{الجيل الخامس} من الإرهاب

الشائعات مسار غير تقليدي لتفكيك المجتمعات

جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
TT

{الجيل الخامس} من الإرهاب

جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)
جنود مصريون في شوارع العريش شمال سيناء في 29 يوليو الماضي (أ.ف.ب)

هل بات العالم على موعد مع نوع جديد من أنواع حروب الإرهاب تستخدم فيها الشائعات أداة لتقويض السلام المجتمعي للدول، ونشر الخوف والذعر بين المواطنين، مما يؤدي إلى تفكيك المجتمعات وهدم الدول من الداخل ودون إطلاق رصاصة واحدة من الخارج؟
الشاهد أنه إذا كان الجميع قد اتفق على تسمية استخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة لتفكيك مفاصل الدولة باسم حروب الجيل الرابع، فإن هناك إجماعاً غير مسبوق على أن نشر الشائعات تعتبر آلية الجيل الخامس من الحروب.
ما هي الشائعة بداية؟ قطعاً هي الترويج لخبر أو أخبار زائفة، سرعان ما يتم تداولها في المجتمع، ورويداً رويداً تكتسب مصداقية، حتى وإن كانت مزورة ومنحولة، والهدف عادة منها التأثير على توجهات المواطنين، ودفعهم في دروب ومسالك تتسق دائماً لأهداف مطلقي الشائعات، أي أنها أداة من أدوات التوجيه النفسي والمعنوي بشكل سلبي غير بناء.
والمؤكد أن التاريخ، سيما في النصف الأول من القرن العشرين، قد شهد نموذجاً شهيراً لترويج الإشاعات قام به وزير الإعلام والدعاية الألماني (جوزيف غوبلز) وهو صاحب العبارة الشهيرة: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، وقد عمد غوبلز إلى تسخير رباعيات العراف الفرنسي الشهير ميشيل نوسترداموس، للترويج لانتصار هتلر في الحرب العالمية الثانية، غير أن الحلفاء اكتشفوا حقيقة زيف إشاعاته ومن ثم تعاملوا معه بنفس الأداة، الأمر الذي جعله في نهاية الأمر يفقد اتزانه وينتحر خوفاً من الوقوع حياً في أيدي الحلفاء.

مصر والإرهاب... حروب الإشاعات
لماذا يتم إعادة فتح هذا الملف مرة جديدة في الوقت الراهن؟
يبدو أن مصر تواجه هجمات إرهابية جديدة عبر الإشاعات فخلال شهر يوليو (تموز) الماضي كانت الأجهزة الأمنية المعنية في ربوع الكنانة ترصد واحداً من مخططات «الحرب البديلة»، والذي لجأت إليه الجماعات الظلامية التي تهدد وحدة مصر، بقيادة الإخوان المسلمين، لجأ الإخوان ومن لف لفهم إلى الإشاعات أسلوباً بديلاً بعد فشل تنفيذ مخططاتهم الإرهابية العدائية، وبلغ الأمر حد انتشار «ثلاث شائعات» في الساعة، عطفاً على تأسيس جيش إلكتروني خارجي يعمل على بث المواد المغلوطة، بهدف نشر الإحباط واليأس والتغطية على إنجازات الحكومة وجهودها.
خلال تخريج إحدى دفعات الكليات العسكرية الشهر الماضي أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أن الحكومة المصرية قد واجهت خلال الأشهر الثلاثة الماضية أكثر من عشرين ألف شائعة الهدف منها تدمير الدولة ونشر البلبلة والإحباط من أجل تحريك الناس لتدمير بلدهم.
ما قاله الرئيس السيسي كشفت عنه دراسة حديثة أشرفت عليها لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مجلس النواب المصري، فقد أشارت في تقرير حديث لها عن إطلاق عدة آلاف من الشائعات خلال شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) من عام 2017.

