{الجيل الخامس} من الإرهاب

الشائعات مسار غير تقليدي لتفكيك المجتمعات

جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
TT

{الجيل الخامس} من الإرهاب

جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)

هل بات العالم على موعد مع نوع جديد من أنواع حروب الإرهاب تستخدم فيها الشائعات أداة لتقويض السلام المجتمعي للدول، ونشر الخوف والذعر بين المواطنين، مما يؤدي إلى تفكيك المجتمعات وهدم الدول من الداخل ودون إطلاق رصاصة واحدة من الخارج؟
الشاهد أنه إذا كان الجميع قد اتفق على تسمية استخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة لتفكيك مفاصل الدولة باسم حروب الجيل الرابع، فإن هناك إجماعاً غير مسبوق على أن نشر الشائعات تعتبر آلية الجيل الخامس من الحروب.
ما هي الشائعة بداية؟ قطعاً هي الترويج لخبر أو أخبار زائفة، سرعان ما يتم تداولها في المجتمع، ورويداً رويداً تكتسب مصداقية، حتى وإن كانت مزورة ومنحولة، والهدف عادة منها التأثير على توجهات المواطنين، ودفعهم في دروب ومسالك تتسق دائماً لأهداف مطلقي الشائعات، أي أنها أداة من أدوات التوجيه النفسي والمعنوي بشكل سلبي غير بناء.
والمؤكد أن التاريخ، سيما في النصف الأول من القرن العشرين، قد شهد نموذجاً شهيراً لترويج الإشاعات قام به وزير الإعلام والدعاية الألماني (جوزيف غوبلز) وهو صاحب العبارة الشهيرة: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، وقد عمد غوبلز إلى تسخير رباعيات العراف الفرنسي الشهير ميشيل نوسترداموس، للترويج لانتصار هتلر في الحرب العالمية الثانية، غير أن الحلفاء اكتشفوا حقيقة زيف إشاعاته ومن ثم تعاملوا معه بنفس الأداة، الأمر الذي جعله في نهاية الأمر يفقد اتزانه وينتحر خوفاً من الوقوع حياً في أيدي الحلفاء.

مصر والإرهاب... حروب الإشاعات
لماذا يتم إعادة فتح هذا الملف مرة جديدة في الوقت الراهن؟
يبدو أن مصر تواجه هجمات إرهابية جديدة عبر الإشاعات فخلال شهر يوليو (تموز) الماضي كانت الأجهزة الأمنية المعنية في ربوع الكنانة ترصد واحداً من مخططات «الحرب البديلة»، والذي لجأت إليه الجماعات الظلامية التي تهدد وحدة مصر، بقيادة الإخوان المسلمين، لجأ الإخوان ومن لف لفهم إلى الإشاعات أسلوباً بديلاً بعد فشل تنفيذ مخططاتهم الإرهابية العدائية، وبلغ الأمر حد انتشار «ثلاث شائعات» في الساعة، عطفاً على تأسيس جيش إلكتروني خارجي يعمل على بث المواد المغلوطة، بهدف نشر الإحباط واليأس والتغطية على إنجازات الحكومة وجهودها.
خلال تخريج إحدى دفعات الكليات العسكرية الشهر الماضي أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أن الحكومة المصرية قد واجهت خلال الأشهر الثلاثة الماضية أكثر من عشرين ألف شائعة الهدف منها تدمير الدولة ونشر البلبلة والإحباط من أجل تحريك الناس لتدمير بلدهم.
ما قاله الرئيس السيسي كشفت عنه دراسة حديثة أشرفت عليها لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مجلس النواب المصري، فقد أشارت في تقرير حديث لها عن إطلاق عدة آلاف من الشائعات خلال شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) من عام 2017.

