبدو أن شمال وغرب أفريقيا مقبلان على تحولات ومعطيات أمنية مثيرة وخطيرة، سيما وأن الرابط الآيديولوجي بين «داعش» و«القاعدة» قريب جداً، وهناك إشارات كثيرة على الأرض تقول بأن التعاون محتمل جداً بين التنظيمين، عطفاً على احتمالية ظهور وليد إرهابي جديد من ثمرة التقاء الجماعتين الإرهابيتين، وربما هذا ما أماطت اللثام عنه صحيفة الغارديان البريطانية مؤخراً، إذا أشارت إلى وجود رؤية جديدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، تهدف إلى وراثة التنظيمات الإرهابية خاصة تنظيم داعش، بعد الخسائر التي مني بها في سوريا والعراق.
الصحيفة البريطانية التي استقت معلوماتها من الأجهزة الأمنية البريطانية تشير إلى أن تنظيم «القاعدة الإرهابي» شرع منذ أغسطس 2017 في حملة تجنيد إرهابيين من بعض دول المنطقة منها الجزائر، تلتها حملة ثانية أطلقتها في سوريا في سبتمبر (أيلول) الماضي.
والشاهد أنه في أعقاب تلك التقارير الأمنية سارع محللو ومسؤولو الأمن في الدول الأوروبية إلى دراسة ظاهرة التجنيد من قبل القاعدة، ومدى تأثيرها على بلدانهم مستقبلاً. هل نحن أمام خطر جديد يهدد المنطقة والعالم؟



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».