حماس تخسر مليار دولار من تجارة الأنفاق

يتجاوز عددها 400 نفق

حماس تخسر مليار دولار  من تجارة الأنفاق
TT

حماس تخسر مليار دولار من تجارة الأنفاق

حماس تخسر مليار دولار  من تجارة الأنفاق

حولت العاصفة الثلجية التي ضربت الشرق الأوسط هذا الأسبوع، قطاع غزة إلى «فينيسا» جديدة، ولكن بمعايير جديدة، فسكان مدينة غزة اختاروا أن يستغلوا قوارب الصيد للانتقال من منطقة إلى أخرى، بعد السيول والأمطار التي اجتاحت المدينة أخيرا، في مشهد شبهه البعض بقوارب السياح التي تشق المدينة الإيطالية الجميلة.
كانت القوارب تعمل لإنقاذ آلاف المحاصرين في منازلهم جراء السيول التي هدمت منازل وأغرقت أخرى، وجعلت من القطاع بحرا كبيرا.
كان المشهد يختصر إلى حد كبير معاناة الغزيين، الذين لم يجدوا سوى «السخرية المرة» في مواجهة الواقع الأكثر مرارة، وهم يجربون من جديد كل أشكال الحياة البدائية، تحت «الحصار»، بلا كهرباء ولا وقود ولا ماء، بل غرقى في بحر مؤقت في مواجهة البرد، بعد 7 سنوات على حكم حركة حماس. كشفت العاصفة الثلجية، وهي الأقوى منذ سنوات طويلة، عن البنية التحتية الهشة في قطاع غزة، وزادت مأساة الغزيين مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل، وفقدان الوقود اللازم، وهي أزمة مستمرة منذ أكثر من 50 يوما.
بدأت أزمة حماس قبل شهرين بإغلاق مصر للأنفاق، وهو ما منع تهريب الوقود والبضائع والأموال، لكن ذلك ترافق مع تغييرات في ميزان القوى الذي بات يهدد شرعية حماس. ومع تواصل الأزمة وجدت الحركة نفسها في عنق الزجاجة.
وطالما مر حكم الحركة الإسلامية في أزمات مشابهة، لكنها كانت في كل مرة تخرج أقوى من قبل بفضل حلفائها الأقوياء في المنطقة، وقدرتها على توظيف «المقاومة» و«الحصار» بشكل جيد لكسب تعاطف الآخرين وكسر القيود المصرية والفلسطينية، ولكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفا.
ويمكن وصف الأزمة الحالية بالأسوأ في تاريخ حماس منذ منتصف 2006، بعدما ضحت الحركة بمعظم حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، وراهنت على الإخوان المسلمين فسقطوا، ثم خسرت مصر، ووجدت نفسها تحت «حصار» صعب، سياسي ومالي وإعلامي.
وتعكس الحالة المتردية للناس في قطاع غزة وضع حماس الصعب.
وتغط غزة طيلة 18 ساعة في اليوم في ظلام دامس بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما أدى إلى كوارث «ارتدادية»، إذ توقفت المضخات عن ضخ كميات المياه اللازمة للسكان، فيما أوقفت بعض المستشفيات عددا من غرف العمليات، والأقسام، بينما تتراكم النفايات وتزداد المكاره الصحية، جراء توقف عمل البلديات.
وتطال الأزمة الحالية كل قطاعات الغزيين تقريبا - إلا الأكثر ثراء - رجال الأمن، والطلاب، والصيادين، والأطباء، والصحافيين، وسائقي التاكسي، والمؤسسات، والوزارات، وجميع الموظفين، والعائلات في بيوتهم.
واستطلعت «الشرق الأوسط» آراء الكثير من أهالي القطاع الذين عبروا عن إحباط كبير بسبب «بدائية» الحياة وصعوبتها.
وقال صحافيون ومهندسون وأصحاب مصانع إنهم لا يستطيعون إنجاز أعمالهم بسبب الانقطاع المتواصل للكهرباء، فيما يضطر مئات الآلاف من الطلبة الفلسطينيين في غزة للدراسة على ضوء الشموع التي طالما جلبت كوارث بإشعالها حرائق أودت بحياة الأطفال.
وعبرت الطالبة في الصف العاشر، أماني أبو شنب، عن مخاوف حول مستقبل العام الدراسي بالنسبة لها بسبب انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة. وقالت لـ«الشرق الأوسط» إنها تضطر هي وأشقاؤها الصغار للدراسة على ضوء الشموع حتى وقت متأخر من الليل.
