إنتاج النصِّ المكتوب وعزف القطعة الموسيقيَّة

بعد أيام تصدر عن «دار الآداب» في بيروت الترجمة العربية لكتاب إدوارد سعيد «العالم والنص والناقد». وهي مناسبة لمحبيه بلغة الضاد، لاكتشاف المزيد عن آرائه في النقد ومدارسه ومساره الحديث ومعوقاته التطبيقية. يتبنَّى مؤلِّفُ «الاستشراق» في كتابه الشيق هذا الذي ترجمه إلى العربية محمد عصفور، وراجعه وقدم له محمد شاهين، فكرة تقول إنَّ الخطاب النقدي الحديث قد تعزّز بفضل كتابات دريدا وفوكو مثلاً، وبتأثيرات الماركسيَّة والبنيويَّة والألسنيَّة والعلم النفسيّ؛ إلَّا أنَّ الأساليب والمدارس النقديَّة كانت ذاتَ تأثيرات معوِّقة أيضاً لكونها أَخضعت الأعمالَ الأدبيَّة لمتطلِّبات النظريَّة، متجاهلة العلائقَ المعقَّدة التي تربط تلك الأعمالَ بالعالم. ويُظهر سعيد أنَّ على الناقد أن يحتفظ بمسافة عن النظريَّات النقديَّة والعقائد المسيطرة.
ويسأل الكتاب أسئلة جريئة، ويقدِّم معاني جديدة، مرهقة ولكنَّها قويَّة، لمؤسَّسة النقد في المجتمع الحديث. وتنفرد «الشرق الأوسط» بنشر جزء من الفصل الأول من هذا الكتاب الذي يبدأ توزيعه في بيروت منتصف الأسبوع على أن يصبح متوفراً في الدول العربية بدءاً من نهاية الشهر.
قَصَرَ عازف البيانو الكندي ﮔﻠِﻦْ ﮔﻮلْد (Glenn Gould) عمله على تسجيل الأسطوانات والعمل في محطّات التلفزة والإذاعة منذ أن هَجَرَ القاعات المخصَّصة للحفلات الموسيقيَّة في سنة 1964. ويختلف النقَّاد أحياناً عمَّا إذا كان عزفُ ﮔﻮلْد هذه القطعة الموسيقيَّة المكتوبة للبيانو أو تلك مقنعاً دائماً أو أحياناً فقط، ولكن لا شكَّ في أنَّ كلَّ عزفٍ قدَّمه، له على الأقلّ طابعُه الخاصّ به. ومن المناسب في سياقنا الرَّاهن أن نشير إلى مثالٍ يوضِّح لنا طريقة العمل التي أخذ ﮔﻮلْد يتَّبعها مؤخراً. فقد أصدر في سنة 1970 تسجيلاً عَزَفَ فيه سيمفونيَّة بيتهوفن الخامسة بالصيغة التي كتبها لِسْت للبيانو المنفرد. وإذا ما ضربنا صفحاً عمَّا يثيره اختيار ﮔﻮلْد الغريب هذا فينا من دهشة (وقد كان هذا الاختيار أغرب من المعتاد حتَّى بالنسبة إلى هذا العازف الغريب الأطوار الذي ارتبط أداؤه المثير للجدل إمَّا بالموسيقى الكلاسيكيَّة وإمَّا بالموسيقى المعاصرة)، فإنَّنا لا نملك إلَّا أن نلاحظ عدداً من الأمور الغريبة في هذا الإصدار بالذات. فصياغة لِسْت لسيمفونيات بيتهوفن لتُعزف على البيانو المنفرد لم تكن مطبوعة بطابع القرن التاسع عشر فقط، بل بأسوأ ما في ذلك القرن من موسيقى تُكتَب للبيانو، إذ إنَّ تلك الصِّيغة لم تكتفِ بتحويل التجربة الموسيقيَّة التي يحصل عليها عشَّاق الموسيقى في قاعة الحفل الموسيقي إلى وليمة يستعرِض فيها العازف الحاذق قدراته، بل غَزَتْ ما كُتِبَ لآلات موسيقيَّة أخرى وحوَّلت موسيقاها إلى مناسبة باذخة لعرْض مواهب العازف. وتنحو معظم الصِّياغات إلى أن تبدو للمستمع كثيفة عَكِرَة لأنَّ آلة البيانو كثيراً ما تحاول تقليد الأثر الذي يُحدثه النَّسيج الأوركستراليّ. وقد كانت صياغة لِسْت للسيمفونيَّة الخامسة أقلَّ إثارة للاستياء من معظم الصِّياغات الأخرى، وذلك بالدَّرجة الأولى، لأنَّ لِسْت أبدع في تشذيبها لتُعزف على البيانو، ولكنَّ الصَّوت à حتَّى في أصفى لحظاته à لم يكن هو الصَّوت الذي اعتاد ﮔﻮلْد على إنتاجه. فالصَّوت عنده كان أوضح وأنقى من ذلك الذي تجده عند كلِّ مَن عداه من عازفي البيانو، وهذا هو السَّبب الذي مكَّنه من تحويل تناغمات باخ إلى ما يقرب من التجربة البَصَريَّة. نقول باختصار إنَّ صياغة لِسْت كانت بالنسبة إليه لُغَة مختلفة تمام الاختلاف. ومع ذلك فإنَّ نجاح ﮔﻮلْد في عزفها كان نجاحاً عظيماً ترك فينا الإحساس بأنَّ ﮔﻮلْد لِسْتي الطابع مثلما كان في الماضي قد ترك فينا الإحساس بأنَّه باخِيٌّ.
