تنظيم «القاعدة» يزحف إلى المناطق «الرخوة»

توسّع في اليمن وأفريقيا... و«حمزة» في المشهد

سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
TT

تنظيم «القاعدة» يزحف إلى المناطق «الرخوة»

سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)

بعد مرور 30 عاماً على تأسيس «القاعدة»... بداية من 1987 عندما أقام أسامة بن لادن (زعيم القاعدة السابق) مخيم تدريب في أفغانستان، وأصبح فيما بعد يعرف باسم «القاعدة». بات التنظيم الذي يمتلك سجلاً أسود في العمليات الإرهابية، يتقدم في المشهد الدموي على «أطلال» غريمه «داعش»، وبدأ «القاعدة» يخطط ليكون التنظيم الأول، كما كان قبل ظهور «داعش»... والفترة الأخيرة شهدت زيادة نشاطات «القاعدة» في اليمن؛ فالتنظيم استطاع أن يستغل هذه الحرب لزيادة أسهمه، ورغم أن نشاطاته الإرهابية قلت مؤخراً، زاد أسهمه، ووجوده. فتنظيم القاعدة الذي قاد حركة «الجهاد العالمي» منذ نحو العقدين، ونفذ عملية هزت أميركا في «11 سبتمبر (أيلول)» عام 2001، كما قام بتفجير مبنى سفارتي الولايات المتحدة الأميركية في نيروبي ودار السلام بكينيا؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص عام 1998، تعرض لمرحلة «خفوت» عززها ظهور «داعش»؛ إلا أن الأخير دخل في مرحلة خسارة الأرض والنفوذ بالعراق وسوريا، ولاذت عناصره الأكثر شهرة بالفرار.
مختصون في الحركات الأصولية بمصر قالوا لـ«الشرق الأوسط»، إن «القاعدة» لن ينتهي أو يتلاشى؛ لأن عوامل البقاء موجودة وتغذيها بعض المشكلات الإقليمية والدولية... فالتنظيم لم يخف خلال السنوات السبع الماضية سعيه الحثيث للحضور ضمن دائرة التأثير في شمال وغرب أفريقيا، وجدّد خلال تلك المدة شبكاته وهياكله وتطوير خطابه الإعلامي.
وأكد المختصون، أن «القاعدة» توسع في اليمن أيضاً، والزحف قادم في المناطق «الفارغة والرخوة» مثل، الصحراء الغربية في ليبيا، وبعض المناطق بالسودان، والصومال، وإريتريا، واليمن، وسوريا، والعراق، وفي آسيا، وفي عدد من العواصم الكبيرة الضخمة التي بها عناصر لها مظلوميات داخل دولها مثل «الصين، وفرنسا، وألمانيا».

تقدم بعد زوال
قتل «بن لادن» عام 2011 عندما داهمت القوات البحرية مجمعه في أبوت آباد في باكستان، وتوقع البعض حينها أن يؤدي ذلك إلى زوال «القاعدة»؛ لكن لم يحدث هذا، حيث بحلول نهاية العام الماضي، كان «داعش» في حالة يرثى لها؛ إذ حررت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة المدن العراقية والسورية، التي كانت تحت سيطرة «داعش»، وبدأ تنظيم القاعدة يتقدم من جديد وينتعش.
من جهته، أكد عمرو عبد المنعم، الخبير المتخصص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن هناك تطوراً لتنظيم القاعدة خلال الأشهر الماضية، والذي يدلل على ذلك تطوران، الأول هو أن الفكر القاعدي لا ينتهي ولا يندثر؛ لأن عوامل بقائه واستمراره متوافرة في العالمين العربي والغربي، وبالتالي ينحصر ثم يتقدم من جديد. أما التطور الآخر، فهو الصراع الحقيقي بين «القاعدة» و«داعش»، ومن هم القادة الفعليون للتنظيم الأصلي؟ مضيفاً أن «الضربات التي تلقاها (داعش) في سوريا والعراق، جعلت (القاعدة) يحاول أن يرث الإرث الداعشي، وبخاصة أن هناك أكثر من إصدار مرئي لأيمن الظواهري زعيم (القاعدة) يهاجم فيه (داعش) وزعيمها أبو بكر البغدادي، وأنهما (أي «داعش» والبغدادي) يسعيان لشق صف المسلمين، وأنهم صاروا أسوأ من (الخوارج) فلم يكتفوا بتكفير المسلمين بما ليس بمُكفر؛ بل كفروا العلماء والصالحين والمجاهدين».