ولجأت عدة مدارس في القطاع لتركيب لوحات شمسية تعمل على تحويل الطاقة الشمسية إلى كهربائية، لكن هذه التجربة مكلفة للبعض، كما أن مردودها محدود للغاية في فصل الشتاء.
وقال هاشم أبو ريالة (32 سنة): «الأزمات باتت تخنقنا، وتضر كثيرا بالحياة العامة هنا». وأضاف: «في بيتي لا يوجد كهرباء ولا ماء، وقاربي الصغير توقف عن العمل بسبب نقص الوقود». وتابع: «نبدو عاجزين بصراحة».
وتابع: «أنا أسكن في مخيم الشاطئ، حيث يعيش رئيس الوزراء إسماعيل هنية، والمياه تنقطع لأيام طويلة. الأزمة تضرب الجميع هنا». وتقف جهات الاختصاص حائرة وعاجزة أمام شكاوى معظم الأهالي الذين يشاركون أبو ريالة مشاكله.
وقال نقيب الصيادين في غزة، نزار عياش، لـ«الشرق الأوسط»، إنه يحاول قدر الإمكان توفير كميات محدودة جدا من الوقود للصيادين لكي يتمكنوا من العمل وكسب رزقهم. «الأزمة عامة».
أما المسؤولون في بلدية غزة، فيبررون توقف آبار المياه عن العمل بسبب حاجتها الماسة لكميات كبيرة من الوقود يوميا لكي تتمكن من العمل وضخ المياه للأحياء المختلفة.
وقال مسؤول قسم المياه في بلدية غزة المهندس، رمزي أهل، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الآبار في مدينة غزة وحدها بحاجة إلى نحو 3 آلاف لتر سولار يوميا، ونحن لا نملك أي حلول الآن». وأضاف: «لا توجد أي حلول حتى في القريب. الأزمة ستتفاقم في الأيام المقبلة في ظل انقطاع الوقود، والسولار الاحتياطي المخزون لدى البلدية نفد بشكل كامل».
وتحتاج كل بلديات القطاع إلى 900 ألف لتر سولار شهريا لتشغيل مرافقها، وقف تصريحات لوزير الحكم المحلي في حكومة حماس، محمد الفرا. وأدى انقطاع الوقود إلى تعطيل عمل ما يقرب من 205 آبار مياه شرب و42 مضخة للصرف الصحي و4 محطات معالجة مياه للصرف الصحي و10 محطات مركزية لتحلية المياه المركزية، واضطرهم إلى ضخ 50 في المائة من الصرف الصحي دون معالجة إلى شاطئ البحر من خلال الكثير من محطات الضخ وخاصة غرب مدينة غزة.
وكان القطاع مقبلا على ما هو أسوأ من ذلك، إذ لمحت سلطة الطاقة وشركة الكهرباء في غزة إلى إمكانية تراجع عدد ساعات وصول الكهرباء إلى البيوت إلى أقل عن 6 ساعات يوميا. وحذر المسؤول في الشركة جمال الدردساوي، من عدم قدرة الشركة على السيطرة على برنامج 6 ساعات مع دخول فصل الشتاء.
وقال الدردساوي، لـ«الشرق الأوسط»، إن قطاع غزة يعاني من نسبة عجز في الكهرباء وصلت إلى 75 في المائة من نسبة الاحتياجات الفعلية، مؤكدا أنها مرشحة للازدياد إلى 80 في المائة مع دخول فصل الشتاء. وحذر الدردساوي من احتمالية انقطاع بعض الخطوط في حال دخلت المنطقة في منخفضات جوية. ويحتاج قطاع غزة، يوميا، إلى أكثر من 350 ميغاواط، ويستورد من الجانب الإسرائيلي بقيمة 120 ميغاواط، و17 ميغاواط من الجانب المصري، فيما تنتج محطة توليد الكهرباء المحلية ما قيمته 80 ميغاواط، بعجز متفاوت قد يصل إلى 150 ميغاواط. هذا مع وجود الوقود المصري رخيص الثمن. أما اليوم فتوقفت المحطة نهائيا عن توليد الطاقة.