ولم يكن ذلك كلَّ ما في الأمر. فقد رافقت الأسطوانة الرئيسة أسطوانة أخرى سُجِّلت عليها مقابلة طويلة خَلَتْ من الطابع الرَّسمي بين ﮔﻮلْد وأحد المسؤولين في الشركة التي أصدرت التسجيل فيما أذكر. وفيها أخبر ﮔﻮلْد محدِّثه بأنَّ أحد أسباب هروبه من العزف المباشر أنَّه كانت قد نشأت لديه عادة سيِّئة في أثناء العزف؛ عادة أقربُ إلى المبالغة الأسلوبيَّة. فقد لاحظ أنَّه في جولاته في الاتِّحاد السوفياتي مثلاً، كانت القاعات الكبيرة تجعله يشوِّه عباراتٍ من بارتيتا لباخ مثلاً (وهنا مثَّل على قوله بعزف العبارات المشوَّهة) ليتمكَّن من جذب انتباه الجالسين في شرفات الطابق الثالث والتوجُّه إليهم على نحوٍ أفضل. ثمَّ عزف العبارات ذاتها ليوضِّح كيف يعزف تلك العبارات في غياب الجمهور عزفاً أدقَّ وأقلَّ سعياً لغواية مستمعيه.
قد يبدو إبرازُ المفارقات الطفيفة في هذا الموقف، بما فيه من صياغة، ومقابلة، وعزف لتوضيح الأساليب، أمراً مبالغاً فيه. ولكنَّ الموقف يخدم فكرتي الأساسيَّة، وهي أنَّ مناسبة تتضمَّن وثيقة وتجربة أدبيَّة أو استطيقيَّة من ناحية، والنَّاقد و«دُنْيَوِيَّتَه» من ناحية ثانية، لا يمكن أن تكون مناسبة بسيطة. فاستراتيجيَّة ﮔﻮلْد أقربُ إلى المحاكاة السَّاخرة لكلِّ الاتِّجاهات التي قد نسلكها للاقتراب مما يحدث بين العالم والشيء الاستطيقي أو النَّصّيّ. فلدينا هنا عازفُ بيانو مثَّل في يوم من الأيَّام شخصيَّة العازف الزاهد (في استعراض القدرات) خدمة للموسيقى، وقد تحوَّل إلى عازفٍ لا يخجل من استعراض هذه القدرات على نحوٍ لا يمتاز فيه موقفُه الإستطيقي عن موقف المومس الموسيقيَّة في شيء؛ كلُّ ذلك من رجل يُسَوِّق أسطوانته على أنَّها «الأولى» من نوعها، ثمَّ لا يضيف إليها مزيداً من الموسيقى، بل نوعاً من المباشرة الهادفة إلى جذب الأنظار عن طريق المقابلة الشَّخصيَّة. وقد ثُبِّتَ كلُّ ذلك على شيءٍ قابلٍ للتكرار الميكانيكيّ؛ شيءٍ يتحكَّم في كلِّ علائم المباشرة الواضحة (صوت ﮔﻮلْد، الأسلوب الطاووسي لصياغة لِسْت، المقابلة التي تتخلّى عن أسلوب الخطاب الرَّسميّ، إلى جانبِ عزفٍ فُصِل عن عازفه)، أي على أسطوانة بلاستيكيَّة سوداء، صمَّاء، لا اسم لها يمكن التخلُّص منها بسهولة.
