قراءة أميركية ترصد طفرة جديدة لـ«القاعدة» على حساب «داعش»

تراجعت عمليات انصار البغدادي في أفريقيا

عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
TT

قراءة أميركية ترصد طفرة جديدة لـ«القاعدة» على حساب «داعش»

عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)
عناصر من «داعش» فوق مدرعة بالرقة يونيو 2014 قبل اندحارهم عن المدينة السورية إلى مناطق أخرى (رويترز)

في الخامس من فبراير (شباط) الماضي، نشر المركز الأميركي المتخصص في الشؤون الأفريقية تقريراً حول «نفوذ» التنظيمات الإرهابية في شمال أفريقيا، أكد تراجع «داعش» الإرهابي، فيما ضاعف تنظيم «القاعدة بالمغرب»، عملياته الإرهابية ويتفق التقرير الأميركي جملة وتفصيلاً مع دراسة صدرت حديثا عن مرصد الفتاوى في مصر، سيما فيما يخص تراجع وتقلص عمليات «داعش» وبنوع خاص في ليبيا العام الماضي.
بات تنظيم «داعش» أقل التنظيمات الإرهابية فاعلية في أفريقيا، فقد تراجعت عملياته من 319 عملية في 2016 إلى 43 عملية فقط في 2017، خلفت من وراءها نحو 239 قتيلاً، أغلبهم من عناصر التنظيم المذكور، كما تراجعت عمليات «داعش» الإرهابي في تونس والجزائر على حسب المنوال.
في المقابل يؤكد التقرير الأميركي على تضاعف عمليات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى 157 عملية مقابل 56 عملية في 2016. مع تضاعف عدد الضحايا بعد مبايعة «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي تشكلت في مارس (آذار) 2017. لكن، ماذا عن أهم التنظيمات التي يمكن أن تعتبر نواة «للقاعدة في شمال أفريقيا ودول الساحل» من جديد؟
نحن أمام طائفة متباينة من الأسماء، فمنها على سبيل المثال تنظيم «أنصار الشريعة» في تونس، وكتيبة عقبة بن نافع في تونس، وجماعة جند الخلافة في الجزائر، وتنظيم أنصار الشريعة وكتيبة أبي محجن الطائفي في ليبيا، وتبقى «حركة الشباب الإسلامية» الصومالية في المرتبة الأولى ضمن الجماعات الإسلامية الأكثر دموية وقامت بنحو 1593 عملية.
متابعو الإرهاب المدعي الهوية الإسلامية، يشيرون إلى تهديدات تنظيم «القاعدة» بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ووصفها بأنها «أهداف مشروعة». فعلى سبيل المثال جاء في بيان لـ«القاعدة في بلاد المغرب» في الأسبوع الأول من شهر مايو (أيار) الماضي ما يلي: «قررنا أن نضرب العمق الذي يحافظ على استمرارية هذه الحكومات، والذي يمكن المحتل الفرنسي من توفير رغد العيش والرخاء لشعبه». أما العمق فكان يتناول بالإضافة إلى دول شمال أفريقياً، مالي، وبوركينافاسو، وكوت ديفوار، وجميعها في القلب الأفريقي.
ومما لا شك فيه أن وجود «القاعدة» لم ينقطع أبدا من شمال أفريقيا وغربها، وكل ما جرى هو أن صوت «داعش» كان الأكثر علواً وارتفاعاً، بينما كانت القاعدة تعود من جديد رويداً رويداً لترتيب أوراقها.
وهنا تلفت مجلة «النيويوركر» الأميركية في عدد أخير لها إلى أنه من المبكر جداً الاحتفال بهزيمة «داعش»، فمنذ صعود هذا النوع من التطرف قبل أربعة عقود، يتضح لنا أن من سماته الأكثر ديمومة، من خلال تجلياته دائمة التطور، هي قدرته على إعادة تأسيس وإحياء الحركات التي بدا أنها قد هزمت.
وفي إطار الضربات القوية التي تلقاها الدواعش في العراق، وسوريا، فكأنهم وجدوا ضالتهم في دول شمال أفريقيا وتحديداً في ليبيا، من خلال إعادة الشراكة مع القاعدة، والتي بدا وكأن لها الآن اليد العليا في المشهد الإرهابي الأفريقي سيما بعد أن استطاع أعضاء «القاعدة» إعادة تقديم أنفسهم للعالم، وهذا ما يرصده تقرير مرصد الفتاوى في مصر ودراسته التي سجلت عدداً من التحولات على مستوى الخطاب الإعلامي للتنظيم خلال السنوات الماضية، إذا سعى التنظيم إلى تبني خطاب المقاومة ضد الاستعمار، وقوات الأمن من الجيش والشرطة الوطنية في تلك البلدان، كما حاول جاهداً إضفاء صبغة اجتماعية على إصداراته حيث صور مقاومته للجيش والشرطة كرد على انتهاكات الجنود ضد المواطنين المدنيين، كما أن عملياتهم تأتي ضد الفساد والقهر الذي تتعرض له شعوب المنطقة. ولعل القارئ بعد التدقيق لدراسة «مرصد الفتاوى» يدرك تمام الإدراك أن التنظيم بات متماسكاً منذ عام 2017. فهو يرتب أولوياته في استهداف قوات الشركات الفرنسية العاملة في منطقة تجمع دول الساحل الأفريقية، وكذلك السياح والعمال والأجانب، وخاصة الفرنسيين الموجودين في المنطقة، واستهداف بعثات قوات الأمم المتحدة، واستهداف قوات الجيش والشرطة في تلك البلاد محل الدراسة، وأخيراً استهداف العملاء المتعاملين مع القوات الفرنسية أو الأفريقية.
أما كيف يمول تنظيم القاعدة عملياته الإرهابية في شمال أفريقيا وكذا غربها فإن المصادر المالية تكاد تكون معلومة للقاصي والداني، وفي المقدمة منها عمليات الاختطاف وتبادل الرهائن الأجانب، وتجارة المخدرات، وبيع السلاح وغسل الأموال، والسرقة والنهب، ثم تهريب المهاجرين، عطفاً بكل تأكيد على التبرعات والتمويلات المالية من الجماعات الداعمة حول العالم.