النسيج المجتمعي هو الهدف
خذ إليك عينة من تلك الشائعات لتعرف مقدار الضرر الذي توقعه على النسيج المجتمعي لمصر، ومنها القول إن الحكومة المصرية قامت بخلط دقيق القمح بمواد كيميائية من أجل تقليل خصوبة المصريين، وبالتالي وقف النمو السكاني. وللقارئ أن يتخيل ردات الفعل عند البسطاء من المصريين وكذا الفئات التي تعاني من ضغوطات اقتصادية وكيف لمثل هذه الشائعات أن تولد انفجاراً مجتمعياً.
بعض آخر من تلك الشائعات استهدف النظام البنكي المصري، والذي روج المرجفون أنه أصيب بالإفلاس، وأن الحكومة يمكن أن تضع أياديها على أرصدة وودائع الشعب لصالحها.
نشر الشائعات يمضي كذلك لجهة الترويج الكاذب لبيع مصر أصولها الوطنية كالقول ببيع الأراضي المحيطة بقناة السويس لمستثمرين أجانب، وقد وصل الأمر حد إشاعات تتصل بالوجبات الرئيسة للمصريين وفي محاولة لا تخفى عن الأعين للوقيعة بين الدولة وبين الشعب، من عينة استيراد وزارة الزراعة المصرية بيض من الصين مصنوع من البلاستيك، وكذلك أسماك بلاستيكية وأرز بلاستيكي، وقد بات الوطن على هذا النحو تحت طائلة إرهاب الشائعات.

وسائل التواصل ونشر الشائعات
يعن لنا أن نتساءل هل أدت وسائط التواصل الاجتماعي دوراً غير محمود في هجمات الإرهاب الجديد هذا؟
يمكن القطع بأن ذلك كذلك ومن أسف، بمعنى أنه تم تحويل وتحوير الهدف الأساسي منها والالتفاف عليه، فعوضاً عن أن تكون جسوراً للبناء، باتت معاول للهدم في جسد الدول.
لم تعد أساليب الإعلام القديمة من عينة الصحف أو أجهزة التلفاز هي التي تشكل الرأي العام في واقع الأمر، بل أدوات من عينة «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» هي التي تفعل ذلك، ومن هنا جاء استخدام الجماعات الأصولية لها لنشر المعلومات المغلوطة ونظريات المؤامرة والشائعات، سيما وأنه المعروف إعلامياً أن «الأخبار السيئة هي الأخبار تلك التي تلفت انتباه الناس، وتدفعهم إلى مواصلتها ومن ثم التهويل من شأنها».
كما أن مسالة تدوير الشائعات تعطي مجالاً للمواطنين لأن يتفاعلوا مع نوعين من الأخبار الأول يتصل بالمغلوطة والثاني يقوم على تفعيل نظرية المؤامرة.

إرهاب الإخوان ونزع الثقة
حين خرج المصريون في 30 يونيو (حزيران) من عام 2013 مطالبين بإسقاط حكم «الإخوان»، كان الجميع يدرك أن المعركة مع التنظيم الإرهابي في حال المبتدأ، وأن المقبل سيحمل أخباراً سيئة كثيرة من جراء شهوة الانتقام الغالبة لديهم.
والمؤكد أنه عبر خمس سنوات خلت وحتى الساعة لا تزال حروبهم لنزع ثقة المواطنين من النظام قائمة وإن مضت في اتجاهين، الأول يتصل بالإرهاب المعنوي، أي نشر الشائعات عبر وسائل الإعلام، وهنا يظهر الدور الخطير لبعض الدول التي تحتضن الهاربين من العدالة من الإخوان لا سيما قطر وتركيا، والبعض الآخر القائم في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة، وهؤلاء وأولئك بما لديهم من أدوات إعلامية عبر الإنترنت وقنوات فضائية يغازلون صباح مساء كل يوم أنصارهم المؤدلجين ويعرجون على آخرين.
أما العنف اللفظي، ففيه أيضاً تستخدم الشائعات كمطية لتحقيق رغبات أصحابها، فعندما تطلق إشاعات حول عمليات إرهابية قادمة، أو استهداف تجمعات بعينها، فإن الهدف الأكبر وهو نزع ثقة المواطن يتحقق من تلقاء ذاته، ومن دون الحاجة إلى عمليات حقيقية بالفعل، ذلك أن المواطن يهزم نفسيا وقبل أن يدلف إلى أي مواجهة حقيقية.
ولأن ترويج الشائعات يتصل اتصالاً وثيقاً بالأنساق الدينية والإيمانية، بوصفه نوعاً من أنواع الكذب الذي تحرمه الأديان السماوية، وترفضه بالقدر نفسه الشرائع الوضعية، لذا رأينا المؤسسات الدينية تأخذ بزمام أمورها لتدين هذا التوجه غير الخلاق. في هذا الصدد كان مرصد الإفتاء في مصر يدين لجوء الجماعات الإرهابية لنشر الشائعات والأكاذيب، ويوضح أن هناك نوعين من تلك الشائعات الخطيرة على الوطن والمواطنين:
النوع الأول: هو الشائعات الاستراتيجية، التي تستهدف ترك أثر دائم أو طويل المدى على نطاق واسع، ويستهدف هذا النوع من الشائعات جميع فئات المجتمع بلا استثناء.
النوع الثاني: هو الشائعات التكتيكية، والتي تستهدف فئة بعينها أو مجتمعاً بذاته لتحقيق هدف سريع وفوري، والوصول إلى نتائج قوية وفورية لضرب الجبهة الداخلية ونشر الفتنة بين أفراد المجتمع.
ولأن الظاهرة ليست محلية فقط بل عالمية أي ظاهرة الشائعات، لذا استمعنا إلى البابا فرنسيس بابا الفاتيكان متحدثاً عن الصحافة القائمة على الشائعات والتي تشكل شكلاً من أشكال الإرهاب، وقد جاء حديثه أمام زعماء الرابطة الوطنية للصحافيين، حين أكد على ضرورة بذل الجهد الإضافي سعياً وراء الحقيقة، خاصة في عصر تستمر فيه التغطية الإخبارية على مدار الساعة، ومضيفاً أن نشر الشائعات هو مثال للإرهاب ومثال يوضح كيف يمكنك أن تقتل إنسان بلسانك.