تآكل «داعش»
وقال مراقبون، إن هجوم «الظواهري» على «البغدادي» عزز الخلاف بين «القاعدة» و«داعش» منذ الإعلان عن «الخلافة المزعومة» في 2014؛ إذ كان زعيم «داعش» ومن معه يرون أن فرض «دولة» بالقوة هو الخيار الوحيد لتنفيذ حلم «الإسلاميين» في دولة؛ في حين كان يرى «القاعدة» أن طرح فكرة «الدولة الإسلامية» في الظروف الدولية الحالية يضر بالفكرة وسيكون مصيرها الفشل.
لكن انتهاء «داعش» الذي تآكلت «دولته المزعومة» عقب الانتصارات الواسعة التي حققتها القوات المتعاونة بقيادة أميركا، دفع كثيراً من «المتطرفين» لفقد انبهارهم بـ«داعش»؛ وهو ما يعني نجاحاً ضمنياً لتصور «القاعدة» عن «داعش» - على حد زعم التنظيم -، وفي سبيل ذلك يسعى «القاعدة» لاستعادة صدارة التنظيمات الإرهابية.
ويتفق المختصون والمراقبون على أن «القاعدة» يشارك «داعش» الأهداف نفسها بعيدة المدى؛ لكنها تسير على طريق مختلفة، تريد أن تسير في بطء وفي حذر... وكان تنظيم «القاعدة» يستثمر في العمل طويل المدى. رغم اختفائه كثيراً من الساحة، ظل باقياً، وها هو يتجدد الآن قائداً للحركة الجهادية العالمية.

تأهيل حمزة
وبشأن كون حمزة بن لادن مؤهلاً لقيادة «القاعدة» مستقبلاً، لم يستبعد عبد المنعم ذلك، مؤكداً قد يكون التنظيم يعد «حمزة» لخلافة «الظواهري» أو أي قيادة أخرى. ويدلل على ذلك بأن التنظيم لا يثق في أي قيادة من خارج «القاعدة»؛ لذلك يتم تصعيده من باب التوثيق. فبعض قيادات «القاعدة» تدفع بـ«حمزة» لكونه «فلاش» إعلامياً، ليقول التنظيم إنه «باقٍ». في حين ترى قيادات أخرى في «القاعدة» أنه لا يتولى القيادة إلا من هو أكبر القيادات سناً، والذي لم يتعرض لمحن، وليس لديه أي شبهات في تاريخه.
وقال عبد المنعم، إن الجانب الفكري عند «القاعدة» و«داعش» واحد؛ لكن الصراع بات واضحاً في «الخلافة» ومن يتولى «الخلافة» ومن بايع من؟، فتأخر الإعلان عن وفاة المُلا عمر (الزعيم الروحي لحركة طالبان الأفغانية) أكثر من عامين ونصف العام ساهم في إحداث فجوة كبيرة. فضلاً عن استراتيجية «داعش» في الحرب على العالم كله، لكن «القاعدة» ترى الحرب بالوكالة أو المرحلية أو تقديم عدو على عدو، أو تصفية الأعداء وفي بعض المراحل الأنظمة أو الغرب... فوجود «القاعدة» أو «داعش» لن ينتهي أو يتلاشى؛ لأن عوامل البقاء موجودة وتغذيها بعض المشكلات الإقليمية والدولية.

توسعات مستقبلية
كما رصدت الكثير من الدراسات والتقارير الدولية، تمدد «القاعدة» في شمال وغرب أفريقيا، وبخاصة دول مجموعة الساحل مضافاً إليها تونس والجزائر... وأن التنظيم يمثل التهديد الأول والأخطر على أمن واستقرار منطقة شمال وغرب أفريقيا... وسبق أن هدد فرع لتنظيم القاعدة بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ودعا إلى مقاطعتها.
وعن توسعات «القاعدة» الحالية على حساب «داعش»، قال عبد المنعم، إن «القاعدة» توسع في أفريقيا واليمن، والزحف قادم في المناطق الفارغة، فضلاً عن توسعات قادمة في المستقبل للتنظيم، وليس أمامنا سوى ملء الفراغين السياسي والفكري؛ لأنه حتى في تعامل «القاعدة» مع الغرب كانت له أكثر من طريقة، ومهم جداً أن نعرف استراتيجيات تنظيمات العنف والإرهاب... فعندما انتقل «القاعدة» من أفغانستان إلى العراق كان أقل حدة في التعامل مع الأمر السياسي، وعندما انتقل لسوريا حدث المشهد نفسه، وهذا سبب انتقال عناصر من «القاعدة» إلى «داعش».
ويؤكد المراقبون أن الوسائل التي يعتمد عليها تنظيم «الظواهري» في المناطق التي يتمدد فيها تتمثل في «عمليات اختطاف وتبادل الرهائن الأجانب، وتجارة المخدرات، وبيع السلاح، وغسل الأموال، والسرقة والنهب، وتهريب المهاجرين، والتبرعات، وتحويل الأموال، من الجمعيات غير الشرعية».