ولو فكَّر المرءُ في ﮔﻮلد وأسطوانته، فإنَّه سيكتشف توازيات مع الظُّروف التي تحيط بالأداء المكتوب. فهناك أوَّلاً الوجودُ المادِّي للنصِّ، وهو وجودٌ قابلٌ للاستنساخ مرَّاتٍ يفوق عددُها الخيال في أحدث مرحلة من مراحل عصر وولتَر بِنْجَمِن. لكنَّ التسجيلَ والشيءَ المطبوع يخضعان لضوابطَ قانونيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة عندما يتعلَّق الأمر بالاستمرار في إنتاجهما وتوزيعهما. أمَّا سبب توزيعهما وكيفيَّة هذا التوزيع فهما أمران مختلفان. والشَّيء المهمُّ هو أنَّ النصَّ المكتوبَ الذي ينتمي إلى النُّصوص التي تعنينا، هو في الأصل نتيجة للاتصال المباشر بين المؤلِّف وواسطة التعبير. أمَّا بعد ذلك فإنَّ من الممكن تكراره لفائدة العالم وفق شروط يضعها العالم في هذا العالم. وعلى الرّغم من كلّ اعتراضات المؤلِّف على ما يتلقّاه من اهتمام وسائل الإعلام به، فإنَّ عمله يصبح جزءاً من العالم وخارج حدود سيطرته بمجرَّد أن يُعمل من النصِّ أكثر من نسخة واحدة.
ثانياً، إنَّ إنتاج النصِّ المكتوب وعزف القطعة الموسيقيَّة مثالان من أمثلة الأسلوب بأبسط معاني هذه الظاهرة البالغة التعقيد وأقلِّها مدعاة للإشادة. وهنا أيضاً سأتعسَّف وأستبعد سلسلة كاملة من التعقيدات المهمَّة للتَّركيز في الأسلوب بصفته، من وجهة نظر المرسل والمستقبل، العلامة الفارقة القابلة للتكرار والحفظ لمؤلِّفٍ يتعامل مع جمهور. فأسلوب المؤلِّف هو في جانبٍ من جوانبه ظاهرة تعتمد على التكرار والتلقّي، سواء اقتصر الجمهور على شخص واحد أو شمل العالم بأسره. ولكن ما يجعل الأسلوب قابلاً للتلقّي بصفته بصمة مبدعِهِ، مجموعة من الخصائص التي قد نسمِّيها لهجة الكاتب الخاصَّة أو صوتَه أو تفرُّدَه عن سواه، تفرُّداً لا يقبل الاختزال. وتكمن المفارقة في أنَّ شيئاً مجرَّداً كالنَّصّ أو الأسطوانة المسجَّلة يمكنه مع ذلك أن يعطينا لمحة أو أثراً من شيء يبلغ من حيويَّته ومباشرته وسرعة زواله ما يتَّصف به «الصوت» الإنسانيّ. وما تفعله المقابلة التي أجريت مع ﮔﻮلْد هو أنَّها تكشف على نحوٍ جارح عن حاجة النصّ الضمنيَّة المتكرِّرة لأن يجري تلقِّيه والتعرُّف إليه حتَّى في أصفى أشكاله، وقد حُفِظَ في تسجيل ما. ومن أشكال هذه الحاجة المألوفة «ترتيبُ» لقاء (أو «تسجيل» لقاء كهذا) يتحدَّث فيه صوتٌ ما وهو يخاطب شخصاً آخر في وقت محدَّد وفي مكان معيَّن. وإذا ما نُظِرَ إلى الأسلوب على هذا النحو، فإنَّ الأسلوب يقوِّض فكرة الوجود الصامت المنفصل عن العالم للنصِّ المفرد الذي لا يخضع للظروف. وليس السَّبب أنَّ أي نصٍّ من النصوص (إذا لم يجرِ إتلافُه مباشرة) يتكوَّن من شبكة من القوى المتصارعة فقط، بل إنَّ النصَّ، بحكم كونه نصاً، هو أيضاً نصٌّ في العالم، ولذ فهو نصٌّ يخاطب كلَّ من يقرأ، تماماً مثلما يفعل ﮔﻮلْد طوال الأسطوانة نفسها التي قُصِدَ منها أن تمثِّل انسحابَه من العالم وأسلوبَه الصامتَ «الجديد» في العزف بلا جمهور يستمع إليه على الهواء مباشرة.