في كيفية التصدي لحروب الشائعات
ولعل تناول تلك الظاهرة الإرهابية من دون محاولة تقديم اجتهادات متواضعة لمجابهتها يضحى عملاً غير مكتمل، ولهذا فإن السؤال كيف لنا أن نتصدى لهذا النوع من حروب الإرهاب؟
الشاهد أن الأمر ليس باليسير، وبخاصة في زمن تسافر بل تطير فيه الأفكار بأجنحة عابرة للسدود والحدود، لكن تبقى هناك اجتهادات كثيرة بعضها تقوم به الحكومات، والبعض الآخر يقع عبئه على كاهل المواطنين أنفسهم.
أما ما يخص الحكومات فإنه يتعين على أجهزة الدول ووزاراتها المعنية الرد السريع على كل شائعة يتم الترويج لها، رداً شافياً وافياً، أميناً صادقاً، لا يترك مجالاً للشكوك أن تتسرب، مما يعزز الثقة بين المواطنين، وبين أجهزة الدولة، وأن تكون وسائل الإعلام الحكومية من الصدق والمصارحة، بحيث لا يلجأ المواطن إلى مصادر أخرى بديلة وعادة ما تكون مغرضة للحصول على المعلومات والحقائق الإخبارية التي تتصل بحال الوطن والمواطنين.
أما فيما يخص إشكالية وسائط التواصل الاجتماعي والكثير منها، إن لم يكن أغلبها، يأتينا من خارج الحدود المحلية والإقليمية، فإنه لا بأس ولو بشكل مؤقت فرض نوعاً من أنواع الرقابة على تلك المواقع، وحظر ما يعرض الأمن القومي من جرائها للخطر، وفي هذا الطريق مضت وتمضي دول كبرى مثل الصين بنوع خاص، والتي أدركت حكوماتها المتعاقبة أن الولايات المتحدة تسعى لتفكيكها من الداخل عبر ترويج الشائعات ونشر الفتن المعنوية، إن جاز التعبير.
والثابت أنه لا توجد هنا مشكلة ما بين الحريات الشخصية وأمن المجتمعات، فطالما كان الفرد غير مخالف لقوانين البلاد، فهو آمن، أما الذين يتوجب أن تنتقص حرياتهم الشخصية فهم أولئك القائمون على التخطيط لنشر الشائعات وهدم كيانات الدول. أما الجزء الآخر، فيتصل بالمواطنين أنفسهم، فالمعروف أن الحاضنات الشعبية العربية والشرقية عامة، تميل إلى ترديد الأحاديث وتكرارها من دون تنقيح أو مساءلة وكأنها مسلمات حقيقية، وعليه فإن البعض من دون وعي يشارك في إذكاء جذوة الشائعات، بالتمام والكمال كمثل أولئك الذين يتعاطون مع وسائط التواصل الاجتماعي وعبر آلية «الشير أو المشاركة».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