هيكلة جديدة
في غضون ذلك، أعدت دار الإفتاء المصرية دراسة عن تنظيم «القاعدة»، وكشفت عن أن التنظيم لم يخف خلال السنوات السبع الماضية سعيه الحثيث للحضور ضمن دائرة التأثير في شمال وغرب أفريقيا، وجدّد خلال تلك المدة شبكاته وهياكله وتطوير خطابه الإعلامي.
وأوضح معدو الدراسة، أن التنظيم سعى إلى الامتثال لتعليمات «الظواهري» بضرورة عمل تحالف واندماج الجماعات «المتطرفة» في محاولة لمعالجة التشتت والتخبط التنظيمي، الذي عانى منه التنظيم خلال السنوات الماضية؛ وهو ما أضعفه. لذا؛ عملت خمسة أفرع تابعة للتنظيم في المنطقة على تبني نهج التحالف والاندماج تحت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، وهو يعد التنظيم الأخطر في المنطقة منذ تأسيسه في 2017 لجهة عدد العمليات في مالي.
ويشار إلى أن لتنظيم القاعدة 5 أفرع، هي «جبهة النصرة في سوريا، والقاعدة في شبه الجزيرة العربية باليمن، والقاعدة في شبه القارة الهندية بجنوب آسيا، والشباب في الصومال، والقاعدة في المغرب الإسلامي بشمال أفريقيا»، وهناك روابط مع مجموعات أخرى في سوريا، وأفغانستان، وباكستان، وغرب أفريقيا.

الذئاب المنفردة
في هذا الصدد، لفت عمرو عبد المنعم إلى أنه لا بد من أن نفرق بين التنظيمات التي تواجه أنظمة عربية أو غربية، والتي تولد من رحم هذه التنظيمات، والتي تبدأ من الصفر، فالتنظيمات الكبيرة مثل «القاعدة» ولها تاريخ، إذا لم تتلاشَ فسوف تتحول إلى تنظيمات أخرى؛ لذلك سوف يتوسع تنظيم القاعدة في مناطق أخرى «فضاء ورخوة»، مثل، الصحراء الغربية في ليبيا، ومناطق بالسودان، والصومال، وإريتريا، وبعض المناطق في اليمن، وسوريا، والعراق، وفي آسيا، وفي عدد من العواصم الكبيرة الضخمة التي بها عناصر لها مظلوميات داخل دولها مثل «الصين، وفرنسا، وألمانيا»، مضيفاً: ينشط القاعدة في هذه الأماكن عن طريق «الذئاب المنفردة» أو ما يعرف باسم «العملية الواحدة»، وفيها عنصر واحد يساعده آخر، الأول يتم توقيفه من قبل سلطات الدول أو يقتل في عملية انتحارية، والآخر يذهب للتنظيم بالعملية ليعلنها للجميع... لذا؛ سوف نجد نشاطاً أكبر لـ«القاعدة» وهذا مكمن الخطر.
ويرى المراقبون أيضاً، أن كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريبات على يد عناصر «القاعدة» انفصلت عن التنظيم خلال السنوات الماضية وانضمت إلى تنظيمات أخرى مثل «داعش».
ويسعى «القاعدة» إلى ضم هؤلاء «الدواعش» الآن. وذكرت دراسة دار الإفتاء، أنها اعتمدت على شواهد كثيرة تدل على تنامي «القاعدة» منذ عام 2017 بعد أن تمكن التنظيم من إعادة بناء قدراته بهدوء خلال السنوات الماضية، في ظل توقعات بأن يكون التنظيم أكثر نشاطاً وخطورة على الأمن القومي لعدد من المناطق الإقليمية ودول بعينها في شمال وغرب أفريقيا.
وأكدت الدراسة وجود علاقة قوية بين المراجعات التي أعدها قيادات من التنظيم بهدف إعادة إحيائه وتجديد نشاطه، وبين ممارسات التنظيم خلال السنوات الماضية؛ وهو ما يؤشر إلى أهمية تلك المراجعات في فهم ورصد أهم الاستراتيجيات التي سينطلق منها التنظيم لتنفيذ عملياته، كما أنها تساعد على رصد الأهداف التي يمكن للتنظيم استهدافها في عمليات تمدده. كذلك، تعطي صورة أوضح لفهم خطاب التنظيم الإعلامي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.