تونس وليبيا
يمكن القول بأن القاعدة وإن كان له وجود بشكل أو بآخر في الجزائر، فإن السلطات المحلية هناك من القوة والقدرة على ملاقاة أعضاء التنظيم الإرهابي والتعامل معهم، وقد كانت آخر معركة تلك التي جرت وقائعها في الخامس من أغسطس (آب) الماضي، حيث أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية عن القضاء على عدد من أمراء تنظيم القاعدة الإرهابي بولاية «سكيكدة» في شرق البلاد.
هنا تبقى ليبيا وتونس الدولتان المرشحتان بنسبة غالبة لعودة القاعدة لتتجلى فيها تجلياتها السلبية والإرهابية من جديد.
أما ليبيا فإن الأوضاع السياسية والاحتراب الأهلي والطائفي ووجود حكومة في الغرب تكاد تكون موالية بالمطلق للأصوليين، يجعل منها أرضا خصبة للقاعدة. كما أن ليبيا والتي تعد واحدة من أكثر الدول النفطية أهمية، تعد موقعاً وموضعاً للأطماع المالية للإرهابيين من كافة أنحاء العالم.
عطفاً على ذلك فإن القاعدة والتي ورثت تنظيم داعش في ليبيا أو تنسق مع جماعاته وخلاياه حتى الساعة، تتلاعب جيداً بالخطوط والخيوط التي رسمها القذافي سابقاً، عندما مد يد النفوذ الليبي إلى داخل دول أفريقيا، وهو الذي لم يتوقف عن وصف نفسه بأنه ملك ملوك أفريقيا.
أما تونس، فهي الدولة الثانية المرشحة لأن يمد تنظيم القاعدة نفوذه على أراضيها، ومرد ذلك لأسباب كثيرة، في مقدمتها صغر حجمها الجغرافي، وعدة وعدد قواتها المسلحة القليل نسبياً حيث لا يتجاوز 35 ألف عسكري، بالإضافة إلى أنها الدولة التي كانت مصدر ظاهرة «الربيع العربي» المكذوب، ولا تزال جماعة «الإخوان» فاعلة فيها، كما أن حكومتها لم تستطع بسط نفوذها على كافة أنحاء البلاد.
وفي حديث لوكالة «رويترز» يؤكد مصدران أمنيان تونسيان، أنه بعد أن تضاءلت جاذبية «داعش» وفقد معاقله في كل من ليبيا المجاورة والعراق وسوريا، حيث بدأ المقاتلون يعودون لديارهم، أو يبحثون عن قضايا جديدة يقاتلون من أجلها، فإن ذلك دفع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي إلى السعي لجذب مواهب جديدة بين المقاتلين السابقين من تنظيم الدولة.
قبل بضعة أشهر قتلت القوات الخاصة التونسية «بلال القبي» المساعد الكبير لعبد الملك درو كال المعروف باسم «أبو مصعب عبد الودود»، زعيم تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب»، وذلك في منطقة جبلية مع الجزائر... ما الذي كان يفعله «القبي» هناك؟
بحسب المصادر الأمنية التونسية، يبدو أن «القبي» كان بالفعل في مهمة لإعادة توحيد مجموعات مقاتلي القاعدة المتشرذمين في تونس، وهو ما دفع الجيش التونسي للتأهب للمزيد من عمليات التسلل المحتملة. ولم يكن «القبي» المتشدد البارز الوحيد الذي يتم إرساله لإعادة تجميع تنظيم القاعدة في تونس، إذ تشير مصادر أمنية تونسية إلى المدعو «حمزة النمر»، الجزائري الذي انضم للقاعدة في 2003. وأرسل لقيادة خلية في تونس لكنه قتل مع «القبي» في نفس العملية.
من هنا يتبين لنا أن هناك رابطا كبيرا بين الجزائر وتونس بنحو خاص، بمعنى أن الهيكل القيادي في دول المغرب العربي يكاد يكون حكراً وحصراً على الجزائريين، سيما المنتمين للقاعدة، بينما كان التونسيون وحتى وقت قريب يهيمنون على قيادة جماعة منافسة على صلة فضفاضة بـ«داعش» وتتمركز في نفس المنطقة.

