في الهند... مطاعم ومقاهٍ يديرها عاملون من ذوي الإعاقات

في مطعم «إيكوس» خارج جامعة دلهي، يقف نادل باسماً ليعطي المارة بطاقة مدوّن عليها عبارة «كُلْ، شارك وامتلئ بالطاقة في مقهى يديره طاقم بقدرات مختلفة».
وعلى كل طاولة يوجد عدد من البطاقات التي تحمل عبارات تقول «ماء من فضلك»، «املأ الكأس ثانية»، «الفاتورة». وبإمكان الزائر الإمساك بإحدى تلك البطاقات للحصول على خدمة سريعة. وإذا ما أراد الزائر استدعاء النادل، ما عليه إلا الضغط على زر على الطاولة متصل بعدد من المصابيح المدون على كل منها رقم الطاولة لتدل النادل على طالب الخدمة.
يتميز مطعم «إيكوس» بأن طاقم عمله مختلف عن غيره وفي أسلوب ترحيب العالمين بالزبائن وإيصالهم إلى الطاولة ومعرفة طلبهم بدقة متناهية ربما تفوق المطاعم العادية. فعند دخولك فندق «ليمون تري» بضاحية «غروغرام» بضواحي العاصمة الهندية دلهي، سيقابلك حمّال شاب بصينية تحمل أكواب الماء وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وعندما تشكره، سيشير إلى الملاحظة المدونة حول رقبته التي تشير إلى أنه أبكم وأصم.
ولد أرناف غوش عام 1990 بمتلازمة داون وبعدما كبر قليلاً، ألحقه والداه بمدرسة خاصة في دلهي، لكن مستقبله بدا كئيباً بعد وصوله سن البلوغ. وفي لقاء جرى بالمصادفة، فتحت الأبواب أمام غوش للعمل مع طاقم عمل في تنظيف الأرضيات والغرف بفندق «ليمون تري». قالت والدته شاشي موتيلال «لقد بدأت في الكنس والمسح في البيت أيضا لكي أجعل أرناف يشعر بالارتياح تجاه واجباته».
واليوم، أصبح ذلك العمل أكثر من مجرد وظيفة له ولعائلته، فقد عزز من ثقته ومن اعتزازه بنفسه. فهي تشغل يومه في شيء إيجابي ومفيد، ومنحت العائلة شعوراً بأنه إنسان طبيعي.
وأفاد أردهانا لال، نائب الرئيس، بأن فندق «ليمون تري» سيقوم بتوظيف المزيد من الناس من ذوي الاحتياجات الخاصة وسيضاعف من نسبتهم لتتعدى 40 في المائة من إجمالي العاملين بحلول عام 2025. واستطردت، إن «لهذا الإجراء معنى كبيراً بالنسبة لنا. فأي عامل جديد بفندق (ليمون تري) يتعين عليه تعلم لغة الإشارة ليتمكن من التواصل مع الأشخاص من ذوي الإعاقات السمعية، وهي اللغة التي تتطور شهراً بعد آخر».
على المنوال نفسه، يعمل محمد كاشان في صناعة الجعة في صالة «إيتوبيا» بمركز «إنديا هابيتات سنتر» بمدينة دلهي. ويتولى الشاب كاشان الآن تدريب غيره من العمال، لكنه أكثرهم تميزاً على الإطلاق. وإذا بدأت محادثة معه، فإنه يشير إلى التعليمات المدونة على الطاولة لتعرف أنه يعانى من إعاقة سمعية وكلامية.
وقال سانديب كنتورا، عامل بصالة طعام إتوبيا، «لكي تتواصل مع الضيوف، يضع العاملون علامات توضح إعاقاتهم؛ ولذلك يجري التواصل عن طريق الإشارة. ولتسهيل ذلك؛ يحمل العامل أوراقاً وكومبيوتر لوحياً لتدوين أي سؤال، وفي حال طلب المزيد من المساعدة، فإنه يجرى استدعاء عامل قادر على السمع». لا يعيش هؤلاء الشباب في عزلة نظراً لأن الكثير من المطاعم والفنادق والمرافق الخدمية باتت توظف المعاقين على عكس الانطباع السائد بأنهم لن يشعروا بالراحة في مثل هذه الأعمال. في الحقيقة، لقد تخطى التوظيف هذه الفئة من ذوي الإعاقات الكلامية بعد أن عيّنت بعض الأماكن مستخدمي الكراسي المتحركة والأشخاص من ذوى الأطراف المبتورة وغيرهم من أصحاب الإعاقات، حتى في وظائف المكاتب الأمامية. وفي إطار ما يمكن اعتباره مشروعاً صغيراً، فقد وظفت المطاعم شباباً بـ«متلازمة داون» للعمل في المطابخ والمطاعم. على سبيل المثال، يدير 13 بالغاً من ذوي الإعاقات الإدراكية والعقلية، ومنها متلازمة داون، كافيتريا «أربان كيف» في مومباي. يتلقى العمال الطلبات ويصنعون البرغر والقهوة والبيتزا بأنفسهم. تتراوح أعمار العمال ما بين 20 و45، وكانوا يعانون من إعاقات متشابهة قبل الالتقاء للطبخ معاً.
