رسائل جوميث عن مصر وسوريا وفلسطين

بعث بها أشهر مستشرق إسباني لأستاذه قبل 90 عاماً

رسائل جوميث عن مصر وسوريا وفلسطين
TT

رسائل جوميث عن مصر وسوريا وفلسطين

رسائل جوميث عن مصر وسوريا وفلسطين

يعد إيميليو جارثيا جوميث (1905 - 1995) واحداً من أهم أعلام الاستشراق على مستوى إسبانيا والعالم كله في القرن العشرين. له العديد من المؤلفات حول الأدب العربي قديماً وحديثاً، حيث ترجم على سبيل المثال الكثير من النصوص العربية إلى الإسبانية، منها تحقيق وترجمة كتب «رايات المبرزين» لابن سعيد المغربي، و«طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، فضلاً عن «الأيام» لطه حسين، كما ترجم للعديد من الشعراء الأندلسيين مثل ابن الزقاق وابن زمرك.
من هنا تأتي أهمية الكتاب الصادر في القاهرة عن المركز القومي للترجمة بعنوان «رحلة إلى مصر، سوريا وفلسطين 1927 - رسائل إلى دون ميجل آسين بالاثيوس» بترجمة عن الإسبانية مباشرة وتحقيق طه زيادة.
يضم الكتاب الرسائل التي بعث بها جوميث لأستاذه بالاثيوس، حين كان لا يزال باحثاً في العشرين. وقد زار هذه البلدان الثلاثة لمدة عامين تعلم خلالهما العربية ووضع بذرة الاستشراق الأولى في مشروعه المعرفي الضخم لاكتشاف الشرق العربي وتقديمه للقارئ الغربي. إذن هي رسائل تلميذ لأستاذه الذي يعد مؤسس دراسات الاستشراق الإسباني، ومن مؤلفاته كتاب «علم الأخرويات الإسلامي في الكوميديا الإلهية» الذي ألقى فيه الضوء على المصادر الإسلامية للأفكار الموجودة في «الكوميديا الإلهية» لدانتي، كما كتب أيضاً الكثير من المؤلفات عن الإسلام في العصور الوسطى، وعني بمحيي الدين بن عربي عناية شديدة، فنشر عنه سلسلة دراسات منوعة.
وبحسب المترجم، تعتبر هذه الرسائل إلى حد كبير شهادة على عصر كان فيه الشرق في حالة فوران وتشكل، فالجامعة المصرية لم يمض على تأسيسها سوى عشرين عاماً، والصراع محتدم بين تيار الإصلاح والتحديث بزعامة طه حسين، وبين دعاة الحفاظ على الهوية، بين القاهرة الحديثة بشوارعها ومكتباتها ومؤسساتها وبين القاهرة الشعبية بحاراتها وأزقتها وسكانها المحليين، ومن وراء ذلك العمارة الإسلامية والآثار الفرعونية. كما تكشف الرسائل عن جوانب من شخصية كاتبها؛ منها على سبيل المثال الشغف الدائم بالبحث وطلب العلم والنهم الذي لا يشبع للمعرفة والفهم والاستيعاب ليس فقط عبر الكتب والمخطوطات، بل للواقع الذي يحيط به، كما توضح للقارئ خصالاً لا يتحلى بها سوى عالم حقيقي، وهي الصدق والتواضع، وكانت هذه الصفات تدفعه دوماً للتمحيص والتدقيق في كل ما يقع تحت يده، ما يجعله يرفض الكثير من الأعمال والدراسات والآراء والتحقيقات التي اعتبرها غير مفيدة مهما كان حجم الشخصيات الفكرية والأدبية التي أنجزتها.
في واحدة من رسائله، يصف القاهرة قائلاً: «أما عن المدينة فقد صرت أعرف عن ظهر قلب الجانب الحديث، الذي يثير الإحباط فيها من شدة روعته: تروموايات، تاكسيات، بنايات فخمة، شرطة مدنية، ترف، دور سينما، ثيابهم في منتهى الأناقة على الطريقة الأوروبية. لحسن الحظ أنه يجب أن يكون هناك جانب قديم رائع. أقول ذلك لأنه في ظهيرة سابقة دخلت في متاهة من الأزقة، حيث لم أر أوروبياً واحداً، وحيث الحياة الشرقية لها ذلك اللون الذي أخافني حقيقة، فخرجت لأنه كان أول يوم، بالرغم من أنني أفكر بالتأكيد في التجوال هناك كل يوم. انتابني في أول يومين شعور بحالة نفسية غريبة، شعرت بحنين جارف إلى درجة الرغبة القوية في البكاء. أخذت في الزوال عني».