«القاعدة» في العمق الأفريقي
لم تكن أعين الاستخبارات الأميركية لتغيب عما يجري من إحياء للقاعدة في غرب أفريقيا، حيث تنشط التنظيمات المسلحة في منطقة شبه فاصلة، تمتد على طول الحدود الجنوبية في منطقة الصحراء من مالي إلى نيجيريا، وتقول الاستخبارات العسكرية الأميركية بأن الدعم الخارجي للإرهابيين في غرب أفريقيا يأتي عادة من ليبيا، وفي القلب من تلك الجماعات تأتي جماعة «دعم الإسلام والمسلمين» وهي فرع لتنظيم القاعدة، جرى تأسيسه العام الماضي من قبل أربع مجموعات محلية، وتعرف اختصاراً باسم «جينم»، وهذه تنشط في شمال ووسط مالي،، وخصوصاً مدن كيدال، وتمبوكتو، وموبتي.
والشيء المزعج لأجهزة الاستخبارات الأجنبية هناك هو أن عملية الاندماج بين تلك الجماعات ماضية قدماً، ما أعطى القاعدة هناك زخماً جديداً، الأمر الذي يفسر زيادة عدد الهجمات.
ولفهم خطورة مشهد التطرف والإرهاب القاعدي العائد من جديد إلى الأفق الأفريقي، ربما يتعين علينا الرجوع إلى المذكرة التي أعدها الرئيس الجزائري «بوتفليقة» في يوليو (تموز) 2017، وقدمها للاتحاد الأفريقي بصفته منسق الاتحاد لشؤون مكافحة الإرهاب، حيث أشار إلى أن هناك أكثر من خمسة آلاف أفريقي من جنسيات مختلفة ينشطون مع الجماعات الإرهابية في القارة، وفي مناطق النزاعات المسلحة الأخرى، ولعل ما يؤكد مصداقية ما كشف عنه الرئيس بوتفليقة هو أن القارة السمراء تعد مركزاً لنحو 64 منظمة وجماعة إرهابية، ينتشر معظمها من أقصى الساحل الأفريقي بالغرب إلى أقصى الساحل الأفريقي في الشرق، ساهم في ذلك الانتشار تداخل الأفكار المتطرفة مع التركيبة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والفراغ الأمني في تلك المنطقة في تلك المنطقة.
ويبدو أن شمال وغرب أفريقيا مقبلان على تحولات ومعطيات أمنية مثيرة وخطيرة، سيما وأن الرابط الآيديولوجي بين «داعش» و«القاعدة» قريب جداً، وهناك إشارات كثيرة على الأرض تقول بأن التعاون محتمل جداً بين التنظيمين، عطفاً على احتمالية ظهور وليد إرهابي جديد من ثمرة التقاء الجماعتين الإرهابيتين، وربما هذا ما أماطت اللثام عنه صحيفة الغارديان البريطانية مؤخراً، إذا أشارت إلى وجود رؤية جديدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، تهدف إلى وراثة التنظيمات الإرهابية خاصة تنظيم داعش، بعد الخسائر التي مني بها في سوريا والعراق.
الصحيفة البريطانية التي استقت معلوماتها من الأجهزة الأمنية البريطانية تشير إلى أن تنظيم «القاعدة الإرهابي» شرع منذ أغسطس 2017 في حملة تجنيد إرهابيين من بعض دول المنطقة منها الجزائر، تلتها حملة ثانية أطلقتها في سوريا في سبتمبر (أيلول) الماضي.
والشاهد أنه في أعقاب تلك التقارير الأمنية سارع محللو ومسؤولو الأمن في الدول الأوروبية إلى دراسة ظاهرة التجنيد من قبل القاعدة، ومدى تأثيرها على بلدانهم مستقبلاً. هل نحن أمام خطر جديد يهدد المنطقة والعالم؟



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.