النسيج المجتمعي هو الهدف
خذ إليك عينة من تلك الشائعات لتعرف مقدار الضرر الذي توقعه على النسيج المجتمعي لمصر، ومنها القول إن الحكومة المصرية قامت بخلط دقيق القمح بمواد كيميائية من أجل تقليل خصوبة المصريين، وبالتالي وقف النمو السكاني. وللقارئ أن يتخيل ردات الفعل عند البسطاء من المصريين وكذا الفئات التي تعاني من ضغوطات اقتصادية وكيف لمثل هذه الشائعات أن تولد انفجاراً مجتمعياً.
بعض آخر من تلك الشائعات استهدف النظام البنكي المصري، والذي روج المرجفون أنه أصيب بالإفلاس، وأن الحكومة يمكن أن تضع أياديها على أرصدة وودائع الشعب لصالحها.
نشر الشائعات يمضي كذلك لجهة الترويج الكاذب لبيع مصر أصولها الوطنية كالقول ببيع الأراضي المحيطة بقناة السويس لمستثمرين أجانب، وقد وصل الأمر حد إشاعات تتصل بالوجبات الرئيسة للمصريين وفي محاولة لا تخفى عن الأعين للوقيعة بين الدولة وبين الشعب، من عينة استيراد وزارة الزراعة المصرية بيض من الصين مصنوع من البلاستيك، وكذلك أسماك بلاستيكية وأرز بلاستيكي، وقد بات الوطن على هذا النحو تحت طائلة إرهاب الشائعات.

وسائل التواصل ونشر الشائعات
يعن لنا أن نتساءل هل أدت وسائط التواصل الاجتماعي دوراً غير محمود في هجمات الإرهاب الجديد هذا؟
يمكن القطع بأن ذلك كذلك ومن أسف، بمعنى أنه تم تحويل وتحوير الهدف الأساسي منها والالتفاف عليه، فعوضاً عن أن تكون جسوراً للبناء، باتت معاول للهدم في جسد الدول.
لم تعد أساليب الإعلام القديمة من عينة الصحف أو أجهزة التلفاز هي التي تشكل الرأي العام في واقع الأمر، بل أدوات من عينة «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» هي التي تفعل ذلك، ومن هنا جاء استخدام الجماعات الأصولية لها لنشر المعلومات المغلوطة ونظريات المؤامرة والشائعات، سيما وأنه المعروف إعلامياً أن «الأخبار السيئة هي الأخبار تلك التي تلفت انتباه الناس، وتدفعهم إلى مواصلتها ومن ثم التهويل من شأنها».
كما أن مسالة تدوير الشائعات تعطي مجالاً للمواطنين لأن يتفاعلوا مع نوعين من الأخبار الأول يتصل بالمغلوطة والثاني يقوم على تفعيل نظرية المؤامرة.

إرهاب الإخوان ونزع الثقة
حين خرج المصريون في 30 يونيو (حزيران) من عام 2013 مطالبين بإسقاط حكم «الإخوان»، كان الجميع يدرك أن المعركة مع التنظيم الإرهابي في حال المبتدأ، وأن المقبل سيحمل أخباراً سيئة كثيرة من جراء شهوة الانتقام الغالبة لديهم.
والمؤكد أنه عبر خمس سنوات خلت وحتى الساعة لا تزال حروبهم لنزع ثقة المواطنين من النظام قائمة وإن مضت في اتجاهين، الأول يتصل بالإرهاب المعنوي، أي نشر الشائعات عبر وسائل الإعلام، وهنا يظهر الدور الخطير لبعض الدول التي تحتضن الهاربين من العدالة من الإخوان لا سيما قطر وتركيا، والبعض الآخر القائم في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة، وهؤلاء وأولئك بما لديهم من أدوات إعلامية عبر الإنترنت وقنوات فضائية يغازلون صباح مساء كل يوم أنصارهم المؤدلجين ويعرجون على آخرين.
أما العنف اللفظي، ففيه أيضاً تستخدم الشائعات كمطية لتحقيق رغبات أصحابها، فعندما تطلق إشاعات حول عمليات إرهابية قادمة، أو استهداف تجمعات بعينها، فإن الهدف الأكبر وهو نزع ثقة المواطن يتحقق من تلقاء ذاته، ومن دون الحاجة إلى عمليات حقيقية بالفعل، ذلك أن المواطن يهزم نفسيا وقبل أن يدلف إلى أي مواجهة حقيقية.
ولأن ترويج الشائعات يتصل اتصالاً وثيقاً بالأنساق الدينية والإيمانية، بوصفه نوعاً من أنواع الكذب الذي تحرمه الأديان السماوية، وترفضه بالقدر نفسه الشرائع الوضعية، لذا رأينا المؤسسات الدينية تأخذ بزمام أمورها لتدين هذا التوجه غير الخلاق. في هذا الصدد كان مرصد الإفتاء في مصر يدين لجوء الجماعات الإرهابية لنشر الشائعات والأكاذيب، ويوضح أن هناك نوعين من تلك الشائعات الخطيرة على الوطن والمواطنين:
النوع الأول: هو الشائعات الاستراتيجية، التي تستهدف ترك أثر دائم أو طويل المدى على نطاق واسع، ويستهدف هذا النوع من الشائعات جميع فئات المجتمع بلا استثناء.
النوع الثاني: هو الشائعات التكتيكية، والتي تستهدف فئة بعينها أو مجتمعاً بذاته لتحقيق هدف سريع وفوري، والوصول إلى نتائج قوية وفورية لضرب الجبهة الداخلية ونشر الفتنة بين أفراد المجتمع.
ولأن الظاهرة ليست محلية فقط بل عالمية أي ظاهرة الشائعات، لذا استمعنا إلى البابا فرنسيس بابا الفاتيكان متحدثاً عن الصحافة القائمة على الشائعات والتي تشكل شكلاً من أشكال الإرهاب، وقد جاء حديثه أمام زعماء الرابطة الوطنية للصحافيين، حين أكد على ضرورة بذل الجهد الإضافي سعياً وراء الحقيقة، خاصة في عصر تستمر فيه التغطية الإخبارية على مدار الساعة، ومضيفاً أن نشر الشائعات هو مثال للإرهاب ومثال يوضح كيف يمكنك أن تقتل إنسان بلسانك.

في كيفية التصدي لحروب الشائعات
ولعل تناول تلك الظاهرة الإرهابية من دون محاولة تقديم اجتهادات متواضعة لمجابهتها يضحى عملاً غير مكتمل، ولهذا فإن السؤال كيف لنا أن نتصدى لهذا النوع من حروب الإرهاب؟
الشاهد أن الأمر ليس باليسير، وبخاصة في زمن تسافر بل تطير فيه الأفكار بأجنحة عابرة للسدود والحدود، لكن تبقى هناك اجتهادات كثيرة بعضها تقوم به الحكومات، والبعض الآخر يقع عبئه على كاهل المواطنين أنفسهم.
أما ما يخص الحكومات فإنه يتعين على أجهزة الدول ووزاراتها المعنية الرد السريع على كل شائعة يتم الترويج لها، رداً شافياً وافياً، أميناً صادقاً، لا يترك مجالاً للشكوك أن تتسرب، مما يعزز الثقة بين المواطنين، وبين أجهزة الدولة، وأن تكون وسائل الإعلام الحكومية من الصدق والمصارحة، بحيث لا يلجأ المواطن إلى مصادر أخرى بديلة وعادة ما تكون مغرضة للحصول على المعلومات والحقائق الإخبارية التي تتصل بحال الوطن والمواطنين.
أما فيما يخص إشكالية وسائط التواصل الاجتماعي والكثير منها، إن لم يكن أغلبها، يأتينا من خارج الحدود المحلية والإقليمية، فإنه لا بأس ولو بشكل مؤقت فرض نوعاً من أنواع الرقابة على تلك المواقع، وحظر ما يعرض الأمن القومي من جرائها للخطر، وفي هذا الطريق مضت وتمضي دول كبرى مثل الصين بنوع خاص، والتي أدركت حكوماتها المتعاقبة أن الولايات المتحدة تسعى لتفكيكها من الداخل عبر ترويج الشائعات ونشر الفتن المعنوية، إن جاز التعبير.
والثابت أنه لا توجد هنا مشكلة ما بين الحريات الشخصية وأمن المجتمعات، فطالما كان الفرد غير مخالف لقوانين البلاد، فهو آمن، أما الذين يتوجب أن تنتقص حرياتهم الشخصية فهم أولئك القائمون على التخطيط لنشر الشائعات وهدم كيانات الدول. أما الجزء الآخر، فيتصل بالمواطنين أنفسهم، فالمعروف أن الحاضنات الشعبية العربية والشرقية عامة، تميل إلى ترديد الأحاديث وتكرارها من دون تنقيح أو مساءلة وكأنها مسلمات حقيقية، وعليه فإن البعض من دون وعي يشارك في إذكاء جذوة الشائعات، بالتمام والكمال كمثل أولئك الذين يتعاطون مع وسائط التواصل الاجتماعي وعبر آلية «الشير أو المشاركة».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.