وكتب دون إيميليو بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) عام 1927 عن الجالية الإسبانية قائلاً: «الجالية الإسبانية سخيفة. للقنصلية مستشار فخري، ليس دبلوماسياً، شخص مادي لا يهتم بشيء سوى أعماله. جلب الآن فرقة منوعات إسبانية في محاكاة ساخرة لمصارعة الثيران، شيلان وطرح وغيرها من التفاهات، التي جعلتنا محل سخرية... أذهب في بعض الليالي إلى نادي الفرونتون، حيث لدي تذكرة دخول مجاني وأتسامر معهم. هناك رأيت أحد أبناء سفيرنا، صبي في الثامنة عشرة، نموذج مثالي للشاب الإسباني العاطل، الذي لا يفعل شيئاً سوى بعثرة النقود، غير القليلة، التي يغدقها عليه والده».
كما يتذكر أيضا أصدقاءه الجدد قائلاً: «أفضل أصدقاء لديَّ هم ثلاثة شبان شرقيين موجودون في البنسيون نفسه، ويتناولون الطعام معي على المائدة نفسها. أحدهم من العراق (يهودي)، والاثنان الآخران مصريان، أحدهما قبطي والآخر مسلم، اسمه طلعت محمد راغب. كلهم في منتهى الظرف والتهذيب: يدرسون الحقوق في الجامعة، يعرفون خمس لغات، والكثير من الأشياء، لدرجة أنهم يعرفون عن إسبانيا أكثر من كثير من الإسبان. يوجد بالفعل هنا طبقة صفوة ممتازة. المسلم، على وجه الخصوص، الذي يبدو بالغ الثراء، ومن عائلة مرموقة، فهو شاب جذاب جداً ونموذج رائع للطبقة الأرستقراطية. اشترى (أتوموبيل) وبالأمس دشنّاه، قاطعين ليلاً ثلاثمائة كيلومتر في ثلاث ساعات: الأهرامات، هليوبوليس، القاهرة كلها، كما أهداني نسخة من القرآن في منتهى الجمال».
وحول القدس يكتب في 4 أبريل (نيسان) 1928: «عزيزي دون ميجل: ها أنذا على قيد الحياة، محشور في نوع من الحصون شبيه بـ(الجملون)، المأوى الوحيد الذي تمكنت من العثور عليه، وكان ممتلئاً عن آخره بالمهاجرين من كل الأمم، الملل والأجناس، بعضهم ذوو شأن مثل أمير إيطاليا، كما يتصادف وجودهم مع الأعياد الثلاثة: عيد قيامتنا، وعيد اليهود الذي اقترب أوانه مع العيد الكبير العربي. الفرنسيسكان الذين أحمل توصية إليهم، لم يستطيعوا استضافتي، لعدم توفر مكان. زرت القبر المقدس، قبر العذراء، طريق الآلام. كما زرت أمس بصحبة راهب فرنسيسكاني، وسيدتين من تشيلي وفرنسي، أريحا ونهر الأردن والبحر الميت. يا لها من زيارات مثيرة، ومؤلمة في الوقت نفسه بعدما رأيت مدى الانقسام بين الأديان. من المحتمل أن أذهب اليوم إلى بيت لحم. القدس بديعة بشوارعها الضيقة المنحدرة المسقوفة».
وتناول دمشق في رسالته قائلاً: «حيث وصلت منهكاً في السادسة صباحاً. لم أقض الأيام الأربعة الأولى بشكل جيد، كما اشتقت كثيراً للحياة المريحة، الهانئة والمثمرة التي كنت أحياها في القاهرة.
والسبب أن هنا الشرق التقليدي، وليس المثير والشيق، الذي كان ليصبح مثالياً، حيث إن المدينة لا تستحق أن يتوقف المرء فيها لأكثر من ثلاثة أيام للإقامة، لا يوجد شيء بين هذين النقيضين: إما الفنادق السياحية الكبرى، التي عادة يتوقف السائحون هنا ليوم واحد حيث تبلغ تكلفة الإقامة أكثر من جنيه إسترليني يومياً، أو منازل المسيحيين المحليين، غير النظيفة وغير المريحة بعاداتها الطريفة التي يمكن رؤيتها لخمس دقائق، ولكن ليس للإقامة بها، بعيداً عن وسط المدينة، في حارات لا تستطيع حضرتك أن تسير فيها بأمان بعد غروب الشمس. بخطى حثيثة يمكن الوصول منها إلى وسط المدينة خلال ما يربو على نصف الساعة فلا توجد تروموايات، وكان عليَّ تدبر أمري لتناول الطعام في أي مكان، لأن المنزل كان للنوم فقط».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».