جاء التحول في حياتهم كبيراً، وما ساعدهم على ذلك هو العون الذي يبديه ضيوف المكان. وفي هذا السياق، قالت فاندانا أندفاني وعائلتها، أحد زبائن المكان «لقد أدهشتنا المعاملة الدافئة التي تلقيناها، وسأكون سعيدة لو أنني عدت إلى هنا مرة أخرى للاحتفال بعيد ميلادي الأسبوع المقبل».
في السياق ذاته، قالت أشيتا ماهجان، مديرة «جمعية ياش الخيرية» التي افتتحت كافيتريا «أربان» من أموال التبرعات دعماً لذوي الإعاقات، «أحد الأولاد لم يتكلم من قبل، لكنه أصبح أكثر المجموعة ثرثرةً الآن، وإحدى السيدات لم تعمل من قبل، لكنها الآن تحمل بفخر حقيبة إلى المطبخ كل صباح شأن غيرها من النساء العاملات».
وشأن غيره من المطاعم والكافيتريات التي تقدم خدمات شاملة في الهند، والتي غيرت بالفعل من صورة البلاد، فإن الزائر لمطعم «ميرشاي أند ميمي» الذي يتسع لنحو 80 شخصاً سيلحظ أن العمال الأكْفاء البالغ عددهم 27 شخصاً جميعهم من ذوي الإعاقات السمعية والكلامية الذي يتطلب الحديث معهم الاستعانة بقائمة المصطلحات الموجودة مع كل قائمة طعام. وعلى قميص كل نادل في المطعم ستجد عبارة تقول «لغة الإشارة هي لغتي المميزة؟ ما هي لغتك؟».
يستطيع رواد المطعم ببساطة الإشارة إلى اختيارهم وعدد الأطباق عن طريق قائمة الإشارة الملحقة بقائمة الطعام التي تشمل الكثير غير الطعام، ومنها التوابل والملح وغيرها.
وبعد الانتظار قرابة 15 – 20 دقيقة، تظهر الأطباق على الطاولة إلى جوار قائمة الطعام، وفيما عدا ذلك تسير الأمور في المطعم كغيرها من المطاعم العادية.
وبحسب بارشانت إيسار، أحد شركاء مطعم «ميرشي وميمي»، فإن «الكثيرين منهم لم يعمل بوظيفة طيلة حياته نظراً لأن أبويهم تقبلوا فكرة بقائهما من دون عمل. لكن هناك آخرين يمثلون مصدر الدخل الوحيد لعائلاتهم».
وقال بارشانت إيسار، الشريك في ملكية المطعم، «عليّ أن أعترف بأن مفهوم المطعم مستوحى من فكرة ما. فقد جاءت الفكرة عندما كنت أتناول العشاء بمطعم سينغ بمدينة تورونتو الكندية». أضاف إيسار الذي تعلم لغة الإشارة «طاقم عملنا متفانٍ في عمله أكثر من غيرهم، وعلينا أن نستفيد من ذلك في 21 مطعماً يدار بالطريقة نفسها الصامتة. هناك مطعمان آخران في مومباي، والرابع في بنغلارو واخر في دبي وسنغافورة ولندن، بالإضافة إلى بعض المدن الهندية».
ولدى سؤالها عن خبرتها في العمل بالمطعم، قالت بريانكا سينغ، «نجوم التلفزيون والسينما يقدروننا كثيراً، ويحيوننا على الثقة التي نؤدي بها عملنا ونجلب لهم بها السعادة».
وبحسب تعداد السكان لعام 2011، تضم الهند 268 مليون شخص بإعاقات جسدية، غير أن تقديرات البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية قدرت الرقم بنحو 700 مليون. لكن للأسف، لا تحظى سوى بالتعاطف والشفقة وتعيش على هامش المجتمع.
وقد أقر حكم صدر عن المحكمة العليا بالحقيقة المقلقة، بأن المعاقين لا يزالون عاطلين عن العمل على الرغم من توقيع الهند «اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة». لكن الآن فإن قانوناً جديداً سنّته وزارة العدالة الاجتماعية والتمكين في 19 أبريل (نيسان) 2017، ألزم الدولة بتوفير فرص العمل لتلك الفئة المهمشة.
والآن، فقد تضافرت الكثير من العوامل لتغيير الوضع الراهن بأن أُجبر أصحاب رؤوس الأموال على توسيع نظرتهم للمجتمع وإعلاء القيم الأخلاقية. وبالفعل، بدأت ثمار ذلك المنحى تتجلى في أماكن مثل مطعم «نوكاد تيفي إن رابور» بشرق الهند، الذي يقتصر العمل فيه على الأشخاص ذوي الإعاقات السمعية والكلامية للقيام بأعمال مثل معرفة الطلبات من الزوار وسداد قيم الفاتورة وتقديم الأطباق.
الأغرب من كل ما سبق يتجلى في مطعم «ديالوغ إن ذا دارك»، وتعني «تحدث في الظلام»، بمدينة حيدر آباد، الذي يديره طاقم عمل من المكفوفين لزبائن يتحتم عليهم تناول الطعام معصوبي العينين.