وكانت المحطة تستهلك نحو 400 ألف لتر وقود حتى تولد الـ80 ميغاواط، أما الاحتياجات الأخرى في القطاع فتبلغ 100 ألف لتر يوميا من البنزين والسولار والمازوت.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل توقفت أجهزة غسل الكلى وحاضنات وغرف عمليات في بعض المستشفيات جراء نقص الكهرباء. وحذرت وزارة الصحة في حكومة حماس من نفاد مخزونها الاحتياطي بشكل كامل، ما يعني توقف كل المستشفيات والمرافق الصحية عن العمل، وخاصة أجهزة غسل الكلى وحضانات الأطفال الخدج وغيرها، كما اشتكت من نفاد كميات كبيرة من أنواع الأدوية بسبب إغلاق المعابر.
وكانت «شبكة المنظمات الأهلية» ومنظمات حقوق الإنسان في قطاع غزة حذرت من تدهور الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، مبدية قلقها البالغ من تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي التي تؤدي إلى الاقتراب من «حالة الكارثة الإنسانية، وتمس بشكل خطير بكل المصالح الحيوية للسكان، بما فيها خدمات المياه والصحة البيئية، وخدمات التعليم وكل الخدمات الحياتية اليومية الضرورية».
لكن تدخلا قطريا عاجلا بعد نداءات استغاثة أطلقتها السلطة الفلسطينية وحماس وجامعة الدول العربية، نجحت في التخفيف من حدة الأزمة.
واستأنفت محطة توليد الكهرباء في القطاع، هذا الأسبوع، عملها بعدما سمحت إسرائيل بإدخال كميات من الوقود الصناعي، للقطاع، عبر معبر كرم أبو سالم، كما سمحت بدخول بضائع أخرى، وقالت إنها مددت فترة فتح المعبر لاثنتي عشرة ساعة بدلا من ست ساعات. ويعتقد أن ذلك سيتواصل في الفترة المقبلة.
وسمحت منحة قطرية بشراء الوقود، بعدما خصصت لدفع ضريبة الوقود.
واتفقت القيادة القطرية مع الفلسطينية على شراء الأخيرة للوقود والتنسيق وإرساله إلى غزة لمدة شهر كامل، على أن تحول قطر ما قيمته 10 ملايين دولار، بدل قيمة الضريبة، على كمية الوقود، التي كانت محل خلاف بين السلطة وحماس.
ولا تنهي كميات الوقود التي دخلت إلى غزة الأزمة هناك، لكنها تخففها إلى حد ما. وأعلنت سلطة الطاقة والموارد الطبيعية بغزة أنه سيجري تشغيل محطة توليد الكهرباء وإدخالها إلى الخدمة بشكل تدريجي، حتى تعود إلى جدول التوزيع السابق بواقع 8 ساعات وصل، و8 ساعات قطع، وبشكل دوري. وبدأت أزمة حماس عندما سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وأحكم الجيش المصري قبضته على الحدود وأغلق الأنفاق بين مصر والقطاع.
ولا يمكن فصل المنحى السياسي عن أزمة حماس في القطاع، ليس بسبب اتهامها فقط بالتدخل في شؤون مصر، وما قابله من ردة فعل مصرية، ولكن لأن الحركة أيضا رفضت التعاون مع السلطة في رام الله وتبادلتا الاتهامات فوق ذلك.
وتجد حماس صعوبة الآن في ترويج أن ما يحدث لكم (أي للناس) هو «جراء المقاومة» وبفعل «الحصار» الإسرائيلي، خصوصا أن الحركة ما توقفت لحظة عن دعم نظام الإخوان المسلمين في مصر بعد سقوط الرئيس المعزول محمد مرسي بشكل علني ومستفز، كما اتهمت من قبل جهات أمنية وسياسية مصرية، وحتى عبر حركة فتح الفلسطينية بالتدخل في شؤون مصر عبر سيناء.
ولم يطل رد مصر الجديدة، فأغلقت الأنفاق ومنعت تهريب الوقود والبضائع، وجمدت إلى حد كبير العلاقات مع حماس. ويعتقد مراقبون الآن أن حماس تدفع ثمن قراءتها الخاطئة لتطور الأحداث، منذ خسرت سوريا وإيران وراهنت على نظام الإخوان.. من ثم استعدت النظام المصري الجديد.
وفي أقل من عام واحد، خسرت حماس كل الحلفاء: سوريا وإيران والإخوان ومصر، فيما يحدث تغيير بطيء في السياسة القطرية التي طالما راهنت عليها حماس. واليوم لا مال يجود به الحلفاء، ولا أنفاق يمكن من خلالها إنعاش الحركة.
