يرى محللون سياسيون، أن علاقة الوزيرة النمساوية كارين كنايسل بحزب الحرية النمساوي اليميني المتطرّف يساعد على تفسير علاقتها بروسيا. والواقع، أن الحزب معروف بتقاربه من موسكو، وكان زعيمه هانز كريستيان شتراخا قد وقّع «اتفاقية تعاون» مع روسيا في نهاية عام 2016 هدفها «تربية الأجيال الجديدة على روح الوطنية وحب العمل». ويذكّر هذا التعبير بتعبير آخر شهير كان يُستخدم في الاتحاد السوفياتي.
شتراخا أعلن في حينه عن الاتفاقية على صفحته على موقع «فيسبوك»، وأشار فيها أيضاً إلى رحلة قام بها مع وفد من حزبه إلى الولايات المتحدة أتبعها بتعليق حول ضرورة أن تكون هناك علاقات أميركية - روسية متقاربة ومتينة بهدف تحقيق «السلام الدبلوماسي في سوريا والقرم وإزالة العقوبات المدمرة للاقتصاد والتي لن تفيد في شيء»، في إشارة إلى العقوبات الأوروبية والأميركية على روسيا بسبب احتلالها القرم. وأضاف أن حزبه «يلعب دوراً حيادياً، وهو وسيط موثوق به» بين الأميركيين والروس بهدف تحقيق السلام.
لكن، ليس هذا فقط ما يفسّر علاقة كنايسل بروسيا. فهي تقول إنها لا تنتمي إلى أي حزب، ولا تتأثر بأفكار أي حزب أيضاً. وقد يكون هذا صحيحاً. لكن تقاربها من موسكو يمكن تفسيره بناءً على تصريحات سابقة لها حول روسيا وسوريا، ففي يونيو (حزيران) الماضي، أجرت معها صحيفة «هاندلسبلات» مقابلة بُعيد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة النمساوية فيينا التقى فيها رئيس الحكومة سباستيان كورتز.
وسألت الصحيفة كنايسل عما إذا كانت تعتقد بأن على أوروبا أن تبني علاقة جديدة مع روسيا خالية من التوتر وأكثر تقارباً، فأجابت مذكّرة بالمبدأ الدبلوماسي الشهير «الجغرافيا هي الثابت في التاريخ... وأوروبا هي جزء من خريطة العالم التي تتضمن دولاً قريبة من بعضها - تاريخياً واقتصادياً في الأوقات الجيدة والأوقات الصعبة. لا يمكننا إلغاء هذا الواقع وإخفاء روسيا من الخريطة».
حفل الزفاف
من ناحية أخرى، تفجرت انتقادات ضد كنايسل، بل ظهرت دعوات لإقالتها بعد قرارها دعوة بوتين إلى زفافها من دون التشاور مع الرئيس النمساوي أو حتى المستشار (رئيس الحكومة)، إلا أنها ردت معتبرة الدعوة «شخصية»… قبل أن تغيرها إلى «زيارة عمل». وما زاد من الغضب الموجّه ضدها كانت المعاملة الحميمة التي أغدقتها على بوتين؛ إذ رقصت معه، بل وانحنت أمامه.
الأحزاب النمساوية المعارضة ردّت بشيء من رفض التصديق؛ إذ تساءل النائب أندرياس شيدر، من الحزب الاجتماعي الديمقراطي (الاشتراكي) المعارض «كيف يمكن للنمسا التي هي الآن رئيسة الاتحاد الأوروبي، أن تحافظ على وعد الحكومة بأن تكون وسيطاً نزيهاً، وتحاول بناء جسور بينما أظهرت وزيرة الخارجية أنها تميل بشكل واضح إلى طرف معين؟». أما إيفلين ريغنير، النائبة في البرلمان عن الحزب المعارض نفسه، فوصفت دعوة بوتين بأنها أرسلت صورة «مخجلة» عن النمسا إلى شركائها الأوروبيين، واعتبرها «استفزازاً». وبما يخص حزب «الخضر» البيئي، فإنه دعا إلى إقالة كنايسل من منصبها، وقال إن «بوتين هو أكثر أعداء أوروبا شراسة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية».
في الساحة الأوروبية، لم تكن الانتقادات ألطف. إذ كتبت ناتالي نوغايريد، رئيسة تحرير صحيفة «لوموند» الفرنسية سابقاً، مقالاً في صحيفة «الغارديان» البريطانية، قالت فيه إن النمسا تتحول بسرعة «إلى حصان طروادة لبوتين في قلب أوروبا». ورأت أن حضور الرئيس الروسي «لم يكن له علاقة بالاحتفال بزوجين، بل بتوجيه رسالة إلى الأوروبيين الليبراليين، على رأسهم أنجيلا ميركل (التي زارها بعد الزفاف)، وتوجيه ضربة للقيم الأوروبية وسياستها». ووصفت الكاتبة رقص بوتين «الفلتز» مع كنايسل «بأنه أكثر من مجرد ضربة في العلاقات العامة لإظهار بأن ما زال لديه أصدقاء في الغرب، مع أن روسيا متهمة باستخدام غاز الأعصاب لتنفيذ اغتيالات (في بريطانيا) من بين غيرها من التصرفات. إن ما نجح بفعله، هو الإشارة شخصياً، بتحيته العروسين وحديثه الألمانية بطلاقة، بأنه قادر على وقف طموح أوروبا…».
المعلومات الاستخباراتية
عملياً، بدأت آثار دعوة كنايسل لبوتين للزفاف بالظهور. إذ يبدو أن شركاء فيينا يتخوّفون من أن تنتهي المعلومات الاستخباراتية التي يتبادلونها معها في الكرملين بعد ساعات. هذه المخاوف التي تتداولها صحف نمساوية منذ يومين نابعة من سيطرة حزب الحرية المتطرف على وزارتي الداخلية والدفاع، إلى جانب وزارة الخارجية.
وكانت صحيفة «الواشنطن بوست» الأميركية أخيراً قد نقلت عن مصادر استخباراتية رسمية، أن عملية التفتيش من قبل الشرطة لمراكز الاستخبارات المحلية في فيينا، خلال فبراير الماضي: «أثارت قلقاً كبيراً»، وبخاصة أن لحزب الحرية «اتفاقية تعاون» مع موسكو سارية المفعول منذ عام 2016. وفي الاتجاه نفسه، قالت صحيفة «دي بريس» النمساوية عن مصدر في الاستخبارات الداخلية النمساوية، إن هناك «مخاوف من أن المعلومات التي تتشارك فيها مع النمسا قد تنتهي على طاولة بوتين في اليوم التالي». ويذكر أن النمسا كانت قد أثارت استغراباً واسعاً في أوروبا عندما رفضت طرد دبلوماسيين روس أسوة بمعظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة رداً على الاتهامات الموجهة لها بتسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا بغاز الأعصاب. وأمام هذه المخاوف، دعت المعارضة النمساوية قبل يومين إلى اجتماع لـ«مجلس الأمن الوطني» في البلاد خلال أسبوعين لمناقشة المخاوف من تبادل معلومات استخباراتية مهمة مع فيينا.
... فهل تحولت النمسا فعلاً إلى «حصان طروادة روسي في قلب أوروبا»؟