وما لا شكَّ فيه أنَّ النصوص لا تتكلَّم بالمعنى المألوف للكلمة. ولكن أي قولٍ يضع الكلام (وهو فعلٌ حدودُه الموقف والإحالات على ما حوله) في موقف التعارض التامّ مع النصّ (وقد فُهم على أنَّه إيقافٌ لجريان الكلام في العالم) قولٌ مضلِّلٌ يتَّصف بالتبسيط المُخِلّ. تأمَّل ما يقوله بول ريكور عن هذا التعارض الذي يقول إنَّه وضعه من أجل التوضيح:
ترتبط وظيفة الإحالات في أثناء الكلام بالدَّور الذي يؤدِّيه الموقف الخطابي ضمن تبادل اللُّغة نفسها: ففي تبادل الكلام يكون المتكلِّمان حاضرين، أحدُهما في مقابل الآخر، ولكن أيضاً تجاه ظروف الخطاب المحيطة بهما بما تتضمنه من خلفيَّة ثقافيَّة معروفة للمتكلِّمَيْن، وليس بما تتضمنه تلك الظروف من محسوسات فقط. ولا يكتمل معنى الخطاب إلَّا من حيث صلتُه بهذا الموقف. وما الإحالة على الواقع في نهاية المطاف سوى إحالة على الواقع الذي يمكن أن يشار إليه «بشأن» ذلك الخطاب بالذات، إن جاز التعبير. فاللُّغة... وكلّ الإشارات التي يُفهم منها أنَّها تحيل على اللُّغة تعمل على تثبيت الخطاب في ظروف الواقع الذي يحيط بذلك الخطاب. ولهذا، فإنَّ المعنى المثالي لما قد يقوله المرء يتَّجه نحو الإحالة الواقعيَّة، أي إلى ذلك الشيء الذي يجري الحديث عنه...
ولكن هذا لا ينطبق على النصّ عندما يحلُّ محلَّ الكلام... فالنصُّ لا يخلو من الإحالة. وواجب القراءة بصفتها تفسيراً أن تجعل الإحالة واقعاً. فالنصُّ يكون في أثناء التوقُّف الذي تؤجَّل فيه الإحالة «معلَّقاً في الهواء» بشكلٍ من الأشكال، خارجَ العالم أو بلا عالم. ويكون كلُّ نصٍّ بهذا الطمس لكلِّ العلاقات التي تربطه بالعالم حراً لأن يدخل في علاقات مع كلِّ النُّصوص الأخرى التي تأتي لتحلَّ محلّ الظروف الواقعيَّة التي يُظهِرها الكلام المباشر.
والكلام والواقع المحيط بنا يوجدان، وَفقاً لريكور، في حالة حضور، بينما توجد الكتابة والنَّص في حالة معلَّقة، أي خارج الواقع المحيط بنا، إلى أن يتحوَّلا إلى واقعٍ له صفة الحضور على يد القارئ النَّاقد. ويجعل ريكور الأمر يبدو كما لو أنَّ النصَّ والواقع المحيط بنا، أو ما سأدعوه بالدُّنيويَّة، يلعبان لعبة الكراسي الموسيقيَّة، بحيث يعترضُ أحدُهما الآخرَ ويحلّ محلَّه وفقاً لإشاراتٍ بالغة الوضوح. ولكنَّ هذه اللُّعبة تجري في رأس المفسِّر، وهو مكان نفترض أنَّه يخلو من صفة الدُّنيويَّة أو الظروف المحيطة. وبذا يتحوَّل وضعُ النَّاقدِ المفسِّر إلى شيءٍ أشبهَ بالبورصة المركزيَّة التي يجري في قاعتها تبادلٌ يتبيَّن فيه أنَّ النصَّ يعني س بينما هو يقول ص. ولكن ما الذي يحدث لما يدعوه ريكور الإحالة المؤجَّلة في أثناء التفسير؟ كلُّ ما يحدث، بحسب نموذج التبادل المباشر، هو أنَّ الإحالة تعود إلينا وقد اكتملت وتحقَّق وجودها بقراءة الناقد.