وثمة جدل كبير الآن حول ما إذا كانت حماس قد وقعت في أزمة «تعريف نفسها من جديد».
وخلال الأشهر القليلة الماضية ظهرت إشارات متناقضة لمواقف مسؤولين في الحركة. ظهر البعض أنه مع الإخوان ثم عاد البعض وأظهر رغبة في التقرب من مصر الجديدة، فيما خفف آخرون لهجتهم تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، وراح مسؤولون من الخارج يحاولون من جديد مد الجسور مع إيران.
ورصد مركز «كارنيغي» الأميركي لـ«الشرق الأوسط» تراجع شعبية حركة حماس التي تحكم قطاع غزة، مشيرا إلى أنها تواجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد قبضتها على حكم القطاع.
وقال المركز: «إن حظوظ حماس قد تبدلت في عام واحد، حيث تلقت حماس ضربة بسبب الإطاحة بالإخوان المسلمين من حكم مصر، وعزلت عن العالم، في الوقت الذي تواجه فيه تهديدات داخلية وخارجية، وبينما تتفاقم الأوضاع الاقتصادية في غزة، يزداد شعور قادته حماس بالبارانويا ويجدون صعوبة متزايدة في الحكم».
وتحدث التقرير عن محاولات حماس التكيف مع التغييرات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة من حولها، وعجزها عن إعادة تعريف نفسها وسط هذه التحولات الإقليمية الكبرى، وسط تزايد التململ الشعبي وخسارتها الداعمين الأساسيين في المنطقة، وهو ما يعرض للخطر قدرتها على مواصلة حكم قطاع غزة.
ويرفض قادة حماس هذا التوصيف، ويصرون على أن حركتهم قادرة على تجاوز الأزمة، غير أن مفكرين في حماس وغيرها كان لهم موقف مخالف، إذ دعا القيادي المعروف في الحركة يحيى موسى، حركته إلى التحول إلى «حركة تحرر وطني فلسطيني»، وأن لا تبقى هياكلها التنظيمية وأطرها المؤسساتية أطرا تنظيمية إخوانية (الإخوان المسلمين).
هذه الدعوة لإعادة تعريف النفس، تبناها ودعا إليها الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، الذي يرى أنه لم يعد أمام حركة حماس هامش مناورة كاف كما كان عليه الحال سابقا، وكتب يقول: «هناك مخرج مضمون لحماس، لكن يبدو من الصعب أن تلجأ إليه، لأنها تأخرت في اعتماده، وكان يجب أن تستعد له مبكرا حتى في ذروة صعود الإخوان المسلمين، وهو إقامة مسافة كافية بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، وأن تكون جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر مما هي امتداد للجماعة. هذه المسافة ضرورية لأنها تستجيب لخصوصية القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني تحتاج وتستطيع الحصول على دعم عربي وإسلامي وإنساني وتحرري على امتداد العالم، ولا يجب أن تحسب نفسها على تيار واحد، بينما هي تستطيع الحصول على دعم جميع التيارات».
وأضاف: «إن المخرج الوحيد المتبقي هو أن تبدي حماس استعدادا جديا وحقيقيا أو تستجيب لمبادرات تدعوها إلى التخلي عن السلطة في غزة، مقابل شراكة سياسية حقيقية في السلطة والمنظمة، ولو اقتضى الأمر اتخاذ مبادرات منفردة في هذا الاتجاه، مثل الاستعداد لنقل السلطة في غزة إلى (هيئة وطنية موثوقة) وليس دعوة الفصائل إلى مشاركة حماس في السلطة؛ تمهيدا إلى الشروع في حوار وطني شامل يستهدف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية في سياق إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية من خلال إعادة تعريف المشروع الوطني وإعادة بناء التمثيل والمؤسسة الوطنية الجامعة التي تمثلها منظمة التحرير».
لكن هذا الخيار (أي المصالحة) يبدو الآن في «الثلاجة».
وعلى الرغم من أنه ليس من السهل أن تنهار الحركة الإسلامية في غزة، فإنها دخلت في نفق طويل. وأقر المسؤول الحمساوي غازي حمد بصعوبة الأزمة التي تمر بها حماس، وقال إنها خسرت الكثير من الدعم المالي وما زالت تبحث عن مخارج لذلك.
