في مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، قتلوا كامل شياع. كمنوا له في وضح النهار، في شارع بغدادي مزدحم. ترجلوا من سيارتهم بهدوء. أدوا المهمة كما يجب، وانسحبوا بهدوء. ما زالوا أحراراً بعد عشر سنوات.
لم يكن كامل شياع مسؤولاً حكومياً أو حزبياً كبيراً، ليشكل خطراً على أحد. لكنه كان حالماً كبيراً، مثل كثير من المثقفين العراقيين، الذين دفعوا ثمناً خيالياً، قمعاً، وسجناً، ومنفى لمجرد أنهم يحلمون، ربما في الوقت الخطأ. وأتاحت الوظيفة لكامل كمستشار ثقافي أن يكون في قلب الصراع الدامي ضد قوى الظلام التي احتلت المشهد السياسي والفضاء الثقافي بعد 2003. وكالعادة، يحضر المسدس دائماً هنا. إنهم لا يملكون غيره.
مباشرة بعد سقوط التمثال في 2003، غادر كامل شياع منفاه «السعيد» في بلجيكا إلى العراق، كما فعل عدد، ولو قليل، من المثقفين العراقيين المنفيين، مدفوعين بقوة الحلم. كانوا يصارعون لالتقاط شذرات من هنا، ولملمة كسر من هناك، لعل الحلم يتجسد يوما في زمن يعرفون أنه بعيد جداً. ولكن أليست هذه هي مهنة المثقف الحقيقي: زراعة الحلم؟
لم يدع كامل شياع في كتاباته ورسائله الشخصية أي ادعاءات بطولية بأنه عاد إلى العراق «للمساهمة في بناء واقع جديد، ووطن آخر». بالطبع، هذا هو الهدف النهائي، الذي يكاد يكون خيالياً تماماً، لحد الآن في الأقل، لأن ادعاءات كهذه ستبدو مجانية، بلا معنى تقريباً، لكثرة استهلاكها من الجميع، بالإضافة إلى كونها أهدافاً مجردة، عائمة في الهواء.
يقول في رسالة له بعد مرور خمس سنوات على عودته: «صرت أدرك أن التاريخ، وتاريخ العراق تحديداً، يستغرق وقتاً طويلاً، وأن معنى المفاهيم لا يتحقق إلا بعد نهاية جولات التناقض والصراع، وأن المسألة في شكلها الملموس ذات قيمة وجودية، أي تخص الفرد». ويذكر في الرسالة نفسها: «لا أعلم إن كنت شجاعاً حين اخترت العودة إلى بغداد قبل خمس سنوات... لا أصدق نفسي مرور هذه السنوات وأنا في هذا المختبر القاسي الذي فرض علي مرة أن أكون متفائلاً، ومرة أن أكون يائساً، وثالثة قدريا، ورابعة مازوخياً، وخامساً لا أدرياً، لا أعرف أين أنا ولماذا؟».
ولكن اختبار الذات في المختبر القاسي، لا يبدأ من هنا، ولو أنه الاختبار الأقسى. إنه يبدأ من لحظة الاختيار، التي سماها سورين كيركيغارد، بـ«لحظة الجنون»، لحظة اختيار مغادرة المنفى، بكل ما يعنيه من مكان، قد يكون مغرياً، وحياة تكرست واتخذت أشكالاً معينة، واطمئنان نرتاح إليه، ونألفه مع الأيام حتى يتحول إلى خدر.
إنها ليست فقط لحظة جنون، بل لحظة تراجيدية، بكل ما تتضمن من صراع عنيف مع الذات، ومع طمأنينتها في المكان ومعه، ونوازعها، وعاداتها الأليفة، ورخاوتها، وقبل كل شيء مع نرجسيتها، التي قد لا تبين على السطح، لكنها تبقى كامنة في الأعماق.
لكن من قلب هذه التراجيديا، تبزع لحظة الاختيار الحقيقية عند المثقف الحقيقي، الذي ليس له سوى تعريف واحد: الانسجام بين الذات والفكر. والمثقفون بهذا المعنى قليلون جداً ليس الآن فقط، في هذا المكان فقط، وإنما في كل زمان ومكان. وهم يعرفون أنهم سيدفعون ثمنا باهظاً جداً، كما حصل في كل التاريخ.
اغتيال مثقف
اغتيال مثقف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة