كتاب أنيسة حلو «وليمة»... وعاء مشاعر تجاه بلاد الشام

كتاباتها تحمل الحنين إلى أرض الوطن وتسافر عبرها أطباق إلى موائد العالم

أجدد إصدارات أنيسة حلو كتاب «فيست» أو «وليمة» (تصوير: هاربر كولينز)  -  أنيسة حلو سفيرة الطعام الشرقي (تصوير: كريستين بيريرز)
أجدد إصدارات أنيسة حلو كتاب «فيست» أو «وليمة» (تصوير: هاربر كولينز) - أنيسة حلو سفيرة الطعام الشرقي (تصوير: كريستين بيريرز)
TT

كتاب أنيسة حلو «وليمة»... وعاء مشاعر تجاه بلاد الشام

أجدد إصدارات أنيسة حلو كتاب «فيست» أو «وليمة» (تصوير: هاربر كولينز)  -  أنيسة حلو سفيرة الطعام الشرقي (تصوير: كريستين بيريرز)
أجدد إصدارات أنيسة حلو كتاب «فيست» أو «وليمة» (تصوير: هاربر كولينز) - أنيسة حلو سفيرة الطعام الشرقي (تصوير: كريستين بيريرز)

قبل أن يحلّ الدمار بسوريا بفعل الحرب، وينزح سكانها، وتتحول المدن القديمة إلى رماد تُظهر أنيسة حلو للزائرين جانبا مختلفا من ذلك البلد. وتبدأ جولتها من دمشق، ثم باتجاه الشمال الشرقي عبر تدمر، وتبدي الإعجاب بالمواقع، قبل دخول حلب، المدينة التي ستُظهرها أنيسة بوصفها «عاصمة فن الطهي» في الشرق الأوسط.
بعد مرور 7 أعوام يحمل كتاب الطهي الجديد «وليمة» لكاتبة الطعام الشهيرة تقديرا واحتراما للمدينة منذ البداية، حيث تزين غلافه صورة لكباب الضأن مع الكرز اللاذع الذي يظهر بين الصنوبر وقطع الخبز المقرمش. هذا الكتاب هو التاسع لأنيسة، ويعد موجزا حقيقيا وواقعيا يتضمن أكثر من 300 وصفة. إذا تم النظر إليه بشكل مجمل فسيجد المرء أن الوصفات توضح زمنيا كيف يتجلى تاريخ طرق التجارة والهجرة في العالم الإسلامي على طاولة الطعام من الوجبات البسيطة حتى المآدب والولائم العامرة.
أنيسة حلو لبنانية من أصل سوري تبلغ من العمر 66 عاماً، وقد نشأت في بيروت في شارع قريب من البحر، لكنها انتقلت أخيرا إلى لندن بسبب ثقل قيود المدينة الصغيرة عليها لتبدأ حياة جديدة مستشارةً للفنون. فكرت في صيف 1992 للمرة الأولى بتأليف كتاب طهي، وقد خطرت لها تلك الفكرة في ظهيرة أحد الأيام التي كانت تجلس فيها على طاولة العشاء مع أصدقاء لبنانيين نزحوا وتركوا البلاد بسبب الحرب الأهلية. تقول أنيسة: «خطر لي حينها تأليف كتاب لجميع الشباب الذين لم تسنح لهم فرصة معايشة تجربة الطعام اللبناني مثلي».
كانت الحياة تدبّ في أسرة أنيسة، التي تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، في أيام الطهي، حيث يأتي بائعو السمك واللبن حتى باب المنزل ليبيعوا بضاعتهم الطازجة. وكانت عربات الشوارع محمّلة بالفواكه، فتقول: «لقد كنا منغمسين في الطعام. لقد رأيت كل شيء من خلال الطهي مع الأم والجدة».
وقد حاز كتابها الثاني، الذي حمل اسم «المطبخ اللبناني»، على احترام وتقدير دولي، حيث نجحت خلاله في تعريف الجمهور العالمي بالأطباق اللبنانية، كما فعلت مادور جافري حين قدمت الطعام الهندي للعالم، وإيدنا لويس مع طعام جنوب أميركا.
يمثل نشر كتاب «وليمة» اتساعا لنطاق جهودها بعدما أدركت أنيسة عدم وجود أي موجز لوصفات العالم الإسلامي. لذا قادتها أسفارها إلى هلال عالمي مكون من 1.8 مليون نسمة بحثا عن السمك المشوي في زنجبار، والكسكس الحلو في المغرب، وأفضل لحم ضأن في الأردن. رغم أن أنيسة ليست مسلمة، أصبحت مرجعا نادرا لمطابخ المناطق الإسلامية بفضل عقود من الخبرة. قال يوتام أوتولونجي، الطاهي والمؤلف البارز في لندن، في تعريفه بالكتاب على غلافه الخلفي: «إنها من ذلك النوع من الطهاة الذين يريدون أن يكونوا إلى جانبك عند إعداد الخبز المغربي الرقيق». وتقول ناعومي دغويد، كاتبة الطعام الشهيرة ومؤلفة كتاب «مذاق بلاد فارس»: «نحن بحاجة إلى مزيد من الكتب على شاكلة ذلك الكتاب. الكتابة عن طعام ثقافات أخرى باحترام وتعاطف، أمر مهم؛ لأنه بمثابة نقطة دخول. نحتاج جميعا أن نأكل، ويمنحنا هذا شعورا بالتنوع الثري، والترابط بين كل ما يأكله الناس».
يبدأ الكتاب المقسّم إلى أجزاء عن أصناف الطعام، التي كان لها دور أساسي في الثقافة الإسلامية، باستعراض أنواع من الخبز، مع تسليط الضوء على أهميتها في كل الدول الإسلامية تقريباً. عادة ما يتم خبزه في فرن على هيئة حفرة، أو على قرص ساخن من المعدن. ويمكن استخدام الخبز الرقيق بدلا من الآنية، أو يمكن وضعه على طبق ليكون بمثابة طبقة نشوية للكاري أو اليخنة.
على خلفية من حروب الشرق الأوسط وقرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب حظر دخول مواطني 5 دول ذات أغلبية إسلامية إلى أميركا، ترى أنيسة أن نشر كتاب «وليمة» فعل سياسي، فتقول: «لدى العالم الإسلامي تاريخ ثري، لذا أردت القيام بشيء ما لتصوير الجانب الإيجابي منه. يبدو هذا الأمر مهماً، خاصة في هذه اللحظة».
في رحلة تلو الأخرى اكتشفت أن الطعام يقدم طريقة للاتصال بحياة الغرباء، إذ تقود أبسط الاستفسارات والتساؤلات إلى مقابلات مفاجئة. في حلب قبل الحرب قادتها فرصة الالتقاء بمجموعة من النساء المنتقبات بالكامل إلى تناول شاي مع حلوى محشوة بالعجوة في منزلهن. وفي داكار وصلت إلى منزل رئيس وزراء سابق حيث تناولت الطبق التقليدي السنغالي «ثايبودين» المكون من الأرز والسمك. كانت النسخة التي ضمّتها إلى كتابها «وليمة» هي سمك «سي بريم» مع تتبيلة حارة من البقدونس والفلفل الحلبي.
توضح أنيسة قائلة: «في أي مكان يسافر المرء إليه يجد أن الطعام عنصر يوحّد ويجمّع. لا يهم من أنت وما إذا كنت تعيش كي تأكل أم تأكل كي تعيش، تمثل تلك الأطباق نسيجا ضاما يجمع بين الناس».
كذلك يعد «وليمة» بمثابة شهادة على قدرة الوصفات على التشكل والتحول من بلد إلى آخر، أو حتى من مدينة إلى أخرى، حيث يتم إضافة البهارات، وتتغير الطرق والأساليب.
ومع عجز أنيسة عن الاختيار بين أطباق البرياني، قدمت 7 وصفات لطبق البرياني من الطبق المطهي على نار هادئة، والموضوع في إناء واحد من حيدر آباد إلى وصفة كلكتا التي يتم تقديمها مع البطاطا. حتى الإمارات العربية المتحدة لها نسختها ووصفتها الخاصة من ذلك الطبق، مع قدر أقل من البهارات ودون لحم. توضح أنيسة قائلة: «يمكنك رؤية الملامح العامة المشتركة بينهم، لكنها تختلف في كل مرة، إن هذا رائع».
مع ذلك يحمل الكتاب مشاعر خاصة مميزة تجاه طعام الشام، خصوصا لبنان وسوريا، حيث توجد إشارات إلى الكباب السوري المشوي التي أكلته أنيسة خلال زياراتها لمنزل عمتها في بلدة مشتى الحلو أثناء طفولتها، والنسخة المضاف إليها السماق التي تناولتها مع أصدقائها في المدينة القديمة بحلب. لقد ذهب واختفى جمال وبهاء تلك المناطق حالياً، حيث تدمرت أجزاء كبيرة من حلب بوجه خاص بسبب عمليات القصف الجوي التي شنّها النظام السوري، وتشبه المناطق، التي استمتعت فيها ذات يوم بأطباق الكباب والسفرجل، حاليا بلدة أشباح خلال فترة ما بعد دمار العالم. مع ذلك مثلما حدث في قرون وعقود ماضية، تعيد المدينة بناء نفسها، حتى خارج الحدود السورية، أدى النزوح الكبير إلى انتشار الوصفات التي وجدتها أنيسة على طول خط رحلتها في عالم الطهي، حيث تتشارك الأسر والعائلات في المنفى حاليا تلك الوصفات. حتى في مخيمات اللاجئين بالأردن ولبنان وتركيا تتجمع نساء سوريات كل مساء لإعداد وجبات محلية من وطنهن، في حين تعمل بعضهن في خط إنتاج مستمر، وتتشاجر أخريات على أفضل الوصفات التي سيتم إعدادها. أخيراً تضيف أنيسة: «هناك ما يميز مطابخ تلك الأماكن ليجعلها أسطورية نظرا لتأثرها بكثير من الثقافات»... بعد سنوات من السفر حول العالم لا تزال وجبة أنيسة المفضلة هي كباب الكرز الحلبي ذي النكهة اللاذعة.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
TT

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص، أما أطباق بلاد الشام فلا تعتمد على الابتكار على قدر الالتزام بقواعد متَّبعة، وإنني لست ضد الابتكار من ناحية طريقة التقديم وإضافة اللمسات الخاصة تارة، وإضافة مكون مختلف تارة أخرى شرط احترام تاريخ الطبق وأصله.