غير أنه لم يشر إلى حلول يمكن أن تلجأ لها حماس أو كيف تتدبر أمرها. ومع إغلاق «منابع» الدعم الكبيرة، تتلقى الحركة اليوم دعما أقل من قطر وتركيا، لكنه لا يكاد يسد حاجات «الحكم» الذي وصفه يوما رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، بالورطة.
* ماذا خسرت حماس من إغلاق الأنفاق؟
> لم تكن مئات الأنفاق المحفورة تحت الأرض بين غزة ومصر مجرد أنفاق للتهريب وحسب، بل اتخذت هذه الأنفاق صفة المعابر الرسمية، لكنها معابر تحت الأرض، وتحولت مع الزمن إلى مصدر كبير للرزق والثراء، ودخلا مهما لخزينة الحكومة الحمساوية المقالة هناك أيضا.
وكان يدخل عبر هذه الأنفاق يوميا آلاف الأطنان من الوقود والسلع والبضائع المختلفة والأدوية، ومواد البناء، مثل الإسمنت والحديد، هذا غير تهريب السيارات والسجائر. ولا يعرف عدد دقيق للأنفاق، لكن مصادر مختلفة تقول إنها قد تصل إلى 400 نفق رئيسي، وأكثر من ألف فرعي.
والأنفاق متنوعة؛ أنفاق خاصة تابعة لحماس وأنفاق عامة للآخرين. ويكلف حفر النفق الواحد نحو 80 ألف دولار، بحسب حجمه وطوله، وإذا ما عمل بشكل متواصل فقد يصل دخل النفق الواحد إلى 150 ألف دولار في اليوم.
وقال مصدر فلسطيني مطلع لـ«الشرق الأوسط»، إن «أنفاق حماس تخص الحركة، يعمل فيها رجال محسوبون عليها، وتكون خاصة بتهريب وإدخال ما يخص حماس: سيارات، سلاح، وما شابه، ويتحرك منها رجال حماس أيضا». أما الأنفاق العامة، حسب المصدر، «فهي ملك أشخاص عاديين، ولهم شركاء أحيانا مصريون من البدو، وهذه تخضع لإشراف حماس وتخصص للبضائع والسلع».
وشكلت حماس في الأعوام السابقة لجنة خاصة للأنفاق، مهمتها الإشراف عليها وتحديد الضريبة المناسبة على كل بضاعة مهربة وجنيها من أصحاب هذه الأنفاق. وأعطت هذه اللجنة للأنفاق صفة الشرعية.
وتراقب هذه اللجنة وترصد كل النشاطات والتحركات، وتضع مراقبين على بوابات الأنفاق، وهي مختصة بمنح تراخيص لفتح أنفاق جديدة، وهذه تتطلب قدرة من المتقدم على الوفاء بالتزامات مالية كبيرة، وكثيرا ما قبلت اللجنة منح تراخيص لأنفاق جديدة، وكثيرا ما رفضت ذلك.
وتقدر مصر حجم تجارة الأنفاق بمليار دولا سنويا، بينما يقدرها خبراء اقتصاد في غزة بأقل من ذلك بقليل.
ولكن لا يعرف بالضبط كم تجني حماس من هذه التجارة، وقالت مصادر لـ«الشرق الأوسط» إن ذلك «بحسب البضائع»، وأضافت: «بعضها تفرض عليه ضريبة مقطوعة على الكيلو أو القطعة، وبعضها على الطن». وأضافت: «كانت تتقاضى نحو نصف دولار من أصل 80 سنتا هي سعر لتر البنزين عن كل لتر، و8 سنتات عن كل علبة سجائر، و15 دولارا عن كل طن حديد، و10 عن كل طن إسمنت». وتابعت المصادر القول: «بعض السلع مثل السيارات تفرض عليها ضريبة تصل إلى 25 في المائة، و2000 دولار على كل سيارة بدل إذن دخول». وهذا سار على أي بضائع تدخل إلى غزة، بما فيها الملابس واللحوم والعصائر وغيرها. كما تقتطع ضريبة من دخول العمال في الأنفاق.
وقدر مراقبون أن تجارة الأنفاق كانت تسهم بـ15 في المائة من ميزانية حماس، فيما تحصل على دخل آخر من خلال الضرائب التي يدفعها الناس، ناهيك عن الدعم الذي كانت تتلقاه من إيران وسوريا.
غير أن ذلك كله توقف الآن بانتظار كيف ستعيد حماس صياغة الموقف.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».