التبولة على أصولها (الشرق الاوسط)

زيارتي هذه المرة كانت لمطعم لبناني جديد في لندن اسمه «عناب براسري (Annab Brasserie)» فتح أبوابه في شارع فولهام بلندن متحدياً الغلاء والظروف الاقتصادية العاصفة بالمدينة، ومعتمداً على التوفيق من الله والخبرة والطاهي الجيد والخبرة الطويلة.

استقبلنا بشير بعقليني الذي يتشارك ملكية المشروع مع جلنارة نصرالدين، وبدا متحمساً لزيارتي. ألقيت نظرة على لائحة الطعام، ولكن بشير تولى المهمة، وسهَّلها عليَّ قائلاً: «خلّي الطلبية عليّ»، وأدركت حينها أنني على موعد مع مائدة غنية لا تقتصر على طبقين أو ثلاثة فقط. كان ظني في محله، الرائحة سبقت منظر الأطباق وهي تتراص على الطاولة مكوِّنة لوحة فنية ملونة مؤلَّفة من مازة لبنانية حقيقية من حيث الألوان والرائحة.

مازة لبنانية غنية بالنكهة (الشرق الاوسط)

برأيي بوصفي لبنانية، التبولة في المطعم اللبناني تكون بين العلامات التي تساعدك على معرفة ما إذا كان المطعم جيداً وسخياً أم لا، لأن هذا الطبق على الرغم من بساطته فإنه يجب أن يعتمد على كمية غنية من الطماطم واللون المائل إلى الأحمر؛ لأن بعض المطاعم تتقشف، وتقلل من كمية الطماطم بهدف التوفير، فتكون التبولة خضراء باهتة اللون؛ لأنها فقيرة من حيث الليمون وزيت الزيتون جيد النوعية.

جربنا الفتوش والمقبلات الأخرى مثل الحمص والباباغنوج والباذنجان المشوي مع الطماطم ورقاقات الجبن والشنكليش والنقانق مع دبس الرمان والمحمرة وورق العنب والروبيان «الجمبري» المشوي مع الكزبرة والثوم والليمون، ويمكنني الجزم بأن النكهة تشعرك كأنك في أحد مطاعم لبنان الشهيرة، ولا ينقص أي منها أي شيء مثل الليمون أو الملح، وهذا ما يعلل النسبة الإيجابية العالية (4.9) من أصل (5) على محرك البحث غوغل بحسب الزبائن الذين زاروا المطعم.

الروبيان المشوي مع الارز (الشرق الاوسط)

الطاهي الرئيسي في «عناب براسري» هو الطاهي المعروف بديع الأسمر الذي يملك في جعبته خبرة تزيد على 40 عاماً، حيث عمل في كثير من المطاعم الشهيرة، وتولى منصب الطاهي الرئيسي في مطعم «برج الحمام» بلبنان.

يشتهر المطعم أيضاً بطبق المشاوي، وكان لا بد من تجربته. الميزة كانت في نوعية اللحم المستخدم وتتبيلة الدجاج، أما اللحم الأحمر فهو من نوع «فيليه الظهر»، وهذا ما يجعل القطع المربعة الصغيرة تذوب في الفم، وتعطيها نكهة إضافية خالية من الدهن.

حمص باللحمة (الشرق الاوسط)

المطعم مقسَّم إلى 3 أقسام؛ لأنه طولي الشكل، وجميع الأثاث تم استيراده من لبنان، فهو بسيط ومريح وأنيق في الوقت نفسه، وهو يضم كلمة «براسري»، والديكور يوحي بديكورات البراسري الفرنسية التي يغلب عليها استخدام الخشب والأرائك المريحة.

زبائن المطعم خليط من العرب والأجانب الذين يقطنون في منطقة فولهام والمناطق القريبة منها مثل شارع كينغز رود الراقي ومنطقة تشيلسي.

بقلاوة بالآيس كريم (الشرق الاوسط)

في نهاية العشاء كان لا بد من ترك مساحة ليكون «ختامه حلوى»، فاخترنا الكنافة على الطريقة اللبنانية، والبقلاوة المحشوة بالآيس كريم، والمهلبية بالفستق الحلبي مع كأس من النعناع الطازج.

المطاعم اللبنانية في لندن متنوعة وكثيرة، بعضها دخيل على مشهد الطعام بشكل عام، والبعض الآخر يستحق الوجود والظهور والمنافسة على ساحة الطعام، وأعتقد أن «عناب» هو واحد من الفائزين؛ لأنه بالفعل من بين النخبة التي قل نظيرها من حيث المذاق والسخاء والنكهة وروعة المكان، ويستحق الزيارة.